فدوى حسين
..يا راحلين عن الأوطان خلوا الرحيل وحيدا وعودوا
لا تلهثوا خلف الشمس فهي للأوطان بعد حين ستعود…..
بدأت الشمس تلملم ماتبقّى من نورها معلنة رحيلها، ليبدأ الظلام بالتسلل شيئا فشيئا، وتخّيم العتمة علينا في تلك الحفرة التي انتظرنا فيها ساعاتٍ طوال حلول الظلام لبدء الهروب من المجهول إلى المجهول، كنت قد جمعت في حقيبة ٍصغيرةٍ بعض الثياب والضروريات والكثير من الذكريات، وأشلاء وطن مغتصب منكوب، وتركت خلفي روحا ًمكلومة أبت أن ترحل معي، لم أستطع انتزاعها من جدران البيت وشجرة الرمان، من أرجوحة صغيرتي، من سماء مدينتي وهوائها، بقيت متشبثة ًبحبات التراب هنالك لم تقبل الرحيل معي. قال الرجل الذي اصطحبنا الى تلك الحفرة أنا وزوجي وصغيرتي ذات السنوات الخمس بين الحدود السورية و كردستان العراق: أن علينا الانتظار حتى وصول باقي أفراد المجموعة التي ستذهب معنا بحلول الظلام،
ركب الجميع وانطلقت السيارات إلى أقرب نقطةٍ حدودية ليتم العبور من هناك، سالكة ًالطرق الترابية بعيداًعن الأنظار في سرعة ٍشبه جنونية كادت أن تودي بنا أكثر من مرة، إلى أن استقر بنا الأمر قرب إحدى القرى الحدودية. تجمّعنا منتظرين التحرك بعد منتصف الليل بحسب المهرب الذي طلب من الجميع التزام الهدوء، وعدم استخدام الهواتف وإشعال السجائر حتى لا يلحظ أحد وجودنا وذلك بلغةٍ سوقية ٍوألفاظ نابية ووقاحةٍ مبالغ فيها، والجميع يسمع ويصُمت، نعم فنحن شعب ارتضى الذل لسنوات طوال! فلا ضير لو تحملناها مرة أخرى هنا في سعينا للنجاة.
في ذلك اليوم الذي لن يفارق ذاكرتي، رأيت كيف تُهدر الكرامة! الثورة السورية لم تكن ثورة جياع، بل كانت ثورة ترنو للحرية المغتصبة منذ زمن بعيد، ثورة كرامة، هذه الكرامة التي استبيحت في معظم المدن السورية وأراها تُداس تحت أقدام وجبروت هؤلاء المهربين، فهم يشتمون ويضربون شاباً تعلو ملامحه العزة والعنفوان لأنه طالبهم الالتزام بالاتفاق بيننا، وآخر ينهر رجلاً كبيرا ً في العمر ويشتمه بأبشع الألفاظ لأنه أشعل سيجارة، ويصرخ آخر في وجه سيدة مرضع، ويهددها بأن يتركها مكانها إن لم تسكت رضيعها فتضطر أن تضع يدها على فمه لكتم صوته، ابنتي الصغيرة تبكي من العطش دون أن يرد عليها أحد، حتى فكرت أن أطلب من إحدى المرضعات أن ترضعها القليل من الحليب علّه يروي ظمأها، رأيت ونحن نمتطي الخيول كيف أن أحد المهربين يتلمس جسد السيدة خلفه وهي تزداد التصاقا به مبتسمة! وأخذت اسأل نفسي هل تستحق الكرامة التي نسعى إليها أن نهدر ما تبقى لدينا من كرامة؟ ومضى الوقت ثقيلاً في هدوء وترقب إلى أن أيقظ صوت أحد المهربين طفلتي التي هدّها التعب والجوع والعطش، فقالت أمي أريد أن أنام نظرت حولي كانت الأرض مليئة بأعواد الخشب والقش والحجارة فخشيت على جسدها الغض، ففرشت لها جسدي لتنام قليلا، استفاقت صغيرتي من صياح الرجل وجلبة الخيول التي أحضرها أصحابها لنقلنا عبر الحدود. أكثر من خمسة عشر حصاناً اعتاد أصحابها هذه المغامرة كل ليلة لنقل اللاجئين الهاربين عبر الحدود مقابل مبلغ مالي، امتطيت أحد الأحصنة خلف صاحبه الذي كان شابا في مقتبل العمر وبقيت صغيرتي مع والدها على حصان آخر، وبدأنا المسير بخوف وحذر وبعد مضي أكثر من ساعتين، اجتزنا الأراضي السورية ونحن الآن داخل الأراضي العراقية قالها الشاب: فسألته فرحةً هل أصبحنا في أمان؟ فرد قائلاً ليس بعد، فهناك حرس الحدود ينتشرون بكثرة في هذه المنطقة علينا تجاوزهم.
