فردا جميل باشا… المرأة الّتي تحمل تاريخ عائلة وتاريخ قضيّة وكفاح!

نجاح هيفو

ثمّة أشخاص يحملون سيرة عوائل كردية تحمل إرثاً من كفاح ونضال من أجل القضيّة الكردية، عوائل كردية كانت مساهمة في بناء الهوية القومية للشعب الكردية. هذه العوائل التي تحرّكت منذ سقوط الدولة العثمانية لتبحث عن وطن مفقود للكرد، وهوية مسلوبة، وبقاء يسعى الآخرون إلى إنهاءه. عوائل كردية، مرّت سنوات طويلة، ومرّوا بظروفٍ شاقّة ومتعبة، وآلام وعذابات لا تنته، لكن بقوا على عهدهم، وسلّموا شارة الوفاء لهويتهم جيل لجيل، هكذا حتّى وصلت إحدى هذه الشّارات إلى فردا جميل باشا، ضيفتنا اليوم. 
فردا، سيرة وذكريا لسيّدة أعمالٍ كرديّة، تحمل تاريخاً وإرثاً في عمق الهويّة الكرديّة لعائلتها، وتاريخاً من الكفاح حتّى وصلت هي، وأسّست لنفسها اسماً إلى جانب اسم عائلتها. 
تقول فردا في صمتها: هذا شعب كردي لا ينتهِ، هذا عطاء لقضية لا ينتهِ، هذه أنا، وأنت ونحن وكلّنا من هذه الأرض ومن هذه القضية، نعمل لنفسنا، لنكبر وتبقى معنا قضيتنا.
أتواصل معها، تصل أجوبتها قبل أن تتحدّث، لكنّني اسأل، أريد أن اسمع صوتها، وهي تجيب، أريد أن أثبّت شكوكي، بأنّ هذه السيدة، تمتدّ من آمد إلى الدرباسية، إلى هولير، وترمي بعطاءها إلى مهاباد.
من هي فردا جميل باشا؟
تقول وهي تعرف نفسها :
ولِدتُ في دمشق من عائلة كرديّة كرّست حياتها في سبيل القضيّة الكرديّة وكردستان. من هذه العائلة، تعلّمت حبّ الوطن، والعطاء في سبيل شعبي وقضيته المحقّة. كرّست حياتي في خدمة قضيتي ووطني في كلّ الأعمال والنشاطات الّتي مارستها خلال عقودٍ طويلة من الزّمن. 
درست الابتدائيّة في مدارس بلدة الدرباسيّة، ثمّ الثانويّة في دمشق، وحصلت على شهادة الإعداديّة في ديار بكر (آمد) بتركيا. أنهيت تعليميّ في كلية العلوم والجينات في جامعة هاجة تبة في العاصمة التركيّة، أنقرة.
دخلت سوق العمل في وقت مبكّر عبر شركة العائلة الّتي يملكها والدي، والّتي تختصّ في الأدوية والمستلزمات الطبيّة، حيث ساعدني تخصّصي العلمي في تحقيق نجاحات عدّة في مجال عملي في الشركة.
متزوّجة منذ تخرّجي، لديّ ابنة من مواليد 1981، وابن من مواليد 1983. بدأت رحلتي في تربيتهم وتعليمهم إلى جانب عملي ونشاطي الآخر؛ إذ كان وقتي مقسّماً بين العائلة وتربية الأبناء وبين شركة والدي حسب الوقت.
مؤمنة بأنّ التعليم والدراسة، هما أساس بناء أيّ مجتمع مرصوص البنيان وقادر على الديمومة والاستمرار. لذا، حرصت على أن يكون تعليم أبنائي ممتازاً ومتطوّراً ويختلف عن التعليم التقليديّ السائد، الذي يتضمّن الكثير من الضغط النفسيّ والصرامة على الطلبة والتلاميذ. ألحقت أبنائي في مدرسة أيلكم الخاصّة في أنقرة، حيث امتازت هذه المدرسة بالأسلوب العصري والحديث في التعليم من حيث الانفتاح ومنح التلاميذ المساحة الكافية للإبداع والتطوّر حسب مناهج المدارس الحديثة.
