مفترق طُرُق: قراءة في كتاب الباحث صباح كنجي: الإيزيدية «محاولة للبحث عن الجذور: رحلة في أعماق التاريخ»

إبراهيم محمود


اللغز المؤجَّل
يشار في أغلبية الكتابات التي تناولت الإيزيدية كديانة، إلى أنها تشكّل تحدياً للباحث في تاريخها، وثقافتها، ومن زوايا مختلفة،حيث تكاد تبز الديانات المعروفة، جهة الغموض الذي قدّمت به، لتتنوع الكتابات حولها من هذا المنطلق، ومقصدها كيفية إجلاء هذا الغموض وتسميته .
ومن يتابع هذه الكتابات، وهو ما تبيّن لي من خلال قائمة، تعتبَر نماذج بحثية مسمّاة عند النظر في بنية هذه الديانة، يتبدى له، أنها، على وجه العموم، تشدّد على هذا الغموض أو التعقيد، مبتدئة منه، لتصل إلى نتيجة، لا يكاد يبقى لذلك الغموض أو التعقيد من أثر، حيث كل كتابة تراهن على مفْصل حركي، وعبر منهج بحثي له، وما فيه من تصور معرفي واعتقادي طبعاً، بحيث يكون هذا المفصل المذكور خميرته البحثية، وبوصلته في قيادة ” دفة ” فكرته إلى الآخر.
ولِعلّي من خلال متابعات لي، في مقالات وبحوث منشورة، أجدني منوّهاً هنا، إلى مفارقة الكتابة هذه، بصفة عامة تقريباً، وهي أن الطابع اللغزي الذي يشار إليه، يمكن تبيّنه في مختلف الكتابات ليست تلك المتعلقة بقائمة الأديان والمعتقدات وحدها، وإنما بأي موضوع يتم التعرض له، تأريخياً، فلسفياً، سياسياً، قانونياً، وأدبياً…الخ، لأن مجرَّد التأكيد على مثل هذه ” الحقيقة ” اللغزية يضفي علامة فارقة لا تخلو من عنصر استقطابي للقارىء، ومن افتتان بحثي، وتسمية لذات الكاتب، وإن لم يسمّ ذلك، وما في ذلك من انزياح سلبي لمفهوم الاسم المدروس .
وإذا كان لي أن أطرح فكرة ذات صلة بالموضوع الذي يشغلني هنا، ومن خلال كتاب بحثي مجتهَد في تأليفه فكرةً، ربما، تكون مدخلاً إلى قراءته، وتأكيد أهميته البحثية، ومن ثم مناقشته إثراء لمحتواه، مهما كان جانب الاختلاف أو حتى الخلاف حوله، ومضمون الفكرة هذه، هو أن الإيزيدية، وتبعاً لمعلوماتي التأريخية، هي العقيدة الوحيدة التي تطرح نفسها، جامعة داخلها بين أقصى الغيب وأقصى الملموس، أقصى الملائكية وأقصى اللائكية، أي بين غلافيْ كتاب ِ عقيدتها: السماء والأرض، أو بالعكس، خلاف مختلف الديانات، وتلك المعتبَرة: توحيدية في منطقتنا بصورة خاصة، وإن وسَّعنا دائرة المكاشفة بحثياً، فربما تكون الوحيدة في جهاتها الجغرافية الأربع، حيث تحضر العقائد أو الأديان الأخرى، خارج التصنيف المعتبر: توحيدياً، ذلك من خلال ربطها المحْكَم بالمعرَّف به هنا وهناك: إله الشر المحض: الشيطان، النقيض المباشر، والمواجه بالتوازي لإله الخير المحض: الله ” بالمفهوم الإسلامي، وهو ما نجد أوضح تعبير عنه وله في التعويذة الإسلامية الرئيسة ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم “، وما في ذلك من تقابل مباشر لا يخطئه النظر ” 1 “، وما لهذا التقابل الموسوم، من مفارقة تتمثل في محاولة التجاهل لها، تحت وطأة المُودَع دينياً، وخطورة التسمية، واللجوء إلى المخفَّف لها ” 2 “.
إن ما يشغل ساحة البحث الواسعة، وفي تنوع اللغات التي يعرَف بها، بصدد هذا الموضوع، هو استثنائية المعتقَد، بحامله الملصَق به ” الإيزيديون بوصفهم: عبدة الشيطان “، أو كونهم ” يجلّون الشيطان “، أو  أنهم” الوحيدون خلاف الآخرين، ممن يمنحونه مكانة استثنائية “، رغم تأكيد الإيزيديين على توحيدية عقيدتهم، إنما بالطريقة التي يصرّفون فيها مفهوم الشر والخير.
ذلك يزيد في خصوبة المتخيل البحثي، والخروج إلى رحابة التاريخ وتنوع دلالاته، وحمْية اقتفاء أثر هذا الاسم وكيفية حضوره في بنية هذه الديانة، والذين يؤمنون بها.
وذلك ما يثير الفضول المعرفي، بالمقابل، لدى أصحاب المغامرة الحيَّة في البحث، ومن لديهم رغبة في محاولة الإحاطة بهذه الديانة، ومن يجتهدون في متابعتها…الخ.
هذا الاعتراف الذي لا يخلو من إشكالية معرفة وعلاقة بالموضوع نفسه، هو بذاته يشكّل مساءلة حول المحرّك البحثي القائم: التأريخي والفكري للباحث نفسه: الاعتراف، بلُغزية الديانة هذه، ثم إلإظهار التدريجي لجوانب مختلفة منها،والإيحاء بانكشاف سرها من خلاله .
نقرأ مثلاً، في التقديم لأطروحة جامعية، ومن باحث تونسي، توضيحاً لما تقدَّم( وقد كانت ميزة الإيزيدية هذه عقبة منعت طويلاً قراءتها بشكل سليم ومحايد، فقد قرأت الحضارات المحيطة، معتقدات هذه الطائفة، بآلياتها، وأدواتها المعرفية والعقائدية الخاصة، وهو ما أدّى إلى ضروب من الإسقاط…) ” 3 “
ونجد في مثال آخر، حيث شكَّل محور ندوة جامعية ” تونسية ” بالمقابل، حول الشر في تنوع أدبياته في النصوص الدينية والفلسفية والاجتماعية وغيرها، وكيف يشكل اليقين المعرفي والإيماني علامة فارقة لهذا التوجه، جهة التقديم للندوة المعتبرة علمية(..كانت غاية الأديان من إعداد الفرد وتربيته روحياً. تحويل ذلك الميل من وجهته إلى وجهة الخير، حتى يعود الإنسان إلى أصله الذي كان عليه فيتصالح مع ذاته ويعمر الخير قلبه )” 4 “
التصور الإيماني يسمُ كتابة كهذه، وهو عقيدي بجلاء، وتحديداً في الإشارة إلى ” الأصل ” وما فيه من ميتافيزيقيا لا يحاط بها، ولا بأي شكل طبعاً .
