ناصر نعسان آغا يوقظ الريح في جهاتها المختلفة

غريب ملا زلال 

بحركات غير معزولة و غير مبهمة ، بحركات ممتلئة بالإمكانات الفاصلة بين الأشياء و تاريخها ، الممتلئة بالمكان و حالاته يخط ناصر الآغا ( 1961 ) سلسلة أنساقه الحاملة لمشروعه الجمالي و يرفع النقاب عنه رويداً رويداً حتى يأخذ مكانه الأنسب دون إنتظار و دون تكسير الزمن ، فهو يرسم سكون المدينة و وجعها ، سكون حلب و خرابها و ما آلت إليها حتى باتت وكأنها بوجه آخر تماماً على غير ما يعرفها الآغا الذي يبقى وفياً لها و هي في حالاتها كلها ، حالات تملك كل الفعل و المعنى ، تملك الكثير من الحياة التي كانت و الكثير من السواد الذي بات يخيم عليها كإدراك إحتمالي لمفاصلها الصوتية و التي يمكن الكشف عن وجائعها من خلال الكشف عن وقائعها البصرية بوحداتها الدالة على البعد السردي لوضعياته الإنسانية / المكانية غير المحدودة و غير الخاضعة لأي هدير قادم من نزيف الحجر ، 
فالرؤيا عنده نبوءة تنطقها عرافة مجوسية بوحي تستلهمها كشاهدة على يوم آخر فيه تمشي المدينة نحو الهاوية ، فالأزقة و السقوف التي يرسمها الآغا كانت مشرعة للريح ، و الآن للهجرة و التيه ، فكل محاولاته الجليلة والشجاعة التي يتصف بها هي في النهاية لم شمل لكل ما يبعث على الأمل ، فالألم معدن صدىء أصابت المدينة ( حلب ) كلها ، من بيوتها لأسواقها ، من قلعتها لأبوابها ، وهنا الآغا لا يغفر للسحب الكثيرة التي مرت على المدينة وشاركت في كل هذا الخراب ، بل يجمع أشلاءها علّه يكون قادراً على إستيقاظها ، و البحث بين مفرداتها التي كانت تشكل جملتها المفيدة ، و إعادة القبلة بين كائناتها ، تلك الكائنات التي أصابتها الذهول أمام الطوفان الذي بلع مدينتهم ، كائنات باتت حياتهم أشبه بأسطورة نزحت من التاريخ إليهم .
الآغا يعشق حلب بجنون ، بل يجعلها تعويذة يغطسها بشهيقه وزفيره ، بها يوقف نزيفه ،و بعشقه يوقف نزيفها و يحمي ما تبقى منها بمشاهده البصرية ، فهو المسافر إليها في كل حين ، بل في كل لحظة ، يمكث فيها و إن كان خارجها ، بل تمكث هي فيه أينما حل ، ولهذا ليس غريباً أن تكون حلب هي لوحته الأهم والتي سيشتغل عليها طالما بقي في قلبه نبض ، اللوحة التي لن تنتهي ، حلب تحضر في كل أعماله ، بصخورها المطفأة ، بجدرانها الحزينة ، بأزقتها التي إستراحت من الضجيج الكبير ، بأبوابها المنكسرة على سبيل الإختطاف ، حلب بكل مقاطعها الزمنية تكاد تشكل سيمفونيته التي يعزف عليها على طول الخط ، و هذا يعني أن الآغا و بمفارقات رؤيوية يتوخى الطابع الإجرائي المقترن بالتمكين من الوصول إلى حالة مقاربة من المعنى الكلي لمفهوم البعد الشمولي ، ففي حوزته تجارب تنطوي على معالجات لمحاولات بها يسعى الآغا لرسم مساره الإبداعي و دراسة هذا المسار بحكمة ، لا كمحطات لونية يزخر بالتعقيد و غياب التفاصيل ، بل بحكمة بها يمتلك التحكم