أصبحت عضو فعّال في مجلس الآباء والأمهات في المدرسة. كنت حريصة على ديمومة المدرسة واستمرارها في تقديم التعليم المميّز والراقي لشريحة واسعة من المجتمع. عندما مرّت المدرسة بظروفٍ ماليّة صعبة أوصلها إلى حد إشهار الإفلاس، قُمت بشراء الحصّة الأكبر في المدرسة حرصاً منّي على استمرارها في خدمة المجتمع والناس.
مع مرور الزمن، تمكّنت من شراء الحصص الاخرى، وأصبحت المدرسة ملكاً صرفاً لي، وكلفني الأمر بيع حصتي في شركة الوالد وبيع مصوغاتي الذهبيّة، إضافة إلى قرض من البنك. لأكثر من عشر سنوات، كرّست وقتي واهتمامي في المدرسة إلى أن أصبحت واحدة من أرقى المدارس في أنقرة. حرصت على أن يكون عمل المدرسة (7) أيّام في الأسبوع وخصّصت يومي العطلة الأسبوعيّة لاستخدامات منظمات المجتمع المدنيّ حيث كانوا يمارسون الأعمال الخيريّة والتطوعيّة من أجل خدمة وتوعيّة وتثقيف طبقات المجتمع المختلفة.
 حدثينا أكثر عن هذه المنظمات؟
كان خلال ذلك الاختلاط مع هذه المنظمات، فرصة جيدة للتعرّف على لفيف كبير من الشخصيّات والقيادات في هذه المنظمات واستمرّ عملي معهم أعواماً طويلة إلى يومنا هذا، وقمنا معاً باعمال ونشاطات كثيرة، كان هدفها خدمة المجتمع والشّعب الكرديّ، وكنت على مسافةٍ واحدة من جميع أطياف المجتمع من اليمين واليسار وحافظت على استقلاليتي وحيادي بينهم كما كان ديدن أجدادي وامتداداً للدور الذي قام به والدي ووالدتي.
كان ولا يزال انتمائي إلى عائلتي مصدر فخرٍ واعتزاز لي ما حييت، رغم كل الصعاب والأهوال الّتي مررنا بها بسبب الإرث التاريخيّ الذي حملناه وحافظنا عليه جيلاً بعد جيل، وبقينا دائماً وأبداً مرفوعيّ الرأس.
ماذا تتذكر فردا خان من ليالي الظلم والمعاناة؟
قاسيت المشقّة والصعوبات منذ نعومة أظفاري، حيث تعرّضنا للنفي والإبعاد من تركيا، ومن ثمّ تمّ اعتقال والدي وعمي في سجن الحسكة، وتعرّضوا للتعذيب الشديد والتهديد بالقتل. استطعنا تهريب أفراد العائلة المعتقلين وغادرنا في ليلة قاسية تحت قصف القنابل ومطاردة أجهزة الأمن والمخابرات البعثيّة إلى أن وصلنا بيت خالي في تركيا وأصبحنا في أمان.
كان انتمائي واعتزازي بعائلتي سبباً في تعرّض إلى صعوبات ومشاق كثيرة، بسبب عدم تقبّل المجتمع التركي الذي عاصرته لأصلي الكردي، حيث كانوا ينكرون ولا يقبلون الاعتراف بهذه الحقيقة الثابتة، ويستكثرون عليّ تعليمي وثقافتي وانتمائي.