وبين الوازع الإيماني والمسعى المعرفي ثمة مساحة مأهولة بالكثير من المؤثرات البحثية، وما في ذلك من ثنائية حدّية، وخطابية أحياناً، إذ يستحيل التأكيد على وجود ما هو معرفي دون ادعاء خلوّه من معْلم خطابي، مفعّل بعائد إيماني معين، وإن لم يُسمَّ جهاراً .
أصل هنا، إلى تسمية الكتاب الذي انشغلت بقراءته، وهأنذا أنشغل بالكتابة عنه، كونه يحمل في تضاعيفه ما يستحق النظر فيه معرفياً، قبل كل شيء، وأعني به كتاب الباحث العراقي” وكما جاء في مقدمة سيرته الذاتية هنا:صباح كُنجي: الإيزيدية ” محاولة للبحث عن الجذور : رحلة في أعماق التاريخ ” والصادر حديثاً ” 5 “.
كتاب الباحث والنشاط السياسي والميداني كنجي، لا يخفي إرادة البحث المعرفية، وصِفَة التحدي لهذا اللغز المشار إليه آنفاً، ولا ينفي إشكالية البحث بالمقابل، وبدءاً من المقدمة.
ذلك يشكّل عنصراً داعماً لعملية القراءة والتعايش المعرفي، ومن ثم للإمتاع النقدي بالمقابل .
أي ما يجعل الكتاب في نطاق التقدير، استناداً إلى المودع فيه تأريخياً، وأن كل مساءلة، أو مكاشفة، أو مقاربة نقدية، إنما تعزّز القيمة المعرفية، والإضاءة التأريخية لبنية الكتاب بالذات.
والمثار هنا، يكون باعتماد مجموعة النقاط التي فرضت نفسها من خلال قراءته طبعاً، وبالتالي، ولأن الكتاب يتقدم بمنطق العلْم وجدّيته، كما هو منوَّه إليه، سوف أتجنب اللغة الدبلوماسية في قراءته هذه، ومسعاي، كما أسلفت، هو تثمين هذه المحاولة، أولاً وأخيراً:
في حمولة العنوان أولاً 
بالنسبة لمن يعنى بأدبيات العناوين، والبعد الدلالي لكل منها، هناك ما يستدعي النظر عن قرب في ذلك، والتوقف عند العنوان المطروح والمتصدر للكتاب، قبل عبوره، وذلك لأهميته:
لدينا ثلاثة مكوّنات للعنوان:
-ما يعتبَر رئيساً، أي” الإيزيدية “، وهو ما يشغل الكتاب، ويكون حامله المعرفي بحثياً .
-ما يُعتبَر توصيفاً لمهمة الباحث: محاولة للبحث عن الجذور.
هنا، يكون التحدي، جهة التحرك، والسؤال عن نوع البحث أو آليته، وصفة ” الجذور” كذلك .
-ما يعتبَر توصيفاً، إنما هذه المرة، وهنا، لطبيعة المهمة هذه: رحلة في أعماق التاريخ.
أن تكون رحلة، فأي رحلة هذه، وما هو الرصيد المساعد في ذلك، وأن تكون ” أعماق التاريخ ” هي المرصودة، فأي نوع من ” أعماق التاريخ “، وهو الملحوظ هنا في جانب مفتوح هنا !
وما ينبغي التشديد عليه، هو أن عنواناً مركَّباً كهذا لا يفوَّت بحثياً من قبل مشغول بمؤثراته، مؤثرات لا بد أنها واضحة بمعنى محدد، ناحية منطلقات البحث، ومتخيل العمل وصورته، وما هو طوع المساءلة عن بنية هذا البحث، وكيف تأتَّى له أن يكون مدشّن كتاب، إن جاز التعبير .
إن مفردة ” محاولة ” بتعبيرها اللفظي، لا تعني في حقيقتها اللغوية: قبضاً على المطلوب، جهة المنشود ، أو معرفة الجذور، إنما المضي بالمطروح بالقول دون الجزم بحقيقته ، وهذا ما يضفي على ” رحلة ” بتركيبها بالمقابل ” بُعداً تخطيطياً معلوماً ببداية ونهاية ودليل عمل طبعاً.
وتالياً، هناك ما يزيد المثارَ في العنوان وضوحاً، عند قراء ” إهداء الكتاب. ص4 ” وهو مهدى إلى الباحث العراقي الراحل جورج حبيب، والحاضر كثيراً بأثره، من خلال كتابه ” اليزيدية بقايا دين قديم- 1978 “، وهو في الأساس ” اليزيدية بقايا دين عريق ” إذ رفضت وزارة الإعلام العراقية صيغته هذه، لما في ذلك من إبراز عراقة غابرة في التاريخ ” ص26 “.
ماذا ورد في صيغة الإهداء؟:
( كنتَ ترى النبع من بعيد..تابعنا خطواتك حتى وصلنا الجذور.. لنتعمد بالمياه المباركة ونشارك باحتفالات الأفراح وطقوس اكتشاف الزمن المقدس…).
لعله إنشاء وجداني، شاعري في المحتوى، وهو ما يشدّد على لغة البحث بالمقابل، إلى جانب أن الإهداء يشير إلى أن الباحث قد اكتشف حقيقة الإيزيدية عبر الوصول إلى الجذور، وما في ذلك من إضعاف أثر ” محاولة ” في مخطط العنوان بالذات. وأرى أن لذلك موقعه في التعبير !
الكتاب المعرَّف به في المقدمة/ البداية
لم يشأ الباحث كتابة ” المقدمة ” مرتكزاً ” إلى ” البداية في كل العلوم وعرة “وربما ذلك عائد، كما يُستقرَأ من أسلوب الكتابة، إلى مقصده وهو أن المقدمة تحيل على الكتاب مباشرة، بينما البداية، فتخص المؤلف، رغم أن المقدمة ذاتها، قد تأتي متنوعة في مقاصدها أو توجهاتها أو إشاراتها. وحيث إن البداية المسماة هنا لا تعدو أن تكون مدخلاً للكتاب بالذات، وإن وجِد عنوان فرعيٌّ يلي هذا العنوان، وهو ” المدخل “، إذ إن دمجاً بينهما لا يخرج عن ” جادة صواب ” البحث، مع التأكيد على أن ليس من بداية يُستهان بها في أي علم، أو مبحث ما، فالوعورة هنا، قاسم مشترك لكل المباحث أو الدراسات التاريخية وسواها، وهي التي تحفّز على الدخول في مغامرة البحث. بالعكس من ذلك، إن ما اُستُهِل به في الحالة الأولى ” بداية ” يجد مستقراً له في العنوان التالي ( حينما بدأتُ البحث في شئون الإيزيديين.. وكتبتُ أول مقال لي عنهم تصورت الكتابة عن الديانة الإيزيدية مهمة سهلة بحكم نشأتي في هذه البيئة.
