ذات حلم

هيفي الملا

نفقٌ طويلٌ عميقٌ أنزله عبرَ درجٍ متهاوٍ، خطواتي مترددة وعيناي ذاهلتان وتوازني غير مستقر وكأنني خارج الوجود أو منفية عن لعبة الزمن، شدتني لوحةٌ كبيرةٌ معلقةٌ في مدخل هذا النفق معنونة ب /أدباء… ولكن/ ماهذا العنوان؟ وماهو هذا النفق الطويل الذي لا أرى له نهاية وكأنه حكاية الزمن؟ 
اقتربتُ وأنا أسمعُ جلبةً وضوضاء في النفق المؤلف من حجرات متفرقة ولكن متجاورة، وكل حجرة تحمل اسماً، كعيادات الأطباء التي تحمل أسماءهم واختصاصاتهم.
امتلكني الفزعُ حد الغثيان وعدم التصديق من الحجرة الأولى، وأنا أرى / بلزاك/ محموماً، يكتب باستماتةٍ و بجانبه دلو كبيرٌ من القهوة يجترعها كوباً إثر آخر ، ليقول لي :لم اتحركْ من مكاني منذ عشر ساعات أو أكثر وأنا أكتب، ولن أتحركَ إلا لقضاء حاجةٍ أو جوعٍ شديدٍ قد يلمُ بي، فالكتابة حمى لاترحمني . 
فضول الخطوة يوصلني للحجرة الثانية، ولااكتمُ ضحكتي وأنا أرى /فيكتور هيجو /عارياً تماماً فخاطبني : لاتستغربي هذا طقسي الكتابي، ثم يجبُ عليَّ أن أفرغَ من كتابة /أحدب نوتردام / وبالطبع أن كنتُ عارياً فلن  يتسنى لي الخروج، وسأنهي عملي في وقته.
حجرةٌ أخرى دفعني صراخ الكاتب إليها /أنا منبوذٌ /أنا فرخُ البطِ القبيح/ كان هاروكي موراكامي 
ليناديني العقادُ بعدها، ذلك الأديب الذي همس لمي زيادة بلوعة حبه، ورفض كسرها حتى ولو في اللغةِ ، امتعضتُ وأنا أراه في البيحاما/لبس البيت والنوم/ قائلاً لي : لا أستطيعُ كتابة حرف إلا وأنا بها.
وحجرة أخرى يمشي فيها ميكافيللي ويقرأُُ على نفسهِ وبصوت عالٍ ماكتبهُ ليقول لنفسهِ ممتناً :/نعم هذا جميل، أنا راضٍ عما كتبته/
لتضحكَ الأدبية التشيلية / إيزابيل الليندي /لاتستغربي أنا  أيضاً مثلهُ، فكل ما أكتبهُ اقرأهُ على نفسي وبصوتٍ عالٍ، ثم أحكمُ عليه بالرضا أو الرفض. 
لم استغربْ رائحةَ القهوة التي تفوحُ من حجرة محمود درويش، وهو الذي قالها مراراً لاأريدُ شيئا إلا القهوة، يكتبُ بأناقةٍ بقلمِ حبرٍ سائل قائلاً : لم يجذبني الحاسوب للكتابة بعد، وأسعدُ بدبيب القلم على الورقة وكأنهما في حالة انسجام وتناغم مابين الأفكار الهاربة من ذهن مبدع، لتجعل منها الورقة البيضاء فراشات ملونة حرة .
في آخر ركنٍ من تلك الحجرات مقهى صغير ربما أُعِدَ خصصياً لنجيب محفوظ، وأنا أراه يجلسُ منكمشاً على نفسه يدخنُ بشراهةٍ وما أكثر الشخصيات والأفكار التي يستقيها هنا من أحوال الناس وحكاياتهم العابرة في المقهى. 
دخانُ السجائر الكثيف تحولَ لضبابٍ رمادي خانق، ولفني وأنا ممسكةّ رأسي بتعبٍ، أمشي متثاقلةً وعلى غير هدى، ولكني 
لم أرغبْ في العودة قبل أن التقي بأسماء أخرى، وأعرف أشكالهم وطقوسهم، وكيف يولدون نصوصهم وكيف تحلقُ أفكارهم عابرةً الزمان والمكان،وكيف تُجهضُ بعضها وكيف تناقض بعضها سلوك وثقافة صاحبها!!! 
أه نعم هنا، كاتبٌ أنيقُ الحديثِ والهيئةِ يحدثهُ شخصٌ واثقٌ من نفسه نعم ولكن لايحترفُ الكتابة بقدر مايحاول دخول مجالها والسير في شعابها، وإلى من قد يمضي الهاوي إن لم يكن إلى المحترف!!! ومع من سيأمن على مفاتيحِ حيرته غير الكاتب الملتزم بمسؤولية الكلمة ودورها، أتأملُ الشاب الخجول وهو يسلمُ المؤلفَ كلماته المتناثرة والنقية كندى الورد، فيقول  المحترف : هذا جيد  ولا أملكُ أكثر من قولي هذا، فعالمي يضجُ بالمبدعين والمشاهير والألقابُ تتزاحمُ فيها، فكيفَ اعلقُ نجمتك الصغيرة بين كواكبي السيارة!!! 