كسيدة أعمال كردية ماذا تحدثينا؟ 
دخلت عالم المقاولات والإنشاءات من خلال شركة والدي الّتي اختصت بالأدوية والمستلزمات الطبيّة، ثمّ امتدّ نشاطها إلى إنشاء مراكز طبيّة ومستشفيات وكنت متواجدة خلال مراحل العمل، ثم بدأت بالعمل في مشاريع اخرى، بالإضافة إلى المستشفيات وتوسّع عملي في مجال المقاولات والإنشاءات، وساهمت في تنفيذ العديد من المشاريع الكبيرة للقطّاع العام والخاص في دول ومدن كثيرة.
تروي فردا خان، ببساطة، سيرة حياة طويلة، وتاريخ مرصّع بالتّعب والمشقّة، وهويّة بقيت وحافظت على كرديتها. قاموس لا ينفكّ بسهولة، ولا ينتهِ. هذه العذابات، سيرة كرديّة طويلة، ترويها سيّدة مجتمع، تستحق أن تُكتب في صفحة أولى من تاريخ أمّة تأبى الزّوال. 
كونك مدرسة قائمة بذاتها؛ وجهة نظري غير المبالغ فيها ما هي النصائح التي تقدمينها سيدتي للجيل الجديد؟ 
نصيحتي و كلمتي الى أبناء و بنات مجتمعنا الكردي ألخصها في النقاط التالية
– لا تنسوا أصلكم، تاريخكم، من أين أتيتم، لأنكم أبناء واحدة من أقدم الحضارات في المنطقة.
– اعتمدوا على ذواتكم، وكونوا متفائلين دائماً ولا تفقدوا الأمل أبداً. 
– تذكّروا أن جينات الكرد متميّزة ومتطوّرة عن جينات الأقوام المجاورة، من حيث سرعة التعليم والتكيّف وقوّة الإرادة والعزيمة الصلبة.
– تذكّروا أن المجتمع الكردي، لم يضع الفوارق بين الرجل والمرأة، حتّى التشريعات القانونيّة والدينيّة حتّى يومنا هذا، يمتاز المجتمع الكردي بهذه الخاصيّة عن بقية المجتمعات.
المرأة الكردية ماذا تحدثنا القدوة عنها؟
كان إيماني راسخاً، بأنّ المرأة الكرديّة قادرة على تجاوز جميع الصعاب والتحديات. لذا، كنت لا أتردد مطلقاً في أيّ مهمةٍ صعبة أرى فيها فائدة ومنفعة للمجتمع، وقمت بالعديد من الأعمال الخيريّة والتطوعيّة لمساعدة المحتاجين والمظلومين والمنبوذين من المجتمع. ساهمت بإنشاء العديد من الملاجئ لحماية النساء اللاتي تعرّضن للعنف والاضطهاد وتفوّقت على الكثير من المنظمات العامّة والخاصّة في هذا المجال، ونلت العديد من الجوائز والأوسمة تكريماً لأعمال ونشاطاتي الخيريّة والتطوعيّة وكنت من النساء الأوائل في مجال السياحة والمطاعم، وكذلك من الأوائل في مجال مراكز التجميل للنساء، فضلاً عن كوني من النساء القلائل في مجال المقاولات والإنشاءات.
المرأة الكرديّة تحسّ وتعتقد بأنّها في حالة ضياغ حالياً، بسبب تغيير الأماكن والسياسات والعادات والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أثّر على جميع نواحي الحياة. لكن، رغم كل هذا فإنّني كلي ثقة بأن المرأة الكرديّة أساس وعمود العائلة والمجتمع الكرديّ، ولها الدور الكبير والمؤثّر في بناء المجتمع. 
نصمت برهة. فقط كي يدوّن التاريخ من بوابة الدرباسيّة الّتي تمرّ على حافّة جبلٍ كردي، وتاريخ ولد من الفطرة، لسلالة نقيّة لا تنتهِ.
إنّها فردا خان!
أقول لها: سيّدتي أنت امرأة رائعة. تبتسم فردا جان مجدداً، وننهي حديثها الذي أردته أن لا ينتهِ!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…