لكن يوماً بعد آخر تغيرت قناعاتي، وجدت نفسي أغوص في بحر عميق لا أسفل له، تلاطمني الأمواج والرياح من كل الجهات ..ص10 ).
( طبعاً الصحيح لغوياً: في بحر عميق لا قاع له، تتلاطمني الأمواج، والرياح تتقاذفني من كل الجهات).
ذلك يتجاوب مع المكتوب في ” المدخل ” ومن البداية ( يواجه الباحث في تاريخ نشأة الديانة اليزيدية الكثير من الألغاز التي يصعب البت فيها بشكل قطعي من دون التطرق إلى تاريخ نشأة الدين لدى المجموعات والأجناس البشرية الأولية التي كانت تتنقل في عدد من الأماكن مع الحيوانات والبرّية..ص15 ).
والذي يلفت النظر في ” البداية ” هو تأكيد الباحث عن الصفة العلمية للبحث، وصدمته لما لاقاه من خلاف ذلك في عملية ” البحث في جذور الإيزيدية )، ليشير تالياً إلى ( أن البحث في تاريخ وفلسفة الإيزيدية ومعتقداتها يحتاج إلى نظرة شمولية تقوم بها لجان متخصصة… وهي فوق طاقة الإنسان- الفرد، مهما كان ضليعاً بأمور الإيزيدية .ص12 ).
سأتابع هذه الفكرة إلى النقطة التي تتطلب مكاشفة نقدية، حيث يرى وجوب تسلُّح الباحث هنا إلى معرفة شاملة في المجالات التالية ” وهي ثمانية “، ومنها:
-التعرف على خصوصية هذا الدين وعاداته وطقوسه وهذا ما توفَّر لدي بحكم نشأتي في هذه البيئة.
-معرفة بتاريخ العراق القديم حيث للإيزيدية عادات وطقوس عريقة لها امتداد تاريخي لفترة العهود السومرية والبابلية والآشورية.
-معرفة بعادات وتقاليد الديانات القديمة في الشرق ( الأوسط والأدنى )…
-معرفة بشؤون الديانات الهندوسية والهندواوربية..
-معرفة بتاريخ الديانات ” السماوية “..
-إن تاريخ الإيزيدية لا ينفصل عن تاريخ الكرد باعتبارالإيزيدية أكراد يتحدثون لهجة واحدة هي الكرمانجية/ البهدينانية…الخ..
ليؤكد في النهاية إلى أنه سيسعى ( قدر المستطاع في باب الاجتهاد والتحليل لتثبيت أسس سليمة يمكن الانطلاق من خلالها لدراسات قادمة تضع في صلب مسعاها الوصول إلى حقائق أكثر كمالاً عن هذا المعتقد… ص 13-14 .).
لعل أول ما يمكنني قوله، هو أنني أكون معه في بداية كلامه، مختلفاً معه، وربما أكثر تالياً:
في البداية، جهة متطلبات البحث، والمقصد ليتروى الباحث، ويتجنب إطلاق القول.
سوى أنه في تلك ” الشروط ” التي وضعها، ووجوب ” اتقانها ” في بحثه، وما نوَّه إليه تالياً، أفصح عن أنه ملمٌّ بها، وقد التزم بها، ولكنه في توكيداته في مجمل الكتاب، كما سنرى، خالف مجمل هذه الشروط، حيث لا تعود لغة ” المحاولة ” قائمة، إنما عملية المعرفة المنجزَة بدقتها.
ولو أنه لم يسمّ النقاط هذه، لكان هناك تصريف آخر للقول !
إن كل نقطة من النقاط الثماني تتطلب مثل هذه المعرفة المتعددة الجوانب، الواسعة الأبعاد، ولأشِرْ هنا، إلى النقطة الأولى، بخصوص الإيزيدية، وقوله عن أنه محيط بها، حيث السؤال يطال جهة هذه الإحاطة لحظة التعمق في تاريخها، وليس في المعاش منها، ومجرد النظر في المتداول عنها، وما هو مكتوب باسمها، يظهِر طبيعة هذه التجاذبات، وبالنسبة إلى الكتاب المنتمين إلى الدائرة المعتقدية للديانة عينها، ومن داخلها .
وهذا ما يمكن تأكيده في النقطة المتعلقة بزعم ” اللهجة الواحدة ” للإيزيديين، والسؤال عن حقيقة هذا القول، وما إذا كان معاشراً لعموم الإيزيديين، وفي أمكنة مختلفة، وفي إطار إقليم كردستان العراق، عند النظر في البنية للسانية لهم ( مثلاً، في الفصل السابع: أبعاد ودلالات لغة بعشيقة وبحزاني ) حين يقول ( استوقفتني كثيراً طبيعة اللغة التي يتكلم بها سكان بعشيقة وبحزاني.
هي لغة خاصة بهم لا يتحدث بها إلا سكان هذه المنطقة المكونة تاريخياً من قريتين هما بعشيقة وبحزاني..ص 315 ).
أليس ذلك مدعاة للتساؤل والمناقشة حول صفة التوجه البحثي في الحالة هذه ؟
وبما أننا بشأن اللغة، فإن اللافت للنظر، هو مدى الدور الكبير الذي أُعطيَ لها في متن الكتاب، ومن أوله إلى آخر، لتعزيز مقولة العراقة التاريخية للإيزيدية. وأنا هنا لا أناقش هذه العراقة، وإنما الجانب اللساني، وكيفية الربط بين ألسنة بينها غاية الخلاف وليس الاختلاف على صعيد المنظومة الدلالية والتركيبية لكل لسان” مثلاً، شجرة اللغات الإيرانية والأوربية “، أو ما يخص طبيعة السومرية كلغة، وتالياً: البابلية والآشورية، فلكل لغة علامة لسانية خاصة بها، وعلينا ألا نعتمد نتيجة معينة، أقرب إلى القطعية، وثمة قطعيات كثيرة في الكتاب، من مجرد توافق لغوي في مجموعة مفردات دون الحفر في بنية كل منها، وهنا أستعين بتوجهات اللساني الكبير، الفرنسي إميل بنفنست ” 1902-1976 “، وهو يضع ملاحظة على تماس مباشر بموضوع كهذا في التطبيقات ذات التوجه اللساني، حال ” بلاد الرافدين، بقوله ( إن تطبيق المسمارية السومرية على اللسان الأكادي السامي هو ما زاد في تعقيد المسألة وللسانين كليهما بنية مختلفة ” فالسومرية ليست لساناً أحادي المقطع فقط “. ) ” 6 “.