فزعتُ عندما تحول الكاتب في لحظاتٍ لصنمٍ متحجرٍ غير ناطق، والمبدع الصغير يخدش بأظافره تفاصيل وجهه مابين بسمة ودمعة. 
تحررتُ من وطأة ذلك المشهد الحزين لأمضي لشاعرةٍ جميلةٍ،  أحببتُ همس الروح في كلماتها ونبض اللغة والقضايا التي تعالجها، بادرتها بالتحية وتحدثنا،  ولكنها كانت في عالمٍ وعالمها الكتابي في أخر، أين أدواتها التي تستخدمها في الكتابة، أوليستْ الكلمةُ تولدُ من رحم الإحساس أو الفكرة أو المعلومة أو التجربة، كانتْ ضحلةَ اللغة والتعبير فكيفَ يتدفقُ ينبوعُ كتابتها، ويخونها التعبيرُ في الكلام واستحضار المعلومات، واللسان عندها غير القلم وكلٌ منهما في عالم مختلف .
فما أشدَ مافضحهُ هذا النفق المعتم لي من تناقضات! 
 لتكن هذه الحجرة الأخيرة التي أدخلها وهذا يكفي،
كاتبٌ يكتبُ لهُ ولها يغمسُ ريشتهُ في محبرة كلماته لتخرج حُبلى بكلمتين واحدةٌ له وأخرى لها، فتنتج هذه الأديبة  وتطبعُ أفكاراً لاتشبهها ولغة قد تجهل بعض معانيها، ولكن لا بأس مادام ارتضتْ أن تلعبَ حافيةً القدمين لعبة الغميضة بين سطور صديقها الكاتب .
وحجراتٌ مقفلةٌ على أصحابها ترددتُ قبل أن ألجها لأنني وعدتُ نفسي بالنهاية، ابتسمتُ لكاتبٍ يعلقُ قصاصات أوراقه على الحائط وكل قصاصة فكرةٌ في عمل واسمٌ لشخصية جديدة، ابتسمَ ودون مكابدة عناء أي سؤالٍ لي قالها : اقرأي كثيراً واكتبي قليلاً، وثوب الكتابة الفضفاف اليوم سبغدو على مقاسك غداً، أنتِ اليوم محملةٌ بكل ما في عالمنا من طقوس وتناقضات وحمى كتابة ، نحن شخوصٌ عاديون جداً، اقرأي لنا ولكن لاتقدسي أحدنا، ابحثي في أقوالنا وأفكارنا وفلسفاتنا ولكن لاتنحتي لأحدنا التماثيل، اقتبسي أفكارنا لكن لاتعتنقيها، استنبطي نظريتنا لكن لا تدافعي عنها حتى التحقق من مصداقيتها بالتجريب، املأي جعبتك وسلالك الفارغة عنباً وتين، ولكن افرزي بعد ذلك موادك بما يلائم تفكيرك انتِ ونظرتك انتِ،  لأنك سيدةُ أفكارك، لأنك القارئة!!!! 
اكتفيتُ بأخر ماسمعته، وشددتُ وثاقَ رحلتي للعودة من وادي عبقر العجيب الذي يستحضرُ فيه الكُتاب الجن للكتابة.
محملةً بكل ماشاهدتهُ من الطقوس و التأملات والرؤى والخيال الجامح والتناقضات .
 لامسَ خيطُ الصبحِ جفوني، لاستيفظَ بعد نوم عميقٍ أثقل بدني، وفي رأسي تتماوج افكارٌ جديدة وقلبي يضخ الدم   بقوة، داعياً كل جزء في جسدي للحياة بعد يوم طويل من التشتت والدهشة، وبعد حلم أنهك قواي . 
وعلى كراسةٍ صغيرةٍ كانت نائمة بهدوءٍ على صدري بدأتُ أكتب دون سابق تفكير واستحضار . 
أن رحلة البحث عن الكمال أكذوبةٌ، وحالة الانفصام موجودة في الحياة في تعاقب كل زمن،  والتناقضات قد تعبرُ عن جوهر الشيء، وورشة الكاتب والقارئ الإبداعية تكمن في فهم هذا التناقض ورسم ملامحه بما يخدم ويحفز لا العكس .
وطالما الشمس تشرقُ كل صباح ودورة الزمن مستمرة، فالأقلام تغوي بالكتابة لتأييدٍ ربما أو للفضح والتنديد أو لتحقيق مصلحة شخصية أو للدفاع عن معتقد أو لبث لوعة الحب والوجد، أو التذمر من أسباب الحياة وعللها . 
قد يناقض الفكرة وقد يؤيدها قد تشد القارئ وقد تنفره، ولكن القارئ موجود، وسيلُ الكتابةِ متدفقٌ لا محالة مادامت الكتابةُ حاجةً وتولدُ من رحم فعل إنساني، فما أروع أن تعكس صورة صاحبها وتلامس ذاته دون تزييف وتحريف وتشويه وتصعيد فكرة وقتل أخرى، حتى لاتتوه أليس العنيدة في بلاد العجائب أكثر وهي تعدو وراء فكرتها الضالة.
وحتى تبتسم بشغفٍ وهي تتذكر تفاصيل حلمها  الطويل مع أناسٍ تعرفهم ولاتعرفهم .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…