الحياةُ رفّةُ جَفن

عبداللطيف الحسيني

إلى معلّمي محمد نور الحسيني.
هكذا…. برفّة جَفن بعدتُ عن جاري.. عن هذيانه ويديه المرتعشتين تنامان
على ركبتيه, زرعتُ لَغماً في مجلسه وفجّرتُه. ولم أعد أدري أَبعدتُ عنه أم
بعُد عني؟, فذاكرتي أصابَها عقمُ تغريبتي, كأن الأرضَ تركت هذه البقعةَ
غيرَ أني أمسكتُ بنجمةٍ لترمي بي إلى الضفة الأخرى من النهر, في تلك الضفة ضيّعتُ كتابَ عمري “الخمسون” الذي كان فيه عمري مذ كان يوماً في شهر رجراج.
كنتُ أتكوّمُ كخرقةٍ مرميّة في إحدى الزوايا والآن مرميٌّ كالخرقة ذاتِها
قبلَ خمسين عاماً في الضفة الأخرى من العالم. 
تركتُ على باب جاري قميصي المشجّرَ وآخرَ شهقاتي, وحين استفاق لصلاة
الصبح رأى قميصي ذاك. لم أودّع جاري….. كنتُ أخافُ أن أرى عينَه تبكي في
مرآة عيني.
يومَ انتهيتُ إلى الشمال وقد سبقتُ خيوطَ شمسه وانطفاء نجومه سمعتُ
صوتَ جاري: يا جارُ لا تبتعد…لا تتركني وحيداً مع الذئاب… الليلةَ نم
عندَنا… سأجعلُ يدي مخدّةً لرأسك…. يا جارُ أنت مثلُنا…غادرتنا مساءً
وستعودُ إلينا في الصباح, يا جار كنتَ تنمو مثلنا مع الأشجار وتضمحلّ
مثلنا كالرمال وتدخل العيون كالغبار… ثيابُك ملأى برائحتنا الخضراء….. مثلنا تسرق الخضارَ من الحقول وتنزع الأشواك من كفّيك, أدمنتَ الظلامَ وأدمنك صوتُ الباعة بعربات الخشب لن تمكث في مدن الضجيج والنور.
يا جارُ كلّما ناديتُك لا تبتعد….. يبتعدُ صوتُك حتّى يختفي عنّي.
الحياةُ كرفّة جَفن..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…