في تأمّل تجربة الكتابة.. في معنى النبل: لن أكون رجلاً نبيلاً إذاً

فراس حج محمد/ فلسطين

لم أفكّر قبل اليوم بمعنى النبل، أو كيف يمكن أن يكون الإنسان نبيلاً. الغريب أنّه لا يوجد أيّ صديق لي يحمل هذا الاسم، ربّما أيضاً لا يحملون هذه الصفة، ألم يقولوا: قل لي مَنْ صديقك أقل لك من أنت. وأنا لست نبيلاً، فلا أصدقاء نبيلون لي بالضرورة. ربّما الأصحّ من هذا وذاك هو أنّه لا أصدقاء لي بالمعنى الدقيق للكلمة.
ضربتني هذه الكلمة في مقتل هذا النهار، من بدايته، الساعة الثالثة صباحاً أصحو أفتّش البريد الإلكتروني، ثمّة رسالة بين الغضب والعتب والتهديد، تختم الرسالة “ينبغي أن تكون نبيلاً”. بصفتي أحد المشتغلين باللغة، تعلُّماً وتعليماً وكتابة يجب عليّ أن أدرك معنى هذه الكلمة. ما هو النبل قلت؟ وكيف تكون نبيلاً في الكتابة؟ لأنّ الرسالة الغاضبة ربطت النبل مع الكتابة. عليّ أن أواجه مفرداتي، ومعانيها. أنا كاتب “غير نبيل” في المحصلة. كيف؟ أتخيّل ما يلي: 
لست كاتباً “غير نبيل” لأنّني أفشي أسرار حياتي الشخصيّة في الكتابة، لم أترك شيئاً منها إلّا وتحدّثت عنه. لا بأس فكلّ الكتّاب على هذا النحو غير “نبيلين”، لأنّهم يكتبون مِنْ وعن حياتهم الشخصيّة. لست حزيناً لذلك إطلاقاً، بل سأكون سعيداً وأنا أصنّف كاتباً “غير نبيل”؛ فلم أختلق ولم أتخيّل، وكنت صادقاً، الصدق يتنافى مع النبل في الكتابة على ما يبدو.
تخيُّل آخر:
أنا كاتب “غير نبيل” لأنّني كتبت بإخلاص تجربتي العاطفيّة، بكلّ حذافيرها، فأنا لم أقلّد أيّ كاتب في مشاعره، أو عواطفه، أو في صنعة الكتابة، صنعت لغتي من أعصابي، وحمّلتها تولُّهاتي وأحزاني، كلّ ما كنت أشعر به من حبّ ويأس وألم وفرح أودعته كما هو في الشعر والسرد والقصص، ككلّ الكتّاب الذين عشقوا فكتبوا، وتألّموا واشتهوا محبوباتهم وتخيّلوهنّ في أوضاع عشقيّة مجنونة. ألا يحقّ للعاشق أن يتخيّل اللذّة مع محبوبته؟ وهل إذا أعرب عن هذا التخيّل سيكون “غير نبيل”. أنا فعلتها، وبكلّ ما أوتيت من قوّة روحيّة وجسديّة وكانت (تلك المرأة) سعيدة بذلك، وعلّمتني كيف تكون الشهوة حارقة بلذّة متناهية، حتّى أوشك الأمر أن يكون حقيقيّا. هنا أنا كاتب “غير نبيل”، للأسف عند كاتب الرسالة وعند كثير من القرّاء.
ليس الأمر تخيّلاً الآن:
كيف أكتب أنا؟ وما هي مصادري في الكتابة؟ عدا ما ذكرته سابقا بفعل الكتابة، أنا أعتقد أن كلّ شخص يرسل لي جملة من أي مكان، وبأيّ شكل كانت، أصبحت جزءاً من معرفتي، ويحقّ لي أن أقتبسها وأستخدمها، فقد قيلت لي، فهي ملكي إذاً بمعنى أو بآخر، نتشارك أنا والشخص بها لا شكّ في ذلك، لكنّ لي نصيباً كبيراً منها، سواء أرضي الشخص أم لم يرض؟ وسواء أذكرت اسمه أم لم أذكره؟ له عليّ فقط ألا أشوّه الجمل، وأن أكون أميناً في النقل. أخذت الكثير من الجمل والكلمات والتعبيرات والأفكار من محادثاتي مع الأصدقاء، وبنيت كثيراً من النصوص على شذرات من كلامهم، أعيد تركيبه وترتيبه دون أن أخلّ بالمعنى ليكون مناسباً للنشر.
هل هذا التصرف يجعلني كاتباً “غير نبيل”؟ لا يحقّ لأحد ما أن يعاتبني إن استخدمت كلماته لي ليصفني بأنّني “غير نبيل”، إن كان لا يثق بي لماذا يحدّثني ويصادقني، ويحبّني (إن كنت أتحدّث هنا أيضاً عن امرأة ما) إلّا إذا كان هو يضمر لي عكس ما أضمر له، يضمر لي الشرّ والخديعة والأذى، وكان طوال الوقت يتسلّى بي، وعندما وجد ما يشغله ذهب، وتركني غارقاً في وهمي الكبير، وليس هذا وحسب، بل يطالبني بأن أكون “كاتباً نبيلاً”. أيّ منطق هذا؟ وأيّ نبلٍ في هذه المسألة؟
أعتقد أنّني كاتب “خائب الظنّ”، موجوع، لم يعد لي شيء، وليس معي شيء سوى أن أعتاش على ضجيج الكلمات يتردّد صداها في رأسي، لم يخسر أحد من الكتابة كما خسرت، خسرت نفسي- والمعنى هنا حرفيّ وليس مجازيّاً مطلقاً- وخسرت أن أكون كاتباً نبيلاً، لذا عليّ الاعتراف أنّه من اللازم ألّا أكون أيضاً “رجلاً نبيلاً”. ولا أظنّ أنّني هنا أستدرّ عطف أحد أو أبتزّه عاطفيّاً، إنما هو فقط تحديد لمعالمي الكتابية، اللغويّة والنفسيّة.
ولا أدري، أخيراً، هل اللغة تفضحني مجدّداً أم تنبّهني وتضع لي النقاط على الحروف، عندما تقول في تعريف النبل: “خُلُقٌ حميد، يتحلَّى صاحبه بالذكاء والنجابة في ذاته، والفضل والرّفق في تعامله مع الناس، مع حِذْقٍ في الرأي والعمل”؟ إنّني أؤكّد أنّه ليس لي نصيب من مظاهر النبل جميعها؛ لا في الذات، ولا في التعامل، ولا في العمل، فأيّ كاتب وأيّ رجل “غير نبيل” هو أنا إذاً؟ وعلى ذلك فمشروع “الرسائل” القادم، هو مشروع “غير نبيل” بالضرورة، لأنّه تجسيد لكل ما سلف. فثمّة كتابة غير نبيلة أيضاً كما هو الكاتب سواء بسواء.
30 آب 2021