ذلك يوقع بنا في مطب الرغبات مادون العلمية، أو النزعات الثقافوية، كما نتلمس ذلك في الكثير من الأدبيات العربية الإسلامية وغيرها، حين تصرّف، مثلاً، اسم الكردي، أو الكرد وفق القالب النحوي، أو اللساني العربي، من باب ” كرَّد، يستكرد، الكردوس…الخ “، أو لحظة الربط المحكم لأسباب إيديولوجية وتاريخية بحتة بين منظومة لسانية، لغوية تصل ما بين الكردية راهناً، واللغات الهندوأوربية…الخ.
ولهذا، فإنني بمقدار ما أكون متجاوباً مع حرارة البحث في لغة الكاتب، أتحفظ على مسارها، حين تستدعي أمثلة من هنا وهناك ” ثقافات شتى ” لتعزيز مقولة محمَّلة بصفة العلمية .
ذلك ما يلغي حدود البحث، جرّاء هذا الاتصال الأوقيانوسي بلغات وثقافات قديمة وحديثة، بغية إثبات عراقة أو ريادية نشأة الاسم، وما في ذلك من مخاطرة ومغامرة .
لقد وجدتْ دراسات كثيرة، ومن لغات كثيرة، بغيتها البحثية في الإيزيدية كديانة وكطائفة لها حضورها التاريخي، وإلى اللحظة هذه، بسبب خصوصيتها، وربما ميزة أهليها في تمسكهم بعقيدتهم، رغم كل المحن والكوارث التي تعرَّضوا لها، وهي تكاد تكون متوقفة عليهم حصراً، إلى درجة المساءلة عن جانب العجيب والغريب في هذه الديانة، على وقْع النسب ” الشيطاني ” وطبيعته الاستثنائية، وما في ذلك من تحدّ للقائمين بهذه الدراسات عينها، أي السؤال عن وجه ” السر ” في هذه الاستمرارية، ونوع الصلة/ القرابة بين الإيزيديين و” الشيطان ” وهو النسخة المختلقة باسمها ومقامها وسوء المودَع فيها قيمياً وتاريخياً ” من جهة المخالفين لهم تماماً، وأكثر من ذلك، النسخة المقاوِمة لتاريخ مختزَل حتى من جهة القائمين عليه دينياً، كما في الإسلام، وكيفية تجلّي الشيطان في المنظومة المعرفية الإسلامية ” ملَك الملائكة ” أساساً، ومغزى الرهان عليه وتزكيته من هذا المنطلق التصويبي لهذا التصور من قبل متصوفة الإسلام ” من الحلاج ” وصولاً، وليس انتهاء بشاعر الكورد الكبير، والإسلامي محتوى: أحمد الخاني ؟
طائفة، ربما، أصغر دينياً، من أي طائفة معلومة بتوجهاتها العقيدية في العالم، تجهر بعقيدتها، وتنغلق عليها، حباً بها، ولعدم وجود من يتجاوب مع فكرتها المحورية واقعاً، ومدى الانقسام الحاصل في مفهوم الاسم وتدرجاته، وصلته بما هو ناري وما هو شمسي: نوراً ونوراً طبعاً .
إنها مجموعة المواقع التي يلفها غموض، مدشَّنة وزمحمية إيمانياً، كما يقول تاريخها !
آراء وخلافها حول تسمية والإيزيدية ونسبهم
يفتتح الباحث كنجي فصلاً بهذا الاسم، مستعرضاً مجموعة من الآراء التي تتراوح بين حد تجريد الإيزيدية من أي صفة تمايز واعتبار تاريخييْن، والنظر إلى أهلها، على أنهم طائفة لها تاريخها، ثقافتها، شعائرها، عقيدتها، وتاريخ مقاوماتها عن هذه الديانة ومكوناتها:
بدءاً من صديقي الدملوجي، مروراً بعباس العزاوي، وسعيد الديوجي، ولايارد، وليس انتهاء بجورج حبيب ” الأكثر تميزاً في محاولته: إنصافهم تاريخياً.ص26-27″ ليقول معلقاً فيما بعد ( كانت هذه الكتابات والتصنيفات المختلفة من كتّاب ومؤرخين من خارج قوام الإيزيدية وقد رأينا الاختلاف والتنوع والتضاد والتناقض فيها كل حسب اجتهاده ودوافعه ومنهجه.ص 27 ).
ذلك صحيح، وفي حدود التاريخ الذي كان الكرد عموماً، والإيزيديين بوصفهم كرداً ولهم ديانة مغايرة لكل الديانات الأخرى، يعرَفون بسواهم، جرّاء الاستبداد السياسي والتاريخي بهم.
ولا بد أن متغيرات العصر، وانتشارالمعارف، والتحولات الاجتماعية والسياسية عنصر فاعل في بنية هذه التصورات، دون نسيان لائحة من الكتاب الإيزيديين ممن ينطلقون من داخل الطائفة وباسمها، في ندوات ومحافل دولية تترى، ومؤتمرات ولقاءات وحوارات مفتوحة، وفي أدق المسائل ذات الصلة بأمور العقيدة، عدا ما يخص المظالم التي تعرضوا ويتعرضون لها تاريخياً، وما لهم من تأثير في طبيعة هذه الدراسات والاهتمام بالإيزيدية أكثر، وبوصفهم مراجع حية بذلك .
ولا بد أن هناك أسماء عديدة وأكثر، لها دورها المهم في الحديث عن الإيزيدية.
أشير هنا إلى روجيه ليسكو، وهو يتحدث عن أصول الإيزيدية( بقي الغموض يكتنف أصول اليزيدية لمدة طويلة.ص23.).
وما يشد الإيزيدية إلى الإسلام، جرّاء قراءة محددة، ومحكومة بقلة الإطلاع ، حين يأتي على ذكر التنظيم الديني (حافظت اليزيدية على أثر أصولها الإسلامية عبر تنظيمها الديني أكثر مما حافظت عليه في معتقدها. ) ” ص 91.
