شظايا الغياب

خالد إبراهيم

ها قد أقبل العيد مرة أخرى، ستنتعش الهواتف النقالة ببريق المعايدات الظافرة بالشرف والكرامة، بالرسائل الرنانة، والعشق المدثر الخبيث، وتوحيد الله الذي لا شريك له.
العيد القادمُ إليَّ عبر نقالة جثث الأموات، وأنفاق القطارات وبرد المحطات، وصلادة الوجوه التي تشطرني إلى شطرين، هنا في هذا المشفى اليابس مثل المقبرة.
يا هذا النصل الذي يعبثُ في أمعائي الخاوية، يا هذا الموت الجاف البارد مثل صحراء تعوي بلا تخوم ونخيل وبحيرات، ستبوح بي كل الطيور المهاجرة، وسيغني لي ضجر الصيادين التائهين عن شاطئ يغلي بمرارة الترحال والغياب، ستبحثُ فراخ الحمائم عن أعشاشها وعن الوجوه العابرة، والقَتلة عن ضحاياهم العراة، والأوطان إلى رجالاتها، وثلاجات الموتى عن أجساداً جدد.
ها قد أقبل العيد مرة أخرى يا ابنتي، تعالي، قفي على بحة نايات قلبي، على جنازتي ستقفين يوماً، وعندها ستدركين أني اصطنعتكِ مطراً لا حجراً، وأهديتكِ أقمار عمري، وقطفتُ نجوم الثريا لتضيء حياتكِ، لن أعاتبكِ يوماً، وإن كنتُ كلمح خاطرة لديكِ أو حتى نسيتِ ملامح وجهي، فشكراً للزمن، وشكراً لكِ يا حمامتي  البيضاء، سأرتب أحلامكِ عقداً جميلاً مطرزاً بالأمل وأنام واقفاً لأجلكِ.
تعالي واجلبي لي السكاكر التي تشتهين، البسي أجمل الثياب التي لديكِ، عطّري نفسكِ وكأنكِ عاشقة وتقدمي نحوي مبتسمة وشهية مثل تفاحة
شكراً لهذا الزمن الذي زرع على وجهي ألواحٍ من تنك اليقين المهترئ، شكرا لأنني ما زلتُ أبصرُ بعينيَّ!
شكراً لأنني ما زلتُ أرى الألوان على شاكلتها البرزخية المموهة في ضباب أمطار الصيف والنابع من ترياق مبتل من بول المشردين والأموات!
شكراً لأنني انجبتُ طفلة في أخر أيامي، طفلةً أتنفسها، أشربها، تشربني، آكلها وتأكلني، أضربها بقلبي وتضربني بعينيها، أشمُّ رائحة ثيابها لأموت وأحيها من جديد، اعصرها بيقين، وتعصرني بأناتِ شوقها، وأرداء المدن الساقطة على بقعة هذا الكون الفارغ من مضمونه المسلول.
شكراً لكم أيها الحضور المزيف، أيها العابرين بين أنفاسي، وجنون أصابعي وهي تنزف ( peri ) في اللحظة عشرات المرات، في مقود السيارة، وعجلات السيارة، ما بين أسّرة المرضى، وبرد غرف الإسعاف، ونظرات النازيين الألمان.
شكراً لكل الكلاب الأوفياء، وجميع النساء العاهرات، ولأنني صبغتُ شيب شعري وأنا في الثلاثين من العمر، وكل الشكر لأننا نتقاذف سموم هذه الحياة ونحن ندعي أننا أحياء وأقوياء.
شكراً لأنني تنصلتُ من مزراب القوة، القوة التي تظهر بعد اختناق الأعين وشرايين القلوب، ولأنكِ من ضلعي، ومن نترات قوانين الصلابة التي اسقيتها بدماء ( مم وين ) 
أرفعي رأسكَ عالياً، مدي يديكِ، تلمسي جسدي، احمليني عبر بوابة قلبكِ الرطب البريء، لأهمس بوجه هذا التعب:
ما زلت أذكر يوم أبصرتِ نور الحياة.. تلقَفك قلبي وضمّك ولم يزل.. لم أرَ طفلة بروعتكِ  وجاذبيتك.. أنتِ كل هذا الكون، هدير الطائرات، وقساوة سكك الحديد، ورجّفة القطارات والمحطات،  ولكنكِ في عيني تلك الطفلة التي هزّت كياني مذ عانقتها للمرة الأولى.. أذكر في بعض الأحايين كيف كنت أنظر إليك وأتساءل: هل هذه هي الوردة التي نبتت في قلبي قبل أن تراها عيني؟! سبحان من رزق وقدَّر!
