شريف كينو بهدوء ينشد السر الممتد في الأفق

غريب ملا زلال  

يعتبر دون كيشوت من أكثر الأسماء التي يتم تداولها في الوسط الثقافي ، بل في أكثر مواقف الحياة التي يتعرض لها الإنسان ، و هو الإسم الذي أطلقه الإسباني ميغيل دي سيرفانتيس ( 1547-1616) على روايته الأشهر في التاريخ و التي كتبها في بدايات قرن النهضة و تحديداً بين عامي ( 1605- 1615) ،ودون كيشوت هو الاسم الذي أطلقه على نفسه ألونسو كيخانو بطل الرواية المذكورة ، و الذي قال : ” لقد ولدت في العصر الحديدي لكي أبعث العصر الذهبي ” فيه يعيد أمجاد قرأ عنها ، فيحمل سلاحاً قديماً ( درع مهترىء و رمح صدىء ) ،و يركب حصاناً هزيلاً باحثاً عن معارك علها تجعل منه فارساً ، منطلقاً في نشر العدل و الدفاع عن المظلومين ، حتى تحول إلى رمز للتراث الإنساني ، منه إستوحت الثقافات الأخرى و أدخلته إلى تراثها الفكري و الأدبي ، و لعل الأقرب إلينا من الذين إستلهمهم شخصية دونكيشوت الروسي فيودور دوستوفسكي في شخصية الأمير ميشكين في روايته الأبله ، و كذلك مارك ترسن في روايته ( مغامرات هكلبيري ، و أيدموند روستند في مسرحيته ( سيرانو دي برجاك ) ،
أما تشكيلياً يكفي أن نذكر بيكاسو وسلفادور دالي و أونوريه دومييه الذين رسم كل منهم دون كيشوته الخاص به وبطريقته الخاصة ، أما نحن فسنكون بصدد الحديث عن فنان تشكيلي كردي تركي أفنى عمره مع دون كيشوت ، فأكثر من ثلاثين عاماً و هو يصارع دون كيشوت ذاته ، فإذا كانت الحياة هي مواجهة و دفاعاً عن النفس و عظمة الحياة هي في التحدي بين القوي و الضعيف حسب تعبير عمر حمدي / مالفا فهي هنا بين فناننا التشكيلي شريف كينو ( 1965) إبن ماردين وبين دون كيشوت هي مواجهة بنكهة الإختلاف ، هي حياة بملامح مختلفة ، وبتلافيف حافلة بسيرة حقول حياتية متداخلة إلى حد كبير ، فكينو الذي بات من عائلة دون كيشوت ، ولا يمكن الحديث عن أحدهما إلا وكان الآخر حاضراً معه ، يخلق سيرة جديدة له ، جديرة بقلقه الدائم على الحياة ، المسكون بمتواليات حلمية متشعبة ، فالمجال الحيوي لمغامراته يجسدها كينو في تآلفاته المفتوحة على تجربة تشكل بحق خطوة مهمة لبداية مهمة و بصبغة شكلية معاصرة حاملة لخصوصية الزمكان ، حيث كل شيء يوحي بالمأساة ، وكل حلم يتحول إلى سراب ، مع إزدياد سعير الحياة ،
 وإزدياد عسر شهقاتها ، و هذا ما يدفع كينو إلى الإستنجاد بدون كيشوت و شحن خياله و توسيع دائرة التخيل لديه ، وهذا ما يجعله يستعين بالأبيض و الأسود الأكثر قدرة على ترجمة عناصر إنسانية بتوتراتها وإنفعالاتها ، بصمتها ورائحة دخانها ، الأكثر قرباً من ظلال دون كيشوت ومغامراته ، فببساطة (عاشق شرقي ) يسافر كينو مع دون كيشوته و يرافقه في رحلته الطافحة بالألم و إرهاصاته ، المنهمرة بالقلق و إنهزامته ، وكل ذلك من أجل خلق رؤى حديثة تعمل في تحويل إشارات الداخل الدافئة نحو السطوح الباردة حتى يكتمل المشهد و إن بنوافذ صغيرة و مغلقة و بملامح تجلب الإنهزامات من كل حدب و صوب ، فهو مازال ينتظر مثل غودو عله