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صبري رسول

 

بدءاً من الغلاف والعنوان: تتضمن صورة الغلاف لنزوحٍ جماعي من عفرين، مع لونٍ سماوي بين الصفاء والتلبّد الخفيف، وفي الجانب الأيمين جذع لشجرة زيتون مقطوعة.

نعرف جميعاً المأساة التي حصلت في عفرين نتيجة الاحتلال التّركي والفصائل المتطرفة التابعة لها، وثمّة براعم لغصنٌ طريّ يعلو من الجذع، كمؤشرٍ على أنّ الحياة لن تنقطع رغم فظائع طالت…

عبدالرزاق محمود عبدالرحمن

 

-لست بخير

-دع الحياة تسير

-ليس هناك ما يدعو للطمأنينة

-اطمأن…أنت بخير -ليس ذنبك- مادام الجميع قلقين .

-ليس هناك مايبشر بالخير …أنا لست بخير

-اطمأن…أنت بخير -ليس ذنبك-مادام الجميع متقاعسين .

-ليس هناك ما يدعو للفرح …انا لست بخير

-اطمأن…أنت بخير -ليس ذنبك-ما دام الجميع حزينين.

-ليس هناك من أمل….لست بخير

-اطمأن …أنت بخير -ليس ذنبك-مادام الجميع محبطين.

-ليس هناك من يعيش…

محمد إدريس

 

في الزاوية الهادئة من كل بيت، يقف رجلٌ اسمه “الأب”.

لا يطلب شيئًا، لا يشتكي، لا ينتظر تصفيقًا ولا مجدًا.

هو هناك… كالجبل، تشتدُّ به الحياة دون أن يميل،

وكالنهر، يجري بعذوبة ليروي العائلة، دون أن يلفت الانتباه.

ننشغل كثيرًا بالأم، ونبجّل حنانها – وهو أهل للتبجيل –

لكننا كثيرًا ما ننسى ذاك الذي مشى على أقدامه ليؤمّن الحليب،

وركب الحافلات…

ماهين شيخاني

 

رجع “أبو شفان” إلى البيت في ساعةٍ متأخرة، يجرّ خطواته كما لو كانت أثقل من جسده المنهك. وجهه مكفهر، ملامحه كانت كمن ذاق مرارة أعوام دفعةً واحدة. ما إن فتح باب الدار، حتى لمح ابنه البكر “مصطفى” جالسًا في العتمة، ينتظره كأنه ينتظر مصيرًا لم يأتِ بعد.

– “أهلاً أبي… تأخرتَ الليلة”.

– “كنتُ في مشوار…