وما ينوّه إليه الباحث الإيزيدي خليل جندي، بقول (ما من دين جهله الناس واختلفوا في شأنه وظهوره ومعرفة أصله كالدين الإيزيدي، رغم الأبحاث الهائلة التي قامت بها مجموعة كبيرة من الكتاب والباحثين الشرقيين والغربيين. ) ” 8 “
والملاحظة التي يسجّلها الباحث الإيزيدي الآخر هوشنك بروكا، مشيرة إلى مكانة الديانة هذه في التاريخ الشرقي القديم، في جانبها المغيَّب (تُعدُّ الإيزيدية حلقة شبه مفقودة من سلسلة الديانات الشرقية الهندوايرانية القديمة.) ” 9 “.
التاريخ العريق والغريق للإيزيديين
وفي العنوان مرامان:
الأول، ما يفصح عن الامتداد الديني للإيزيدية في التاريخ، وإمكان العثور على أدلة وقرائن، ومن ثم أدبيات مباشر وغير مباشرة، تؤكد هذا الامتداد.
الثاني، وهو يترجم جانب المَظلمة التي عاشتها الإيزيدية، والتكتيم على تاريخها، من منطلق جليّ سهلٌ التأكيد عليه، وهو صعوبة التعريف به وإشهاره خوفاً من المحيطين بها، وتحديداً في وسط ديني مغاير تركيباً ومحتوىً، وللإسلام دوره الكبير، على وجه العموم، والفرمانات التي يسهل الرجوع إليها ومعاينتها، وهي تمثّل سجلات حيَّة عن هذا العنف المركَّز ضدهم، ولا يمكن اعتبارالغزو الذي تعرضت له في شنكال، مطلع آب 2014، على أيدي أفراد تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش ” بمنفصل عن سلسلة حلقات العنف الموجَّهة دينياً، والكارثية الأثر !
إن ما يسطّره الباحث كنجي، عما هو تأريخي، هو لفت النظر إلى أن هناك رصيداً تاريخياً لهذه الديانة من ناحية، وأن أخذها بعين الاعتبار، يطهّرها من الكثير من العوالق السلبية الشائنة بها، من ناحية أخرى.
وانطلاقته من ” مكتشفات علم الآثار- ص 31 ” تدخل في هذا المسار البحثي القرائني !
حيث يتعقب ما يُعتبَر أصولاً ومغذيات لما تقدم، من ذلك ما يرد عن طريق جورج حبيب، في كتابه المذكور، وحول شخصية ” يزيد ” الاسم الأقدم من ” يزيد ” الأموي، حيث يشار إلى معبد ” إيزيد أو إيزيدا ” وقد ( تم اكتشافه في بورسيبا بابل- الحلة من قبل البعثات التي عملت في هذه المنطقة . ص 38 ).
وهناك الإله ” نابو ” ودوره القديم بابلياً، وصلته  بإيزيدا، وكذلك ما يصله بالحضارة والديانة المصريتين ، فـ( ” نابو ” يعني الملتمع، أما ” إيزيدا ” فيعني المكان المكين القوي، لأنه رجل علم وفلسفة أي الرجل القوي، أما مفردة نيبو في مصر فتعني الذهب الملتمع..ص48 ). 
وهناك ” أكيتو ” وانتقاله من بابل إلى عهدة آشور، وما له من طابع طقسي مشابه ” ص 49 “.
هناك إغراء بالمتابعة، ولكن إلى أي حد، أو مدى يمكن المتابعة، جهة التأكيد على مركزية ما هو إيزيدي، انطلاقاً من طقوس بينها تشابه معين، وفي جهات جغرافية مختلفة، ومن لغات يستحيل الربط بينها، نظراً لاختلاف بنيتها اللسانية، واختلاف أصولها اللغوية.
وعلى سبيل المثال، إن الحديث عما يلمع، وما هو شمسي، لتثبيت فكرة مركزية الشمس، وباعتبارها فضيلة تاريخية ممضيٌّ عليها إيزيدياً، ومن مرجعيات متباعدة تاريخياً وجغرافياً: حضارة مصر القديمة، سومر، بابل، آشور…الخ، لا يمكن الأخذ به بالطريقة هذه، وإلحاق حضارة بأخرى، إلا من وجهة نظر تاريخية فاعلة، وهي تثاقفها وتفاعلها مع بعضها بعضاً، وليس بجعل أحدائها هي الرئيسة والبقية هامشية أو ثانوية، وبالتالي، نسْف تواريخ كاملة، من أساسها، وتجريدها من أي اعتبار حضاري عائد إليها وحدها.
نعم، يمكن الحديث عن مكانة الشمس لدى الإيزيديين، ومأثرتها النورانية، وكما نوَّه كنجي إلى ذلك، وهو تنويه تليد نسبياً،فلقد أشارت الليدي درور إلى هذه المكانة، وقبل قرن ” 10 “
وربما كان أقرب مثال إلي، حول تصور كهذا، هو المنهج المؤطر كثيراً لفراس سواح، والمذكور سالفاً، وأنا أسمّي هنا كتابه ” لغز عشتار – الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة ” وهو الذي يعيد فيه مختلف الحضارات، وخاصية الألوهة وغيرها إلى مركزية عشتارية، أو ” عشتاريزم “، وما في ذلك من غبن بحق الحضارات الأخرى في المنطقة وخارجها ” 11 “
 كما أشرتُ، فإن كتاب كنجي، يقرأ من أوله إلى آخر، وإنما ليس بهذا الحماس، الذي، ربما يفسّر على خلفية ما تعيشه هذه الطائفة، وهي تتمسك بديانتها مستميتة في الدفاع عنها، ووجوب الاعتراف بها، من قبل الذين يتنكرون لعراقتها، ودفع المظالم عنها، ولعل في ذلك وجهاً جلياً، وملموسياً من حس المظلومية، ليس من جهة هذه الديانة، وإنما طريقة البحث هذه وحافزها.
ثمة قواسم مشتركة، على صعيد الانتماء إلى الشمس كجامع مانع لهذا التوجه العقيدي، انطلاقاً من الطبيعة التي تعرَف بمناخها الحار، وتمايز فصولها، أو دور الشمس في الحياة، وقابليتها لأن يرمَّز إليها بأوصاف وألقاب كثيرة، حتى جهة الديانات المعتبَرة وثنية بأكثر من معنىً !
طبعاً، هناك من اهتم بهذه الديانة، وعن قرب، ويعرفهم باحثنا جيداً، كما في حال كاظم حبيب، حين تحدث عن ( فرضيات عن أصل الديانة الأيزيدية ) ” 12 ” .