يظفر بنصر ما و إن كان رديئاً ، و هذا ما يدفع كينو إلى خلق مصالحة مع دون كيشوت خشية من الإنكسار الكبير ، ومن موت الحلم المختزن فيه ،فيذهب به إلى ساحات الحروب و المدن المدمرة علّه يحصد رائحة ماء بوفرة لغته و تدفق جريانه ، لعل الذهول يتوالد بإستعداد روحي ،ولعل الصراخ يتحول إلى سؤال يلف الوجوه المتوهجة ويقربها من سر البحث مع دون كيشوت عن مغامرات تلازم السطوح و تتحدث عن فصول مازالت تتطلب شيئاً من اللاتوازن ، وهذا ليس غريباً فالمنطق لم يحل بعد و لم يدخل في متناول العمل ، ومن الحوار بين الأمكنة التي يلجأ إليها كينو مع دون كيشوته يفاجئك بذلك التصادم بينهما ، فذاك القادم بكثافة من ساحات ومحطات سيرفانتيس كأنه قادم من أقبية رطبة برموزه الحاملة لتراث إنساني وبمؤشراته البدائية التي ولدت في لحظة طارئة على حين أن نسخة كينو هي قريبة من جنون التراكمات المغبرة المائلة إلى إخراج اللمسات العاطفية من طقوس معاصرة تحمل كل جدل الحضور و الغياب ، وفي أثناء إرتكاب اللحظة الصعبة يتحرك كينو بدون كيشوته ضمن ضرورات موضوعية وبطاقة مقاماتها اللونية تتأرجح بين الحار و البارد بين الأبيض و الأسود نحو إحتفاءات لمشاهد لا حدود في تمزقاتها ، فالواقع بمحطاته التشخيصية و بتعبيريته الجامحة إلى البدايات يعقد كينو شقائق روحه كسجادات لحدائق الحلم الأشبه بمناظر تجريدية لا يبرحها اللون أبداً .
نعم يشكل دون كيشوت أهم مصدر إلهامي لكينو به يحرك مشهدنا اليومي ، المشهد الذي ينبض به و بحركية غزيرة ، ويراهن على فعاليته وديمومته ، فالمؤثرات حاضرة في الراهن ، فثمة حواس تبصر و تشم روائح الحدوث ومحنه ، وثمة ذهول يشوبه كيمياء الملامح المتناهية ، فلا يكفي الكشف عن زمن الإنتماء رغم تراكماته الفظيعة ، بل وبهدوء ينشد السر الممتد في أفق لانهائي حتى يتناسخ دون كيشوته أسراباً مسافرة في الحياة .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد آلوجي

من بين الشخصيات العامودية التي تركت بصمة عميقة في ذاكرتي، أولئك الذين منحوا فنهم جلَّ اهتمامهم وإبداعهم، لا سيّما في المناسبات القومية واحتفالات نوروز التي كانت دائمًا رمزًا للتجدد والحياة. ويبرز بينهم الراحل الفذ مصطفى خانو، الذي أغنى المسرح الكردي بعطائه وإحساسه الفني الرفيع، فاستطاع أن يجذب الجماهير بموهبته الصادقة وحبه الكبير…

آهين أوسو

لم يكن يوما عاديا ،نعم فترة من التوتروالقلق مررنا بها.

إنه آذار المشؤوم كعادته لايحمل سوى الألم .

استيقظت صبيحة ذاك اليوم على حركة غير طبيعية في أصابع يدي ،ماهذا يا إلهي ،أصابعي تتحرك كأنها مخلوقات حية تحاول الهروب من تحت اللحاف ،هممت بالجلوس في فراشي اتحسس يدي ،نعم إنها أصابعي التي تتحرك لاشيء…

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرة حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.
منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر وفيا لنهجه…

ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً…