الخاتم الذهبي

أحمد مرعان

حينما كنت طالبا في مدينة بعيدة وغريبة عني، لا أعرف قاطنيها ولاتربطني بهم أية علاقات اجتماعية ، أعطتني أمي خاتمها الذهبي الذي يزيد عن خمسة غرامات، تلبية لاحتياجاتي المادية والتصرف به في حين لا سمح الله دعت الحاجة والضرورة إلى ذلك ، وكان ذلك في بدايات العقد الثامن من القرن الماضي ، ولا أخفيكم سرا بأن الخاتم كان واسعا على إصبعي ، ما اضطررت إلى تسميكه بالخيوط خوفا عليه من الضياع ، أو أن ينسل دون أن أدري ، وتعودت أن أضعه على المغسلة عندما أدلك يدي بالصابون ، وهكذا تعودت لشهور عدة وربما سنين وأنا على هذا الحال دون أن أنساه ولو لمرة واحدة طوال تلك الفترة، وشاءت الأقدار أن أنساه ذات مرة على المغسلة .
وللعلم كنا ثلاثة أصدقاء مستأجري بيت عربي كما يقال ، ومفتاح الباب الرئيسي كان من النوع القديم وحجمه كبيرا وليس له نسخة إضافية ،  وكان أحد زملائنا يعمل موظفا في إحدى مؤسسات الدولة ، ويخرج قبلنا صباحا إلى دوامه ويعود بعدنا بساعات ، وبما أن صاحب الدار يملك دكانا في العقار نفسه ، كنا نستودع المفتاح الذي لا يناسب جيوبنا عنده ، كونه متواجدا طوال النهار في دكانه ..
وأثناء وجودنا في الدوام سألني صديقي المقيم معي ،  أين خاتمك ؟
هنا تذكرت نسيانه على المغسلة صباحا ، وظننت أنه أخفاه عني ، لئلا أنساه ثانية من باب التحذير ، وكان مازال شكي قائما بمعرفته بمكان الخاتم ، عدت إلى البيت وأخذت المفتاح كالعادة من صاحب الدار ، ولكني لم أر الخاتم على المغسلة المتواجدة في أرض الديار ، وكأني بتُ على يقين بأن صديقي خبأه عني ، وبعد قليل عاد صديقي الطالب متسائلا هل وجدت خاتمك ، فأجبته بابتسامة ، أعطني خاتمي بدون اللعب بالمشاعر ، ولكنه أكد لي عدم علمه ، وأنا على يقين بصدقه وأمانته ..
تناسيت الموضوع قليلا ، باعتباري كنت عازما على السفر إلى مدينتي الأم في نفس مساء ذلك اليوم ، حاول صديقي جاهدين عدولي عن السفر لحين حل تلك المشكلة التي آلمته أكثر مني ، فبادر الى سؤال صاحبنا المؤتمن على المفتاح ، هل دخل أحد ما إلى أرض الديار في غيابنا ، وهل حضر صديقنا الموظف اليوم إلى البيت قبل مجيئنا ، وكان الجواب بعدم حدوث أي طارئ نهائيا ، وصديقي الوفي توسع في التحقيق مع صاحبنا، وتردد إليه مرات كثيرة ، ما أثار غضبه لكثرة الأسئلة مدعيا عدم السماح له بالسؤال مرة آخرى .
نفذت رغبتي في السفر ، وبعد عودتي أصر صديقي على ملاحقة خيوط المسألة وكشف الحقيقة .
أصبح صاحبنا المؤتمن تتضارب أقواله بين الفينة والأخرى ليخرج نفسه من المأزق الذي وقع فيه ، فتارة يقول لي
يجوز أن اطفال الحي قد دخلوا الدار ، وتارة أخرى يعود مستذكرا بأن موظف شركة المياه الذي يأخذ عداد الساعة حضر بنفس اليوم ولم يفتح له الباب ، وأنه حاول القفز على الجدار ، رغم ارتفاعه الذي يزيد عن المترين لكي يأخذ تأشيرة ساعة المياه .
وهذا ما أثار شكوكنا أكثر نتيجة لتضارب اقواله كما أسلفت ، طبعا ظنا منه أننا غرباء ولا يمكننا الوصول إلى الموظف أو الاستدلال إليه .
وفي اليوم التالي ذهبنا إلى مؤسسة المياه وسألنا عن الموظف المسؤول عن الشارع ، فكان في مهمة لعمله لإحضار قراءات العددادات إلى مصلحة المياه وتسليمها قبل نهاية الدوام ، ونحن لا نعرف اسمه ولا شكله، بقينا ننتظر في ساحة المؤسسة لحين حضوره ، وعند حضوره أعلمه زملاؤه بأن هؤلاء الشباب يسألون عنك ، وفي تلك الفترة كانت أحداث الإخوان قائمة في البلد ، والناس ترتاب حين السؤال عنهم ، وخاصة من قبل وجوه غير مألوفة لديهم ، فتقدم إلينا على مضض معرفا بنفسه بكل أدب وإمكانية تقديم أي مساعدة ، قدرنا هذا الموقف ، وتقدمت أنا بدوري تقديرا للحالة العامة معرفا بأنفسنا ، وسبب حضورنا بشكل مقتضب لإخراجه من حالة الشك ، وبأنه مجرد سؤال يحتاج الى جواب منك حصرا للوصول الى الحقيقة..
