قراءة في «ذئب المنفى وعصافير الثلج» للشاعر كمال جمال بك

علاء شقير

مع بداية هذا العام 2021 صدرت للشاعر السوري كمال جمال بك مجموعته الشعرية السابعة ذئب المنفى وعصافير الثلج عن دار “Kultur Soncag” للنشر والتوزيع في (أنقرة/تركيا)، بمئة وصفحتين من القطع المتوسط، متضمنة خمسين قصيدة ( نصان نثريان والباقي تنتمي إلى قصيدة التفعيلة). 
بداية يستوقفك الغلاف، وهو من تصميم الشاعر حسن إبراهيم، وللمرة الأولى تحمل مجموعة من مجموعات الشاعر صورته الشخصية، والتي تأتي في سياقٍ متناغم مع العنوان والمضمون، اذ ربما تعمد الشاعر انتقاء هذه اللقطة الجانبية له، وهو يُطعم بيده شحروراً من طيور المنفى قاصداً أن يكون الذئب المستأنس من دون افتراس، والمنفي لعزة نفسه.
أما الإهداء الذي حمل عنوان ” القماط ” فكان مفارقة زمانية مكانية لا تغفل فيها الوصية المنقولة من جد الشاعر السوري  إلى حفيديه السويديين – السوريين عن المطالبة بالحق كاملاً.
” إلى العُصفُورين السُّويديين السُّوريين
حفيدي أمير وليون ثمرة أنور ونيكول:
لمَّا اسْتَوْلَتِ الحُكُوْمَةُ ظُلْماً عَلَىْ أَرْضهِ، لَاْحَقَهَا قَانُوْنِيّاً، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ إِعَادَةَ أَجْزَاءٍ مِنْهَا. غَيْرَ أَنَّ جَدّيْ لأُمّيْ المُطَوّف عَبْدُ الله الخَلِيْل – الّذِيْ أَهْدَانِيْ قَبْلَ وِلَاْدَتِيْ حِزَامَهُ الحَرِيْرِيَّ المُخْمَلِيَّ لِيَكُوْنَ قِمَاطِيْ –  قَالَ لَهُمْ:  ” يَا كُلْهَا يَا الذّيْبْ يَاكُلْهَا “.
وبين بيتين لا بوصفهما ارتكازاً مكانياً بقدر ما يحملان من زمن وذاكرة، يصوغ جمال بك جملته الشعرية شاحناً إياها بطاقة من الوجع والحنين والكثير الكثير من الحب والبحث عن وطن.   
أما البيت الأول فهو ” بَيْت بُيُوْت ” العطش المتجذر إلى الدفء والأمان والنقاء.
” بَيْتٌ مَسْرُوْق:
نَهْرِيْ حَافِيْ القَدَمَيْنْ
تَجْرَحُهُ أَحْجَارُ القَاعِ
بَيْتُ السَارِق:
فَصَّلْتُ لَهُ رُوْحِيْ/ قَلْبِيْ خُفَّيْنْ
كَيْ لَاْ تَنْمُوْ أَشْجَارُ الأَوْجَاعِ “.
وأما البيت الثاني / فهو النص الأخير  ” بـــــيْـــــتُـــــنَـــــا ” ومنه أقتبس :
-” مَسَاؤُكِ فُلٌّ
*  مَسَاؤُكَ أَبْهَىْ
وَإِذْ تَتَثَاءَبُ مَنْفَضَةٌ يَتَرَمَّدُ فِيْهَا الكَلَاْمُ
يَنَامُ المَنَامُ
فَيَصْحُوْ الحَنِيْنُ لِبَيْتٍ صَغِيْرٍ.. وَفِيْهِ نَنَام ” 
وهذا النص الوحيد المذيّل مكانياً دمشق 2010 
وليس هذان البيتان الآمنان الوحيدين في المجموعة، اذ حضر البيت كثيرا كملاذ دافئٍ في وحشة المنفى فكان نص ” بيت الحارة ” ونص ” بيت الغريب ” 
وبقدر ما يحضر البيت كمعامل نفسي ترتكز عليه الأنا المغدورة بفجيعة عامة، بقدر ما يحضر الألم والكفن والقبر والثلج والموت، في انزياحات متواترة بين الذاكرة والمنفى الذي تحضر فيه الاشياء مغتربة عن كينونتها،  فلا الشجرة تشبه تلك الشجرة ولا العصفور كالعصفور الذي يغرد في الذاكرة ولا الجدار ولا الشمس ولا الريح ولا الصبح ولا الديك ولا أي شيء … فكل ما يدور في فلك الشاعر في تلك البلاد يختلف كل الاختلاف عما في ذاكرته البعيدة.
” أَشْجَارِيْ فِيْ المَنْفَىْ غِيْلَاْنٌ أَوْ أَشْبَاحُ
: الشَّجَرُ المَقْلُوْعُ بِلَاْ جَذْرٍ
وَالشَّجَرُ بِلَاْ نَهْرٍ
وَالشَّجَرُ المَقْطُوْعُ بِلَاْ فَرْعٍ
وَالشَّجَرُ بِلَاْ نَاطُوْرٍ فِيْ بُسْتَانْ
وَالشَّجَرُ بِلَاْ أَغْصَانْ
وَالشَّجَرُ بِلَاْ ثَمَرٍ
وَالشَّجَرُ المَقْذُوْفُ بِأَحْجَارِ الأَبْنَاءِ المَنْفِيّينْ