تابعنا السير بعض الوقت وبدأ صوت إطلاق النار يشق الهدوء فدب الرعب والهلع المكان، وجفلت الخيول، تعالى صراخ المهربين تمسكوا اهربوا، وبدأت الخيول تسابق الريح فتناهى إلى مسمعيّ صراخ صغيرتي تناديني باكية ًالتفت إليها فرأيتها مع والدها مرميين على الأرض، وهي تنظر الي وتبكي، عيناها الصغيرتان تلاحقني وأنا ابتعد عنها وأشعر بأن قلبي يتدحرج خلفي والحصان يمضي بسرعة، توسلت الشاب أن يعود إليهم فبدأت أصرخ وأبكي دون جدوى ما يهمه من الأمر أن يوصلني الى المكان المتفق عليه ويأخذ نقوده. هم تجارُ بشرٍ بامتياز، فارقتهم الإنسانية ، حاول تهدئتي اصمتي سوف يلحقون بنا هذا يحدث معنا كثيراً لكن قلبي المنفطر لم يصدقه وتابعت التوسل إليه وهو يتابع الابتعاد بسرعة ٍأكثر إلى أن أخذ يهددني بأنه سيرميني في هذا الخلاء لو لم أسكت، لم يكن هناك غيرنا فكل واحدٍ منهم سلك طريقاً ، وما هي إلا دقائق حتى بدأت ألمح آخرين قربنا، وهكذا حتى اجتمع الجميع إلا من صغيرتي وزوجي ، فتابعتُ معهم مرغمةً سيراً على الأقدام، سقطتُ عدة مرات فقد خارت قواي، حتى وصلنا ضفاف نهر دجلة مع بزوغ الفجر ركبنا زوارق وانتقلنا للضفة الأخرى وعقلي وروحي مذهولان مشتتان لم أعد أشعر بشيء بقيت صامتة وأخذت أقنع نفسي بأنهم سيلحقون بنا كما قالوا لي. وصلت لعند أقارب لي كانوا في انتظاري وبقيت أتلوى في ألمي وخوفي إلى أن حل المساء، أتصل زوجي وكلمني بصوت متهدجٍ مكلوم: نحن بخير نحن في المشفى، ابنتك في غرفة العمليات، وهي بخير ننتظر أن تستفيق من البنج لتكلميها وتطمئني عليها.
كان سقوطها من على الحصان قد تسبب في كسر عظام فخدها، تابع كلامه: عندما حاولنا النهوض واللحاق بكم علمت بأن ساقها ُكسرت، فحملتها وتابعت المسير. كانت صدى كلماته تئنُّ في قلبي المفجوع، سار بها في تلك الأرض الوعرة قرابة الساعتين دون أن يعرفَ وجهتهُ، فالتجأ إلى إحدى القرى التي استدل عليها بأضوائها، طرق أحد الأبواب وطلب المساعدة لإسعاف الصغيرة وعلاجها، لكن صاحب البيت أخبر الشرطة الذين أتوا لأخذهم وتسليمهم لحرس الحدود الذين قاموا بإعادتهم إلى الأراضي السورية وتسليمهم للجهات المسؤولة هناك. كل ذلك مع التوسلات لعلاج الصغيرة دون جدوى واستمرت هذه الإجراءات ليصل الى المشفى ليلًا، حيث استدعت حالتها إجراء عملية لوضع صفائح حديدية لعظام الفخذ، بدأت أشعر بأن قلبي أنهكه النبض، وأن الأرض لم تعد تحتمل خطواتي المرتبكة عليها وبقيت انتظر أن يطمئن قلبي عليها لكن في تلك اللحظات تذكرت جارتي حياة النازحة من حلب إثر انهيار منزلها بأحد البراميل المتفجرة الذي قضى فيها زوجها وأحد أطفالها حاملة مع أوجاعها شظيًة في جسدها شاهدةً على المأساة، وبعد فترة من الزمن خضعت لعملية جراحية لاستخراجها من جسدها لكن الروح هي التي فارقت جسدها بعد نجاح العملية، فهي لم تستفق من البنج الذي كانت جرعته زائدة. تسرب الخوف إلى قلبي وأنا أتذكرها هل يمكن أن يحدث لصغيرتي ما حدث معها؟ وبقيت أعد الثواني وأنتظر ولازلت انتظر. هل انتظر أن تستفيق صغيرتي من البنج؟ أم من ذكرى أليمة لن تفارقها …أم أنتظر عودة وطن ضاع بين براثن ناهبيه؟ أم أنتظر أن يستيقظ ضمير الإنسانية لوضع حد للجرح السوري النازف.