بمستوى آفاقها ، وكذلك في كل حركة من حركاتها ، كما في كل شكل من أشكالها ، فالتأملات في دلالاتها الفنية يمكّن الآغا من رسم تلك الحكمة بين روح المدينة و عاشقها ، بين زمن كان يصدح بالقدود و المقامات و الحب وزمن يصدح بالصراعات و الدم و الحقد ،فيوقظ النائم في فضائه المعرفي و كذلك في فضائه الموضوعي حتى تكتمل إنفعالاته بأضلاعها المألوفة ، و الأهمية لتلك التي قد تكون إجابات لأسئلة في خاناتها البحثية التي ستدفع الفهم السائد بضروراتها الموضوعية نحو التباين في الطرق المتبعة و المعتمدة للوصول بتعبيراته المختلفة إلى الحيثيات المتعددة دفاعاً عن حدائق ذبلت فيها و فينا .
الآغا يسرد وقائع المدينة ( حلب ) و القديمة منها على نحو أخص ، تلك الوقائع التي لا تقل غرابة عن تلك الوقائع المغلوبة على أمرها والشبيهة بتلك الحاضرة في قصص الأولين ، و التي تتصف بتداعيات فيها من الخيال والتخيل الكثير ، و التي ترتكز على ضروب من الميتاورائي لتعطي البيوت الإنتماء الذي كان و الذي سيكون ، هي دعوة لكشف الينابيع المروية بالدمع و الإنسان ، دعوة لكشف ظلال الجدران المبللة بالصبر و إثبات الذات ، بعيداً عن تفاصيل اللحظة ، وعن صخب الكلمات ، فهناك ثمة أشياء تحتاج إلى التأمل بعمق شديد لم ترسم بعد .
بتوازن إيجابي بين أنساقه الجمالية في صيغها التعبيرية و رصانةً تكويناتها يؤكد الآغا بأن مجمل طروحاته الفنية تعني الإستمرارية و كذلك تعني أن تجاوراته اللونية بما فيها تلك التي قد نستلذ بتناقضاتها هي تجاورات تسعى بجدية نحو خلق تقاليد تنبض به و تستمد مكانتها من طريقته في إشعال تجربته بمناخاته و عيونها ، فبعودة الآغا وبتصميم يتوافق مع سردياته و تحركاتها إلى مقاربات معرفية لإثبات أهمية تبايناته وعتباتها يجعله يعترف بأن فضاء كثيفاً من ذاكرته السرمدية / اللازمانية لا بد أن ينظم الطريق ومتنه مفصلاً دعائم مخازنها و محتوياتها .
ذاكرة مدينة عنوان المعرض الذي أقامه الآغا  في مدينة بريمن الألمانية ( 2019-04-26/ 04-05 ) 
و المدينة هنا هي حلب التي باتت زمرة دم الآغا و ذاكرته ، بل كل منهمها هو و حلب بات ذاكرة للآخر ، و ما إن يثقب الآغا تلك الذاكرة حتى تبدأ رحلة المفارقات الزمنية بالإقلاع ، بمراثيها و تحولاتها ، بإيقاظ الريح في جهاتها المختلفة ، و بإيقاع صاخب ينخرط بمقاطعه اللونية لسرد حكاية مدينة لم ترقد فيها الريح بعد .


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…

رضوان شيخو
وهذا الوقت يمضي مثل برق
ونحن في ثناياه شظايا
ونسرع كل ناحية خفافا
تلاقينا المصائب والمنايا
أتلعب، يا زمان بنا جميعا
وترمينا بأحضان الزوايا؟
وتجرح، ثم تشفي كل جرح،
تداوينا بمعيار النوايا ؟
وتشعل، ثم تطفئ كل تار
تثار ضمن قلبي والحشايا؟
وهذا من صنيعك، يا زمان:
لقد شيبت شعري والخلايا
فليت العمر كان بلا زمان
وليت العيش كان بلا…