وَالشَّجَرُ بِلَاْ زَيْتُوْنٍ أَوْ رُمَّانٍ أَوْ تِيْنْ
وَالشَّجَرُ المُتَعَرْبِشُ كَالوَرْدِ بِلَاْ رَائِحةٍ أَوْ عِطْرٍ
وَالشَّجَرُ المَلْعُوْنُ بِآيَاتِ القُرْآنْ
– وَالمَبْذُوْلُ لِكُلّ دَوَابِ الأَرْضِ وَطَائِرِهَا – التُّفَّاحُ..
وَلَوْلَاْ التُّفَّاحُ تُرَىْ هَلْ كَانَ الإنْسَانْ؟
فِيْ المَنْفَىْ لِيْ أَطْيَارٌ أَيْضاً
: دِيْكٌ يَغْفُوْ الفَجْرَ..
وَلَاْ يُوْقِظُ شَمْساً
أَوْ يُسْمَعُ لِلّدِيْكِ صِيَاحُ “
 ومن القصيدة نفسها ( ثياب المنفى ) يقول أيضاً:
” يَا اللهُ
تَعِبْتُ، تَعِبْتُ، تَعِبْتُ
فَأيْنَ المِفْتَاحُ؟
أَشْجَارِيْ غَيْرُ الأَشْجَارِ!
وَطُيُوْرِيْ غَيْرُ الأَطْيَارِ!
يَا اللهُ
أَعِرْنِيْ كَفَناً
يَسْتُرُنِيْ فِيْ وَطَنٍ حُرّ مَا كَانَ لَنَا وَطَناً
ثَوْبُ العُرْيِ هُنَا فِيْ المَنْفَىْ فَضَّاحُ “.
في البناء الفني تحضر الموسيقى الشعرية عبر الايقاع المنسجم والمتواتر مع روح الحالة والسياق النفسي للنص، والتي تبلغ حد الغنائية المتصاعدة كما في قصيدتي (روح التمرد) و (الفرح المنثور) :
” لَاْتَيْأَسْ إنْ نَامَتْ شَمْسٌ
فَلَنَا مِنْ غَدِهَا أَمَلٌ  
وَلَهَا نُوْرٌ لَاْ يَنْحَبِسُ
وَلَهَا أَجْرَاسٌ إِنْ ضَحِكَتْ
فِيْ ضِحْكَتِهَا يَحْلُوْ الغَرْسُ
لَاْ تَحْبِسْ دَمْعَاتِكَ كَرْباً
فِيْ مَبْسَمِهَا يَزهُوْ عُرْسُ
لَاْ تُجْفِلْهَا فِيْ مَخْدَعِهَا
بِأَنِيْنِ عُوَاءٍ كَيْ تُشْفَىْ
مِنْ وَطَنٍ ضَاعَ وَمِنْ مَنْفَىْ
أَوْ مِنْ فَخَّارٍ مَكْسُوْرِ … “
تبقى الشام قبلة الشاعر وهاجسه، لكن الاغتراب صار أكبر دلالة ليشملنا كقضية، فالاغتراب عن ذواتنا أشد ايلاماً ووجعاً، ولا نجد في قصائد كمال جمال بك ذاك التناول التقليدي بل انه لا يتردد في معاتبة بلاد خذلته، فيبنيها حيناً، ويهدمها حيناً، ثم يمسك بها من وجع التفاصيل الصغيرة القاتلة كما في قصيدة ( الهواتف الكاذبة ) وكما في (بعد منتصف القهر) حين يخيم شبح الموت ثقيلاً لزجاً في هواء الغربة، ثم تتخلله ابتسامة مزيفة لالتقاط صورة العيد لأجل الأهل.
” وَحْدَهُمَا 
نَامَا هُناكَ مِثْلَ جُثَّتَيْنْ
فِيْ الرَّاحَتَيْنْ
فِيْ غُرْفَتَيْنْ
نَهْرٌ وَنَخْلَةٌ هُنَا بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ مِتْرَيْنْ
أمٌّ – عَلَىْ نَخْلَتِهَا الصُّغْرَىْ الشَّهِيْدَهْ  –
تَحْبِسُ فِيْ مِجْمَرَةِ العَيْنَيْنْ
قَهْراً يَفِيْضُ حُرْقَةً 
– وَنَخْلَةُ المَنْفَىْ هُنَا وَحِيْدَهْ – !
والنَّهْرُ فِيْ وَحْشَتِهِ يَبْكِيْ صَبَاحَ العِيْدِ ضِفَتَيْنْ
تَزَحْلَقَتْ رِجْلَاْهُ فَيْ الثُّلُوْجِ ، صَارَ المَاءُ فِلْقَتَيْنْ
نَامَ المَسَاءْ
وَوَحْدَهُ ظَلَّ عَلَىْ الطَّاوِلَةِ الغَدَاءْ
 طَعَامَ عُصْفُوْرَيْنْ
وَحْدَهُمَا كَانَا هُنَااك مِثْلَ خَيْمَتَيْنْ
بَسَّامَتَيْنْ
فِيْ صُوْرَةِ الذّكْرَىْ
تِلْكَ الأَنَا الأُخْرَىْ
يُرْسِلُهَا لأَهْلِهِ فِيْ العِيْدِ وَرْدَتَيْنْ “
ذئب المنفى وعصافير الثلج  إحدى المجموعات الفارقة التي توثق  شعريا  ارتدادات السوريين ومشاعرهم  بعدما ضاقت بهم سبل الحياة الكريمة وتناثروا  في الشتات و المنافي .
كمال جمال بك مواليد مدينة البوكمال 1964 . صدرت له: 
1 ـ فصول لأحلام الفرات، دمشق 1992.
2 ـ بعد منتصف القلب، وزارة الثقافة، دمشق، 1994.
3 ـ سنابل الرماد، دمشق، 1995.
4 ـ فاتحة التكوين، دمشق 1996.
5ـ مرثية الفرات العتيق، دمشق، 2000
6ـ جسر الضلوع وهذه قصيدتي، العائدون للنشر،الأردن،2020

