ماركس في هانوفر

عبداللطيف الحسيني/هانوفر
الليلةَ أحتفلُ بالسنوات السبع التي مرّت على تغريبتي وبالسنوات الأربع على وجودي المُرّ في هانوفر التي تماهيتُ معَها,قطعتُ الدنيا لألتقي بعامودا الثمانينيّات حيث يزورُني ماركس يتلو عليّ مقاطعَ من رأس ماله, أصوّب له أخطاءَه في الإملاء والنحو, أحياناً أضخُّه بالأفكار التي رآها في أحلامِه فأذكّرُه بها ليشكرني. أبحثُ عن غيفارا في هانوفر فلا أجدُه غيرَ أنّ حانةً تبرّكت باسمه يجتمعُ فيها ماركسيّو حارتي نشربُ معاً نبيذاً فاسداً ونتحدّثُ عن كلّ شيءٍ بكافّة اللغات دونَ أن يفهمَ أيٌّ منّا أيّاً آخرَ.
رأيتُ ماركس يتجوّل في أزّقة هانوفر حاملاً المعذّبين, ويشربُ النبيذ الرخيص ويرقصُ معَهم في وسط الشارع وحين يستبدُّ به الطربُ يتأبطُّ مراهقةً يحدّثُها في أُذنها ويمشي بها إلى كشك صغير في زاوية الحارّة يشتري لها دخاناً وخمراً, دعوتُه لمنزلي بعدَ أن ساء هواءُ المدينة فلا أقوى أن أتنفّسَه,وتسمّم الماءُ فلا أكرعُه بكفّي.
وحدي أعيشُ ملءَ حياتي, أُلاعبُ الأشباحَ وأراقصُهم, كما تراقصُ أنتَ الفقراءَ الذين تبحثُ عنهم في حلكة الليالي, مثلُكَ أردّدُ:لن أرتاحَ في هذا الكون التعيس مادام فيه معتقَل أو جائع.
زرتُه في منزله بضواحي لندن التي لا تكادُ تُرَى.. تكاد أن تختفي بينَ الضباب والثلوج والأمطار… أكادُ أختفي معَها,قلتُ له: مثلُك أنا… كان لي بيتٌ فصارَ الآن مأوىً لسوانا, وكان لي نهرٌ ألتقطُ منه الأسماكَ,وأبتهجُ حينَ أرى من بعيدٍ الفتياتِ يأتينه مغنّياتٍ, مثلُك بتُّ مشرّداً في برلين وباريس ولندن.
……….
أفضل التقارير تلك التي يكتبُها عنّا المخابرات والمخبرون وصغارُ الكسبة, أستعيرُ هذا التقرير عن ماركس من سعدي يوسف:
 إن ذكاءه المتفوق يمارس تأثيراً لا يقاوَم في ما يحيط به  في حياته الخاصة، لا يحبّ النظام، مريرٌ، وسيّء المزاج. إنه يحيا حياة الغجريّ، حياة مثقفٍ بوهيميّ، أمّـا الإغتسال والـمَشط وتبديل الثياب فلا يكاد يعرفها إلا نادراً . يستمتع بالشراب . وهو في الغالب لا يفعل شيئاً أياماً وأيّـاماً، لكن إن كان لديه عملٌ يؤدِّيه اشتغلَ ليلَ نهارَ في مثابرةٍ لا تكِـلُّ. ليس لديه وقتٌ محددٌ للمنام والإستيقاظ . وغالباً ما يسهر الليلَ كلَّـه، ثم يتمدد على الأريكة بكامل ملابسه حوالَي الظهيرة، وينام حتى المســاء، غير عابيءٍ بحقيقة
أن العالَـمَ يتحركُ جيئةً وذهاباً في غرفته .
زوجته امرأةٌ مهذّبةٌ لطيفةُ المعشر، عوّدتْ نفسَها على هذه العِيشة البوهيمية ، حبّـاً بزوجها، وهي مرتاحةٌ الآنَ تماماً في هذا البؤس. لديها ابنتان وولدٌ ، والثلاثة حسنو الهندام حقاً، وعيونهم ذكيةٌ مثل عيني أبيهم. ماركس، زوجاً وأباً، أفضل الرجال وأرقُّهم، بالرغم من شخصيته القلِـقة. يعيش ماركس في حيٍّ من أسوأ أحياء لندن أي من أرخصها. لديه غرفتان. إحداهما تطلّ على الشارع وهي الصالون، غرفة النوم في الخلف . وليس في الشقّة كلها قطعة أثاث ثابتة نظيفة. كل شيءٍ مكسورٌ، مهتريءٌ وممزّقٌ ؛ وثمّتَ طبقةٌ ثخينةٌ من الغبار في كل مكانٍ. وفي كل مكانٍ أيضاً الفوضى العظمى.
وسط الصالون طاولةٌ ذات طرازٍ عتيقٍ مغطّـاةٌ بمشمَّـعٍ. على هذه الطاولة مخطوطاته ، وكتبه وصحفه، ثم دُمى الأطفال ، وأدوات زوجته للترقيع والخياطة ، مع عددٍ من الأكواب مثلومة الحافات ، والملاعق القذرة،
والسكاكين والشوكات والمصابيح، وهناك محبرةٌ ، وكؤوسٌ ، وغلايين فخّار هولندية ، ورماد تبِغٍ – أي أن كل شيء على أسوأ حالٍ، وعلى الطاولة إيّـاها. إن أدنى الناس سيرتدُّ خجِلاً من هذه المجموعة المرموقة .
حين تدخل غرفة ماركس ، يدهمك الدخان وأدخنة التبغ حتى لتدمع عيناك كأنك تتلمّس طريقك في كهف .
وبالتدريج ، تعتاد عيناك على الضباب، وتبدآنِ تميِّـزان أشياءَ قليلةً . كل شيءٍ قذرٌ مغطّى بالغبار . والجلوسُ
خطِــرٌ . أحد الكراسي له ثلاث أرجلٍ فقط . وعلى كرسيّ آخر صادفَ أنه متماسكٌ يلعب الأطفال لعبة
الطهي . هذا الكرسيّ يقَـدَّمُ إلى الزائر ، لكن طهي الأطفال يظل في مكانه . إنْ جلستَ ضحّيتَ بسروالك.
لا شــيء من هذا يضايق ماركس أو زوجته . أنتَ تُستَقبَلُ خيرَ استقبالٍ . ويقَدّمُ لك الغليون والتبِغُ وما سوى ذلك بكل كرمٍ ، كما أن الحديث اللطيف المفعَم بالروح كفيلٌ بالترميم الجزئي للنواقص . بل أن المرء
ليعتاد العِشــرةَ ، ويرى هذه الحلْـقةَ مثيرةً للاهتمام وأصيلةً . ها هي ذي الصورة الحقيقية للحياة العائلية
للزعيم الشيوعيّ ، ماركس. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…