وجرّاء ذلك، ألمح إلى ( صعوبة القطع برأي معين بصدد الديانة الأيزيدية، فالبحث في الديانة الإيزيدية حديث العهد…) ” 13 “، تحت تأثير هذه التشابكات في التصورات والمواقف .
والذي انشغل كثيراً بهذه الديانة وأهلها، وهو الباحث العراقي المعروف ظهير كاظم عبود، في كتابه ” الأيزيدية : حقائق وخفايا وأساطير ” 14 “
مثلاً، حين يتحدث عن تقلبات المواقف، تحت وطأة ما هو سياسي وسلطوي، وما هو لافت في الديانة هذه، ومن ذلك قوله ( تشير خريطة الإحصاءات التي أصدرتها جمعية الجغرافية الملكية قبل الحكم الوظني في العراق، والصادرة عام 1910، إلى كون جنسيتهم كردية، وأنهم قوم من الأكراد باقون على قدمهم وأكثر عاداتهم وتقاليدهم من الكردية، مما يتطلب منا قدرة متأنية على قراءة علمية لحقيقة القومية، بعيداً عن العماء الإيديولوجي والتعصب القومي المقيت . ص 24.).
ومن ثم التأريخ لها، على خلفية من الموقف منها، حيث ينوه إلى أنها ( ديانة قديمة، وفيها وجهات نظر مختلفة. صص59-68.).
أي ما يصلنا بما تقدَّم، في اختلاف المواقف منها.
وما يشدد على قِدَمها ( مثلاً، وجود الديانة الإيزيدية قبل وجود الدولة البابلية.. كلمة ” تاووس ” يونانية، وتعني الله.ص67.) .
وفي كتابه الآخر، والذي يتوسع في الديانة هذه تأريخاً ومحتوىً ” التنقيب في التاريخ الإيزدي القديم ” ” 15 “
وهناك الكثير، مما يفيدنا تاريخياً ودلالياً في الكتاب هذا، والذي يأتي ربما توسيعاً لنطاق الكتاب السابق، وتعزيزاً لمقولات تاريخية عن الإيزيدية .
من ذلك تقديم الأكاديمي عبدالإله الصايغ” أستاذ الحضارة الشرق أوسطية في كلية تكساس- الولايات المتحدة..أسماء اللآلهة التي يطلقها الإيزيدية عليها ينسجم مع أسماء الآلهة السومرية والقديمة…” ص11. ويشير عبود إلى ذلك في الصفحة ” 2 “
وما يسطّره عبود بقوله عن أن الإيزيدية( ديانة عريقة غارقة في القِدَم.ص17.).
وبصدد قدَم رمزية الطاووس( ومن اللافت للنظر أن يكون الطاووس رمزاً من رموز الديانات القديمة كالديانة السومرية، وكان على الأغلب يمثّل فكرة الخير والجمال.ص22.).
وهناك ( معبد إيزيدا: البيت المرتفع. ص33. لدى البابليين عبادة دياوس أو تياوس، وهي قريبة من لفظة تاووس أوطاؤوس، بينما اهتمام البابليين إضافة للإله ” نابو ” فإنهم يعبدون 🙁 الإله شمس والإله سين، والذين” اللذين ” يعنيان الشمس والقمر). ص 34.).
وفي القسم السادس: الشمس ” ص 97 ” ثمة اعتماد على جورج حبيب، والذي يتحدث عن أن إله مدينة بورسيبا الواقعة على الفرات كان يقوم فيها معبده الذي يسمى ” إيزيدا ” ، بينما كانت مدينة بابل تقع على الضفة المقابلة التي كان يعبد فيها الإله مردوخ وكان له فيها معبد يسمى إساكيلا. ” ص 99 “.
إلى جانب انتشارعبادة نابو في بلاد آشور التي تشمل منطقة الشيخان والزابين والجزيرة…” ص99 “.
 ومن ثم القسم السابع، عن القوال، وقدَم الاسم، ” ص 111″، والمثار عن الكاهن الآشوري” كالو ” مرتل الأناشيد.ص114- والقوال، في العربية: قائل..” ص115 “. كلمة شنكال مركبة من كلمة كال+ شنكو، بمعنى الرجل المتدين الكبير..” ص116 “. 
ويشير إلى الباحث صباح كنجي، وحديثه عن مرتبتهم العالية إيزيدياً.” ص117 “. وقوال، في السومرية، واعتماداً على كنجي مجدداً، ” ص 118-119 “.
…الخ
كل ذلك يتوافق وما يؤكده الباحث الإيزيدي المعروف خليل جندي حول قِدَم الإيزيدية ” 16 “.
وفي المحصّلة ذات الطابع القديم والشمس، يلاحَظ مدى التركيز على ما هو تأريخي، وما هو سجالي بالمقابل، إذ إن لغة البحث لا تخفي  توجهها المعلوم بهذا الإجراء ” السجالي، والسعي إلى تصويب أخطاء، ليست في واقع أمرها مجرد أخطاء، إنما مواقف عقائدية وسياسية .
وبما أن الشمس تشغل مكانة استثنائية في هذا المقام، قديماً وحديثاً، فهي الأكثر مأثرة بالحضور في بنية الكتابات هذه، أي ما يكون صراعاً على الشمس، ومن الأَولى بها هنا.
وأنا أشير، من بين هذه الدراسات، إلى خصوبة تصورات الباحث الإيزيدي هوشنك بروكا، بصدد الشمس، حيث إن ” طاوسي ملك: الإله الميهر/ الشمس “، يشغل فصلاً من فصول أحدث كتاب له ، إذ ( استناداً إلى كتابات الإخمينيين، ورد اسم ” ميثرا ” في ” أفستا “، كإشارة إلى ذاك ” الإله الشعاع “، أو ” الإله الأكبر ” ذاته. ” ميثرا “، كإله مبجل في الشمس، أو كظهور من ظهوراته، يسمى في السنسكريتية بـ ” ميثرا “، وفي البهلوية بـ” ميترا “، وفي الفارسية الحديثة بـ” مهر “..) ” 17 “.
وهنا أشير إلى نقطة استوقفتني كثيراً، ومن بين نقاط أخرى، عن ربط تسمية ” سوريا ” بالكلمة الكردية( وسوريا لدى الإيزيديين وفقاً للغتهم إلىاليوم هي الإله الأحمر أو الشمس الحمراء..سور أو صور= الأحمر… ومنها يمكن الاستدلال على عمق هذه التسمية وامتداداتها في عدة تسميات لمدن ومواقع شملت بعلبك وحلب وحمص التي تميزت بوجود إله الشمس الحمصي . ص280 )، ولنقرأ تالياً ( سور: أحمر “، وهناك : roj:الشمس-:  roj hilatالشمس المشرقة.ص281 ).
