أيام بين الغيوم *

وجيهة عبدالرحمن سعيد

كان الوقت ليلاً حين حطت برحالها على أرض الولادة… ملأت رئتيها بأهازيج الغيم…
خطاها استراق وميض الوجل في فسيفساء الوقت..
ثمَّ صعدت طريقا بين جبال الحلم … وأنين الرغبة …

كل شيء كان نبوءة البدء… منذ البدء.
ثمَّ لاحت لها أنوار المدينة

أول نسيم

سماءٌ لا تلتحف سوى جلدها … وتلال الغيوم من تحتي … تراصت ندفها كثباناً قطنية.. تحجب عني هندسة الأرض..
وهذا الطائر يغدو بي إلى مملكة الأحلام …
لنتصف الوقت , فانتصف قلبي … أزيز هدير  تدفق الدم لا يسكت …
ثمَّة مطبَّات أليفة , يعلو الطائر… ويهبط بهوادة بريق عيني في نقطة الأفق…
هبط طائرنا … ثمَّة مساحات شاسعة ها هي ( هو لير ) تفتح ذراعيها … هبطّتُ الدرج الحديدي.. خطاي اعوجاجات الألسن البلهاء .. ثمَّ ينغرس نعلي في تراب الحقيقة…
وهمٌ ما أراه أم حقيقة…
أول ما يلفت ناظري قوس قزح يلوح بأذرعه الخضراء والحمراء والصفراء… تبتسم الشمس التي توسطت مساحة ألوان الأزل الأزلي …
وريدات خجولة نمت بتواضع على جانبي خط سيري … أكاد أشعر بها تحني لي الهامة … فأرفع قبعتي انحناءة لوقارها …
إنها لحظة اصطدام الحلم بحلم آخر….
إنه هواء يخلو من غبار نيران التنين… هواء نقي كصفحة النار قبل تباري الألسن الصاعدة الهابطة..
إنّه هواء حلم الحقيقة..
لكنك يا رفيقي لم تأبه لعجلتي في عبور أفخاخ المدينة …. نصبت خيمتك العتيقة عي عراء هو لير … وأنا لأدرت للريح ظهري وقبلتي دهوك.
كنا على وشك بدايتنا لو أنك اقتلعت أوتاد خيمتك وشعاع الأمل ينبعث من عينيك خيطاً من نسيج الآتي…

مباراة القمم

كان التنافس أشبه بمباراة مصيرية … ويل لتلك الرابية التي ظلَّت قريبة من سهول الوداعة.. اشرأبّت أنوف القمم.. تعالت خواصرها .. فامتدت أعناقها لتنغرز في فضاء الوجود الكوني .
لاتدّرُج في رؤوسها … شتلات الذرة تعلو وتهبط بعضها ً… دربي بين جبال  مالت هاماتها , تكاد تتهشم على الطريق..
اعوجاج لولبي … هبوط يخطف يقين القلب ثمَّ صعودٌ يقبض خانقاً حنجرة الغيم …
زاويته… تلال تموج وجبال عالية تتبارى في الشموخ… مساحات من الفجر الوردي … ثمَّ تلتقط عدسة عيني شجيرة انبثقت من كبد الجبل , تمسَّكت بأذرعها وساقيها بخصره, خشية السقوط … رأيت في أغصانها وجل الحمام الهارب… الفار من دهس أقدام لا تعرفها…
ربُّ السماء …كم كنتَ منتشياً حين وضعت خريطتك لكلي زاويته….؟؟؟