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاوره: إدريس سالم

تنهض جميع نصوصي الروائية دون استثناء على أرضية واقعية، أعيشها حقيقة كسيرة حياة، إلا إن أسلوب الواقعية السحرية والكوابيس والهلوسات وأحلام اليقظة، هو ما ينقلها من واقعيتها ووثائقيتها المباشرة، إلى نصوص عبثية هلامية، تبدو كأنها منفصلة عن أصولها. لم أكتب في أيّ مرّة أبداً نصّاً متخيّلاً؛ فما يمدّني به الواقع هو أكبر من…

ابراهيم البليهي

منذ أكثر من قرنين؛ جرى ويجري تجهيلٌ للأجيال في العالم الإسلامي؛ فيتكرر القول بأننا نحن العرب والمسلمين؛ قد تخلَّفنا وتراجعنا عن عَظَمَةِ أسلافنا وهذا القول خادع، ومضلل، وغير حقيقي، ولا موضوعي، ويتنافى مع حقائق التاريخ، ويتجاهل التغيرات النوعية التي طرأت على الحضارة الإنسانية فقد تغيرت مكَوِّنات، ومقومات، وعناصر الحضارة؛ فالحضارة في العصر الحديث؛ قد غيَّرت…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية ، وخَصائصِها الحقيقية ، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه ، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية ، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان ، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة…

فواز عبدي

يقال إن الأمثال خلاصة الحكمة الشعبية، لكن هناك أمثال في تراثنا وتراث المنطقة باتت اليوم تحتاج إلى إعادة تدوير عاجلة… أو رميها في أقرب سلة مهملات، مع بقايا تصريحات بعض المسؤولين. مثال على ذلك: المثل “الذهبي” الذي يخرجه البعض من جيبهم بمجرد أن يسمعوا نقداً أو ملاحظة: “القافلة تسير والكلاب تنبح” كأداة جاهزة لإسكات…