وحتى بالنسبة لرموز عربية مؤلهة، قديماً” اللات والعزة وهبل “، قد اقتيدت إلى خانة مركزية اللغة الكردية ” حضارتها، أي إبراز العرب متأثرين بها “ص 325 “…الخ
وبعيداً عن أي تهكم، أو تعليق جانبي، تغدو كل لغات العالم: قديماً وحديثاً ذات نسَب كردي، بناء هلى تهيؤات، أو تصورات رغبية، وما في ذلك من تجاهل لمفهوم ” وعورة بحث ” كهذا !
ما حاولت إيراده من أمثلة هنا، ليس للتقليل من الأهمية البحثية لكتاب كنجي، وإنما لتفعيل أثر البحث، والإشارة إلى حضور كمّ لافت من الكتابات في هذا المقام، وأن الباحث الذي لا يخفى جانب الاجتهاد البحثي في كتاباته، مرفقاً بحماس المنقّب، وعينه على نقطة: إحداثية واحدة أكثر.
وكما هو الحال في الموقف من الشمس، يمكن متابعة مختلف النقاط التي تشكّل نواة الكتاب.
رابعة العدوية وإشكالية النسَب
وهذه من النقاط المِفصلية في الكتاب، إلى جانب نقاط أخرى، جهة ربْطها بما هو إيزيدي، أي بصدد المتصوفة رابعة العدوية، وقبل أكثر من اثني عشر قرناً. من خلال سيرة حياتها، وطبيعة أشعارها، وما في ذلك من إشارات عن خلفيتها الإجتماعية، وحاجتها إلى بحث أعمق غوراً، لاستجلاء الغموض الذي يحيط بها ” ص 195 ” 
أرى أن هذه النقطة وما فيها من إشكالات،مثيرة للنقاش، وتتطلب جهوداً تأريخية، واجتماعية، إلى جانب قراءات مركزة لآثارها في الشعر وما هو مبثوث عنها في متون الكتاب التاريخية.
هل كان أبو سفيان إيزيدياً ؟
سؤال صادم لمن يراهنون عليه، ونسَبه، ومن هو من صُلْبه تالياً” معاوية ” بصورة خاصة. وانطلاقاً من أمثلة تاريخية تشده إلى ما هو إيزيدي، على الأقل من خلال معايشة مناخه.
وفي كتابة الباحث والقاضي زهير كاظم عبود، ما يشدد على ذلك ” صص 197-203 “، وقد تكرر هذا القول ببعض منه حرفياً تالياً ” ص 287-288 “.
إنها إشكالية أخرى، لا يسهل طرحها بيسر، على خلفية من التاريخ المكتوب والسائد باسمه.
ويزداد الأمر تعقيداً، حين يشير باحث مصري، إلى سيرة ابنه معاوية، ومن خلال مجموعة من القرائن إلى أنه لم يكن مسلماً ( كل الدلائل التي سردناها تقول إن معاوية كان مسيحياً وكان يحكم إحدى ولايات الشام بداية من العام 614 م تحت السلطة الساسانية . ) ” 18 “.
كيف يمكن التوفيق بين هذه الرواية وسالفتها؟ وهل يمكن التوفيق، وفي ضوء ما هو تاريخي؟
نقاط أخرى، وهي كثيرة وتحفّز على المناقشة
كما نوَّهت، فإن كتاب الباحث كنجي يثير خيالات قارئه من ألفه إلى يائه، لأن المساحة الجغرافية والتاريخية التي عناها وشغلها ببحثه لا يحاط بها، ومن خلال ما هو مدوَّن، وما ينتظر عملية التحري والمقارنة، ومن ذلك، أيضاً، ما يتعلق بأثريات ” كلكامش ” الإيزيدية، أو ما يمكن تلمسه إيزيدياً في بنية هذه الملحمة ” ص 245 “، وعن فلسفة الموت الإيزيدية من خلال أسطورة ” مير مح ” المؤثرة ” ص 257  “
والمثار على صعيد لغوي في :المترادفات اللغوية والميثولوجية المشتركة بين المعتقدات السومرية القديمة والإيزيدية..”ص300 “…الخ.
وأرى أن فصلاً كهذا، يعتبر تحدّياً للباحث لنفسه، ولثقافته، ولخاصية بحث كهذا، لأنه وضع نفسه في متاهة المترادفات اللغوية، واستحالة البت في ” أصولها ” المتغايرة، وذلك في ضوء بعض من الأمثلة/ النماذج، وطابعها اللساني، وخطورة النتيجة المستخلَصة من كل ذلك.
أعني بذلك، ما إذا كان لديه دليل إثبات أنه قادر على إضفاء صفة البحث على مسائل عويصة من هذا النوع، دون الوقوع في الشطط، على الأقل، مقارنة، بما نوّه إليه في البداية ؟!
ربما بالطريقة هذه، وعند الانتهاء من قراءة الكتاب، يتبين لقارئه، أن عنوان الكتاب هو: الإيزيدية : البحث عن الجذور. وما في ذلك من طابع يقيني بخصوص ما أفصح عنه في ذلك، وتلك القيمة الكبرى ” تأكيد أهمية اقتباساته ” والتي أضفاها على العديد من مرجعياته، والتي تفصح عن أنها أشبه بشهادة عيان موثّقة، لتثبيت ما ينوي تفعيل أثره، أي المصادقة على هذه المرجعيات، للوصول من خلالها إلى ” الجذور ” التي عناها ” وهي تظهر بكامل هيئاتها “، أي تمكن من بلوغ الأصول، وما في هذا التعبير من مجازفة في القول وأسطرة المحاولة بالذات.
إشارة لا بد منها
الكتاب لم ينته، وهو لا ينتهي بأثره، وتردّد صداه المعرفي والتأريخي، لأنه مما كوَّنه بنيةَ تأليف، واقتباس، ونوعية اقتباس في الكتاب،وذهنية فاعلة في المتابعة والمكاشفة، يطرح نفسه كتاباً يؤخَذ به بحثياً: كتابَ تاريخ، وتاريخ ثقافة معينة، وثقافة باحث بزمانه ومكانه كذلك.