وهنا كأنه تنفس الصعداء مجيبا : بما أنكم غرباء عن المدينة وتعتبرون بعرف العادة ضيوفا لدينا ، أرجو حضوركم معي إلى البيت لتناول طعام الغداء ، وسأجيبكم عن كل استفساراتكم وبما تشاؤون .
ومن شوقنا للوصول الى النتيجة اعتذرنا ، وأصررنا على ذهابه معنا لمواجهة صاحب الدار بالحقيقة .
وعند عودتنا لمح صاحبنا من بعيد بوجود الموظف معنا ، وما أن دخلنا الدار ، حتى أغلق صاحبنا محله وغادر فورا ، تجاهلنا الموقف ، ولكنه عاد بعد وقت قصير وكأنه أدرك خطأه بتلك المبادرة ، والآن بدأت المواجهة بين المؤتمن والمدعى عليه ، وفي سياق حديثه أنكر قوله باتهام موظف المياه ، وأجاز في الاختصار للهروب من الموقف متجها إليَّ بالسؤال : ماذا تريد مني ، أنا على استعداد لشراء خاتم لك شبيه بخاتمك المفقود ، والحديث بهذا الموضوع لا يليق بي وأنا رجل مسن ، ولدي أملاك ، ولست بحاجة ، وأنا في غنى عن هذه المواقف .
قاطعته .. بأني أملك شرطين فقط لا ثالث لهما ..
اولا : إذا اعترفت بأخذ الخاتم أمام هذه الجماعة ،  فسأتنازل عن حقي ، وأسامحك في الدنيا والآخرة ، وكأن شيئا لم يكن .
ثانيا  : وإما أن تحلف على المصحف ، بأن لا علم ولا علاقة لك بالخاتم .
وحينها أعتبر أن حقي قد وصلني بحسب القاعدة الشرعية ( البيّنة على من ادعى ، واليمين على من أنكر) .
بداية وبردة فعل أجاب : سأحلف على المصحف .
فقلت له : إذا تفضل بالذهاب الى الجامع ، فأجابني معتذرا ، هذا لا يليق بي أمام الموجودين في الجامع وأغلبهم يعرفونني .
فقلت : إذا سأذهب أنا وأحضر المصحف ، لتحلف عليه أمام هذه الجماعة ، ولموقفه المحرج ، وحصاره ، قام ناهضا جازعا ، منكرا لما قاله ، وعدم قبوله بالقسم ، وخرج مسرعا .
المهم.. توصلنا إلى براءة الموظف الذي أبدى لنا استعداده بتقديم ما أمكن من مساعدة إذا تطلب الأمر للوصول إلى النتيجة مشكورا..
وفي المساء حضر أحد أبناء صاحبنا ، غاضبا ، قلقا، عنفوانيا ، مدعيا عدم القبول باتهام والده ، الغير مناسب لسنه ومكانته وإمكانياته المادية .
فأجبته عذرا أخي : القول المأثور في المحاكم يقول : المتهم بريء حتى تثبت إدانته ، ومدان حتى تثبت براءته ، اليس كذلك .
فأجاب: أي اتهام وأية براءة تتحدث عنها ، باختصار نحن لن نقبل بهذا الحديث عن أبينا .
فأجبته : دعني أكمل لك ، فأنت الخصم  وأنت الحكم ، فأجابني: هات ما عندك لنرى ..
وبعد أن سردت له الأحداث بأمانة ، صمت ، ولم يرد ببنت شفة ، وغادرنا دون رد ..
وفي الليلة التالية .. حضر أخوه الأكبر ، وكأنه توصل إلى قناعة من تسلسل الأحداث المروية له من قبل أخيه الأصغر التي سمعها ليلة أمس ..
فبدأ حديثه بليونة ولباقة ، محاولا تبرئة والده من التهمة حينا ، وإصراره على شراء خاتم لي حينا آخر ، دون أن نثير الموضوع لعدم تناسب ما ندعيه بحق أبيه ..
فأجبته : إذا كان هذا ردك ، وعدم لباقة ما أقوله بحق أبيك ، لماذا ستشتري لي خاتما..
فرد عليَّ : للسكوت على الموضوع ، وبأنك ستحصل على خاتمك في النهاية ، ويكون بذلك قد حققت ماتريد ..
فقلت : عذرا ، لا أقبل بحق فيه شك ، وضياع الحقيقة لاعتبارات اجتماعية ..
وأجبته : الآن تأكدت وتوصلت إلى الحقيقة ، وبذلك أتنازل عن حقي ..
ونتيحة للتدخلات من هنا وهناك ، أحضروا لي خاتما لا يتجاوز الغرامين بدلا عن خاتمي الضائع الذي كان يزيد عن الخمس غرامات ..
وفي النهاية.. أوجه تحية شكر وتقدير لزملائي الذين لم يسكتوا على ضيم ..
ولأمي الحنونة والحكيمة  ( رحمها الله )..
والشكر لكم ، للمتابعة الى النهاية …..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…