خالد إبراهيم
سأخرج اليوم وعلى كاهلي تزدحم الصدف، ولا بد لي من استقبال وخزات الخناجر، وأن أكون على استعداد تام لتغير مجرى الأيام والتاريخ
23/7/2021 أنتظر أحد الأصدقاء ليقود عوضا عني سيارتي، لا أستطيع السير أو الالتفات كثيراً، أحياناً أشعر أنهم استبدلوا كل أعضاء جسدي، وملامح وجهي، وتاريخي وعنواني، وشطبوا شهادة ميلادي.
عيد ميلادي القادم ماذا أنا فاعل؟
1/8/1967، لا أعلم ماذا بإمكاني أن اقدم لنفسي أكثر من هذا الترف في الحزن والضياع، اشعر أننا نتعرض لحملة قانون الغابات، لجملة من العقوبات الذاتية، لا شيء أقوى من طعنة تأتيك من الخلف، وتسيل دماء روحكَ قبل دماء جسدكَ.
كنتُ متوقعاً أن الحب من شأنه إزالة كل الرتوش وثقب الرتوق عبر سماءات خالية من الغيوم وعواصف الشر والسخرية والفراق، كنتُ أظن أنني تجاوزتُ كل المحن إلا أن الأنانية تغلبت على كل شيء كان جميل وسعيد، وبقينا حائرين بين دوامة الشك والطعن في العدم.
من مدينة فوبرتال وفي هذا المشفى المُعد مثل السجن الانفرادي، تيقنتُ أنها أخر ما تبقى لي من أيام سأتذكرها دوماً بحلوها ومرها، مدينة القطارات المعلقة، ولم أكن أعلم أنني أنا المعلق من حنجرتي منذ أول أيام تجرأت فيها وأحببت، بل أنني الجسر الذي استخدموه لتمرير فشلهم وضعفهم وانتقامهم، هذه المدينة التي تعتبر أنها تحمل أقرب الناس أليَّ ولم أرى أحداً منهم، هذه المدينة التي تتوسط الكثير من المدن، وكل مدينة لي فيها صديقٌ أو قريب، لم أستطع أن أرى أحداً سوى نفسي وبقايا هذا الجسد الذي خسَّ أربعة كيلو غرامات، ووجها يستحيل التعرف عليه من النظرة الأولى، كان لابد أن أعرف نفسي أكثر، لا بابٌ يُطرق ولا نافذةً تَطل على من أشتاق وأحب، المسافة بعيدة جداُ يا أنا، بعيدة بما تكفي ألف جثة.
أزحف في هذه الممرات، لعلي ألمح أحداً أعرفه، لعلني القى ملامح كردية، أو عربية، أريد الحديث، أريد الصراخ والبكاء طويلا، أريد أن أخلع ملابسي هذه، أن أتخذ زاوية ميتة الروح، كم عنيد أنتَ أيها الجسد، لا تحيا لأعيش أنا، ولا تموت أنتَ ليحيا هذا الحزن.
ألم يكن هناك مكانٌ غير هذه المدينة، وهل في هذه المدينة لا يوجد غير هذا المشفى؟
وهل ما زالت تلك الشجرة تحتفظ بحرف أسمي؟
لا أعتقد ولا سيما أن في أخر مرة ذهبنا إلى هناك، أحسستُ بعدم رغبة أحد بالجلوس تحت ظل تلك الشجرة.
أشياءٌ كثيرة ربما ماتت، أصبحت باهتة ولا قيمة لها، لا معنى لها ولوجودها، هم يعتبرون أن كل شيء عابر، ويعلمون تماما جُل التضحيات التي أمطرتُ بها هذا الفضاء، في أحدى السنوات، مشيتُ لأكثر من ثلاثين كيلو مترا سيراً على الأقدام، لأستقر تحت تلكَ الشجرة، ومن شدة التعب والارهاق نمتُ مثل جثة
اذا اكتشفت أنّ كل الأبواب مغلقةً، وأنّ الرّجاء لا أمل فيه، وأنّ من أحببت يوماً أغلق مفاتيح قلبه وألقاها في سراديب النّسيان، هنا فقط أقول لك إنّ كرامتك أهم كثيراً من قلبك الجّريح حتّى وإن غطّت دماؤه سماء هذا الكون الفسيح فلن يفيدك أن تنادي حبيباً لا يسمعك، وأن تسكن بيتاً لم يعد يعرفك أحدٌ فيه، وأن تعيش على ذكرى إنسان فرّط فيك بلا سبب، في الحب لا تفرّط فيمن يشتريك، ولا تشتري من باعك ولا تحزن عليه، قال لي ظلي وهو يتنفس أخر أنفاسه تحت السرير
ولكنني فعلتُ ما لم يفعله أحد، ردتُ عليه
قلتها لكَ مرارا، أنتَ الضحية الكبرى في هذه الحرب يا عزيزي، ردّ علي
أي حرب والقلوب ملتهبة، أي حرب والعقول متصبرة، أي حرب وأنا وسط اللاشيء واللاحياة واللا إنسانية، لم يكُن شيئاً عابراً في حيـاتي لأنساه بهذهِ السهولة، لم يكُن حلم عابر، هذا الشخص دمعت عيناي لأجلهُ، هذا الشخص سجدت أدعو لهُ، هذا الشخص أخذ مِن عُمري الكثير ومن حبي الكثير ومن حلمي الكثير ووجعي الكثير، هذا الشخص لم أُحبهُ بل عشقتهُ، كانَ وسيبقى صعب النسيان، قلتُ له
بدأ ظلي يمشي أمامي في غرفتي التي تأخذ زاوية مظلمة في الطابق الثالث من هذا المشفى، يجيء ويذهب، يميناً ويسارا، وهو ينظر إلي بين الفينة والأخرى
هل تعلم أنه سيحب غيركَ وبكل بساطة، وإنه سيعشق من صميم قلبه، وإنه سيتظاهر لحبه الجديد أن لا أحداً سواه في قلبه، تماماً كما فعل فعلته معكَ، ردَّ علي
ولكن بيننا ذكريات وآلاف الصور والمواقف الجميلة أذهب الى منزلي وراقب تلك الصور التي وزعتها بعناية في كل أركان غرفتي، تعال وافتح هذا القلب وسترى أشياءَ أجمل وأقوى قلتُ له
لا أعترف بكل هذا المنطق يا عزيزي، رد علي
ما كان علي إلا أن انهي حديثي مع هذا المشرد، فكلامه يقتلني، ولا سيما أنا قتيلٌ منذ قرابة أسبوع كامل هنا في هذا المشفى وفي هذه المدينة، لا أريد تذكر اي شيء يرهقني، هكذا قال لي الطبيب( مازن ).
لا وقت للحزن، ليذهب كل شيء بعيدا عني، أنا مرهق، أريد مساحة واسعة للتنفس، بلا سجائر وقهوة وشاي، أريد أن أرمم التاريخ، والنبش في يوم ميلادي الحزين.