همس الورود الحمراء

ها مسني … سأذهب الآن إلى زاخو … ثمَّة ضيوف سيصلون عليَّ أن أكون عند الحدود لاستقبالهم…
–        سآتي معك .. هل تأخذني
–        اصعدي فقط
نعم توجّهتُ عطشة إلى زاخو.. نفذ ريقي من بلعومي … أيّ عطشٍ ذاك الذي جعلني ابحث عن ماء على جانبي الطريق..
(كلي زاخو) أمام مرأى البصر… يمتدُّ اتّساعاً.. تعلو قممهُ ارتفاعا ًكلما اقتربتُ من أقدامها…
اعبر الطريق بين فتحة قدميها الضخمتين…
وقفت بنا السيارة… ثمّ نظرت إليه وقد ترقرق الدمعُ في عينيه, تكاد تنفر من مقلتيه سيولاً من الدمع…
حينها راح يحكي لي قصته مع الورود الحمراء …. وحديث البندقية.. وأقدام حافية تسلَّقت هضبات الشتاء, كان البرد ينغرز في أبدانهم سكاكين من نار…
صمتي لم يفاجئني… كان لصمتي لغةُ أبجديةِ حوريات حبيسة في قاع المحيط الذي أضاع ذاكرتهُ…
ثمّ انطلقنا إلى زاخو , الزاخرة بالضجيج … جسر (دلال) أول ما رغبت في أن تلتقطه عدسة الكاميرا …
ثمَّة أسطورة عنهُ ,حكاها لي , سرد الأسطورة بتأمل في الشرفات المنغرزة في جسد التلّة قبالتهُ… وقد بسطت صدرها لملاقاة الهابطين من أعلى نقطة من عبور الجسر(الدلال) ..حتى الآن لا أعلم من أين جاءت التسمية … أو لا أذكرها … ربما نسيتها لانبهاري بتدفق الماء الأهوج من تحت قدميه العاليتين…
(كلي زاخو)* فصل كبير من دفتر الانتفاضة … دونته يا صديقي بأنامل التعب… وأزيز البندقية يخترق الصفحات البيضاء…

هُمْ

لعيونهم وهج النار حين الاندلاع … لهم أحلامهم… كما أحلامنا الحبيسة أقفاص صدورنا …
أحلامهم أكبر من اختراق الشعاع بلور الحد قات..
يفوقوننا وهماً وحلماً..
يعجنون الحلم بماء من عراك النهار مع صخرة الليل… ثمََّ يخبزون ما كان من عجينهم في تنور سطوة نفور الدم إلى قمة الرأس الشامخ….
أكفَّهم أوسع مساحة من أكفنا الرقيقة….
في أزقَّتهم رأيت كمآت القلب تنضجُ دماً … فتحوا أزرار صداراتهم للعبور إلى جداولهم ..
حديثهم لن أقول تغريداً … بل همس العنادل … وهم يغوصون ببريق أعينهم كهوف عيوننا …
ما بيننا وبينهم ذلك الجسر من الرغبة والانصهار…

لالش

ثمَّ يممت الشطر نحو (لالش) تصوُّرٌ من ذخيرة الماضي …
حملتني أكف الجبال , رابية تسلمني لرابية , فأحني لها الهام … ثمَّ أمضي ويجيء ُ بعدها السفح المتعالي فأهيم بكلَّيتي بين سلالات من سأغدو إليهم … وأحدَّق للأسفل المختبىء بين عمائم القمم المشرأبّة ..
أكاد أهبط بمظلتي إلى جوف الانعتاق من شظايا التأمُّل…
أعدو من جديد صاعدة تلالاً حلزونية الدوران حول نواتها اللبّ… ثمَّ كانت نقطة الانعطاف نحو حالة كالهلام…. زئبقية رؤايا صارت … ما أن ترجلت لأرفع بصري إلى هندسة الحجر … ثمّة شعاع بقايا حبال الشمس تبسط كفيها على سفح المكان…
قباب هرمونية … هرمية كما دائرتهم … وطيئة .. عالية .. إسفلت من حجر أسود تداخلت ذؤاباته فشكلت رقعة شطر نجية ذات لون أحادي بلا أحجار للعب…
أفعوانات ملتفَّّة على أعناق بعضها بدت لي جذور شجرة خرجت من الباطن للتنفس صعداءً… أحدثت ثورة لساقها الذي اختار لنفسه اتجاها آخر … توحد الجذور الملتفَّة مع الساق أفعوان خالد الأبدية….
بوابة النار … يوقدونها من زيت يكون وقودها …
لا تدهسي بقدميك العتبة  قال المريد الصنم على بوابة العتبة الأولى للدهليز..
القفز فوق العتبات اشتهاء السير خلفاً

* من وحي رحلتي إلى كردستان:  وجيهة عبدالرحمن سعيد