ولعل الإشارة التي أشدّد عليها في المختتم الكتابي هنا، تذهب إلى لغة الكتاب أولاً:
يتطلب الكتاب مراجعة لغوية دقيقة، لوجود كم كبير من هذه الأخطاء المؤثرة سلباً فيه، وحتى على صعيد التعبير، ومن الصعب حصرها، وتحديداً، جهة الخلط بين النصب والجر والرفع. من نوع : هذين المحورين .ص 31 ” هذان المحوران “- وسوء نية من جهة .ص31 ” وسوء نية من جهة أخرى “-في المجلد السابع والخمسون .ص 39 ” في المجلد السابع والخمسين “- ففيها كهفين.ص103 ” ففيها كهفان “- كان فيها حصناً منيعاً وديراً مسيحياً كبيراً..ص201 ” وكان فيها حصن منيع ودير مسيحي كبير “…الخ
وثمة إشارة إلى طريقة كتابة المصادر، فليس فيها انتظام:
تارة يبدأ المصدر باسم الكاتب، وتارة أخرى باسم الكتاب، وتارة ثالثة، لا يردُ سوى اسم العلم، دون إشارة إلى أثر له.حيث غاب الترتيب الألفبائي، والإرباك الذي يثيره إجراء كهذا.
عود على بدء
كما نوَّهت، ما كان لما أثير من نقاش، أوحوار، أن يتم، لولا الطابع الثقافي وحتى المحفّز على القراءة والمناقشة لكتاب باحثنا صباح كنجي. إن فضيلة النقاش، تسمّي فضيلة الكتاب أولاً!
إشارات ومصادر
1-ينظر حول ذلك، ما أثرتُه في كتابي: تقديس الشهوة ” الرموز الفلكية في النص القرآني ” منشورات الريّس، بيروت، ط1، 2000، الفصل الرابع من القسم الرابع: الميثولوجيا الفلكية في العوذلة والبسملة، صص359-391 .
2-أجد أقرب مثال، وربما أوضحَه، في عنوان الباحث السوري في الأديان، فراس السواح، وبنية عنوان كتابه: الرحمن والشيطان الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، دار علاء الدين، دمشق، 2000، حيث إن الرحمن تحميل لإله الخير وتسمية مباشرة له، سوى أن وضع ” الله ” الاسم الإسلامي، طي العنوان مقابل الشيطان إحراج مقدَّر للباحث. ويشار في الوقت نفسه، إلى أن كتابه الذي يربو على ” 300 ” صفحة، يتضمن فصلاً ” هو الرابع ” عن الشيطان في الزرادشتية فقط ” صص 77-101 “، ولو أنه خصص فصلاً عنه في الإيزيدية، لكان الكتاب أكثر توازناً، وهو معنيٌّ بهذا الموضوع، كونه سورياً، وعلى بيّنة من الحضور الإيزيدي في سورية .
3-الغزي، ثامر: كاريزما الشيطان” بحث في تمثُّل الإنسان لأصل الشر “، جامعة سوسة، تونس، 2012، ص 10، والكتاب يتعدى الـ” 450 ” صفحة .
4-الشر، القيمة والخطاب ” ندوة علمية دولية محكّمة : الجزء الأول “، جامعة القيروان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان، 20-22، 22 شباط 2013، ص 7 .
5-كنجي، صباح: الإيزيدية ” محاولة للبحث عن الجذور : رحلة في أعماق التاريخ “، دار نشر طهران، ط1، 2021، 400 صفحة من القطع الكبير، وفي تجليد فني أنيق. وأنوّه هنا، إلى أن الاقتباس منه، يحضّر معه رقم صفحته في المتن، من باب الإيجاز .
6-بنفنست، إميل: الدروس الأخيرة في السيميولوجيا واللسان والكتابة، ترجمة: حميد جسوس، دار الحوار، اللاذقية،ط1، 2016، 119.
7-ليسكو، روجيه: اليزيدية في سورية وجبل سنجار،ترجمة: أحمد حسين، دار المدى،بيروت، 2007، ص 23-91 .
8- جندي، د. خليل: الإيزيدية والامتحان الصعب، آراس، أربيل، 2008.وقد قدَّم للكتاب صباح كنجي، صص14-18. 
9- بروكا، هوشنك: ميثولوجيا الدينانة الإيزيدية، تقديم: إبراهيم اليوسف،دارالينابيع، دمشق،ط2، 2009، ص 13 .
10- درور، الليدي: طاووس ملك اليزيدية، ترجمة: رزق الله بطرس، مراجعة وتعليق: د. صباح جمالدين الدين- الأب سهيل قاشا، دار الوراق،بيروت، 2008،ص 208، مثلاً.
11-صدر كتاب فراس سواح هذا، سنة 1985، حيث كانت الحرب العرقية- الإيرانية، دائرة، وكانت المنطقة، وبالنسبة للعالم العربي، مكتوية بنار هذه الحرب، وتعيش مخاوفها، ليجيء هذا الكتاب، وافتتاناً بالفكر القومي الاجتماعي السوري، ربما رد اعتبار لراهن بائس بما كان .
12- حبيب، كاظم: الإيزيدية ” ديانة قديمة تقاوم نوائب الزمن ! “/ آراس، أربيل،2003، صص28-55 .
13- المصدر نفسه، ص 56 .
14- عبود، ظهير كاظم: الأيزيدية ” حقائق وخفايا وأساطير”، المؤسسة العربية، بيروت، ط1، 2005، وقد وردت أرقام الصفحات في المتن، للإيجاز.
15- عبود، زهير كاظم: التنقيب في التاريخ الإيزدي القديم، سبيريز،أربيل، 2006، وقد وردت أرقام الصفحات في المتن، للإيجاز.
طبعاً يردُ العنوان بصيغة أخرى، في الداخل، وهي : التنقيب في التأريخ الإيزيدي القديم ، ولعل العنوان في الحالة الأولى، وعلى الغلاف الخارجي، خطأ وقع سهواً.
16-جندي، د. خليل: في مصدره المذكور سالفاً، المعتقد الأزيدي كدين شرقي قديم ..عنوان لقسم من الكتاب ،ص 38 .
17-بروكا، هوشنك: لغز طاوسي ملك، أو أصل الخير والشر في الإيزيدية، دار تموز، دمشق، ط1، 2014، ص 132 .
وينظَر بتوسع في هذا القسم المذكور باسمه في المتن، صص125-210، وما أثرتُه، في كتابي : نصوص أفستا وقراءة في النص الأفستاني، دار تموز، ط1، 2013،ص 41-52 .
18-حتاتة، هشام: محمد ومعاوية” التاريخ المجهول “، دار رؤية، القاهرة، 2017، ص84 .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…