وشاء لك الله جل وعلا أن تعاقري الحياة وأنت بعد فتيّة.. وتتقلّبي بين جنباتها لتدركي أنها دار ابتلاء حين كان غيرك يعيشها ويذوق من عسلها شهداً.. وهذا الانصهار هو مَا يقوّي عودك ويجعلك إنسانة قادرة على مواجهة الحياة.. وتلك المحن هي ما يزيدك وعياً وعمقاً.. هكذا أنظر إلى تلك المساحة من الألم في حياتك.. فبالرغم من مرارتها إلا أنها خضراء تُنبت إصراراً وقُربا!
ولهذا الترف القاهر، سأختار أبعد الأماكن ألماً ووحدة وعتمة ووحشة، لعلي ألملمُ بقايا نفسي من بين أكوام الركام التي خلفها قلبي الطيب، ولكنَّ روحي ستبقى هائمة مثل بجعة بيضاء، تحلق فوق الأماكن التي بكيت فيها مراتٍ ومرات
أحياناً كثيرة ألتزم الصمت وأجدني أكلّم نفسي بمكنون قلبي وأُحاول إيصاله إليك عبر ذبذبات سرعان ما تعود لتستقر في خَلَدي دون بوحٍ صريح.. وأُسلّم أنك لا بد وأن تكوني قد فهمتِ عليّ ووصَلَتك تلك التمتمات.. لأكتشف بعد حين أن الزفرات إن لم تخرج تبقى حبيسة النَفس فلا تؤتي أُكُلها.. ولا فائدة من الندم على الصمت المعتَّق في وقت يكون فيه الكلام فرضاً.. والانزواء ضرباً من الغباء!
آه 
لماذا يحلُّ الليل هكذا حزينا وكئيبا؟
كم أشتهي أن أمارس القتل ضد هالتكَ المظلمة يا ليلُ، ولكنني أحبكَ أحياناً، أنتَ الوحيد الذي يغطي أوجاعنا وآلامنا، وأسرارنا.
أردتُ بهذه الرسائل – المتتابعة- وردتي الغالية أن أبوح.. لتبقى هذه العبارات التي أستقيها من روحي زاداً لكِ على الطريق يوم تحتاجين لصديق.. قد أكون في مكان ما لا يصل صوتي إليك.. ولكن اعلمي أن قلبي سيبقى يحتويك وإن واراه الثرى!
هل ستقفين على قبري يوماً؟
لا تنسي الوردة الحمراء، دثريها بأنفاسكِ، أريد زفيركِ الذي يخرج من صدركِ، أريد أن أشمكِ جيداً ثم جيداً ثم جيداً، وبقدميكِ أنثري بقايا التراب من حولي، وقولي: أنا هنا يا بابا
لا ندري ما تصنعه لنا الأيام والأقدار، ربما سنموت جميعاً في ضربة واحدة بوباء عالمي جديد، ربما هناك حرب عالمية رابعة وخامسة، ربما ستحين الساعة وستحل علينا رحمة الله والقيامة تفعل فعلتها، تذكري قول ابن القيِّم رحمه الله تعالى: “إنّ في القلب شعثاً لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يُزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيرانُ حسراتٍ لا يُطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدّها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطي الدنيا وما فيها لم تُسد تلك الفاقة أبدا!!”
هلمّي (Peri).. فتعلّمي إدارة ذاتك لتحبّيها.. وشمّري للمسير.. فإن لم يكن من الخَلق أحد معك.. لا تعجِزي.. فمعك رب الأكوان والعالمين..
ثم تيقّني.. أنّ قلبي معك، ولكن ما ظفِرتك عيني منذ زمن!!
واعلمي أن العُود لا يزيده الاحتراق إلا طيباً
” أباكِ خالد إبراهيم ” 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…

رضوان شيخو
وهذا الوقت يمضي مثل برق
ونحن في ثناياه شظايا
ونسرع كل ناحية خفافا
تلاقينا المصائب والمنايا
أتلعب، يا زمان بنا جميعا
وترمينا بأحضان الزوايا؟
وتجرح، ثم تشفي كل جرح،
تداوينا بمعيار النوايا ؟
وتشعل، ثم تطفئ كل تار
تثار ضمن قلبي والحشايا؟
وهذا من صنيعك، يا زمان:
لقد شيبت شعري والخلايا
فليت العمر كان بلا زمان
وليت العيش كان بلا…