فراس سعد
أثناء قراءتي للصفحات الأخيرة من كتاب الروائي السوري إبراهيم اليوسف “جمهورية الكلب” شعرت بواجب الكتابة لا محالة عن هذا الكتاب إنما على خلفية الكتابة الخفيّة عن الكاتب، فليس الكتاب إلا كاتبه، هذا ما يقع في نفسي من زاوية أن أخلاق وإنسانية الكاتب هي ما تجعلنا نكتب عن كتابه أو كتبه، فأنا لو كرهت كاتباً أو حتى لو صدقت خبراً سيئاً عنه فلن أفكر أصلاً بقراءة أي شيء يصدر عنه لا كتاب ولا رواية ولا مقالة ولا بحث ولن أشاهد له لقاء تلفزيونيا أو أقرأ له مقابلة صحفية إلا لأبحث له فيها عن سهو أو كذب أو خطل.
وليست رواية- جمهورية الكلب- بحد ذاتها هي ما دفعتني للكتابة عنها بل سلوك صاحبها وإنسانيته التي وجدتهما فيه حتى قبل أن ألتقي به لمرة وحيدة بعد عناء ومشقة بسبب البيروقراطية الألمانية حتى في وسائل التنقل.
جمهورية الكلب هي “جمهورية” مكان اللجوء حيث يعوّض أهل المكان -ألمانيا، في الرواية- عن غياب العلاقات الإنسانية الحقيقية، عن غياب حرارة المشاعر، عن غياب المحبة، بنسج علاقات قوية مع الكلاب، بناء علاقات صداقة وأخوّة ورفاقية مع الكلاب يتجنبون عبرها الوقوع في أفخاخ العلاقات البشرية ويتجنبون بالتالي احتمال الصدمات المدمرة، وتبعاً لذلك يعالجون حتمية الوحدة المزمنة للإنسان الصناعي ابن مجتمع العمل الذي هو ليس سوى برغي أو أقل من برغي في آلته الجهنمية التي لا ترحم.
جمهورية الكلب قصة لاجىء سوري في ألمانيا يتعرف على سيدة تقتني كلبا هو كل حياتها بعد موت زوجها، يتورط اللاجىء والسيدة بعلاقة عاطفية روحية غير جسدية ويدمنان اللقاء يوميا في الحديقة لمرة أو أكثر. يبرع الروائي الأستاذ إبراهيم اليوسف في عرض جانب من مأساة اللاجىء السوري في ألمانيا، كما يبرع في سرد معلومات وقصص عن حياة الكلاب وعلاقاتها مع البشر. ولا ينسى أن يتحدث في لقطات متفرقة عن حياة بطل الرواية في سوريا منطقة الجزيرة وتعرضه لمراقبة المخابرات وإرهابها وسرد شيق ومؤلم في نفس الوقت لقصص بشر و كلاب في بلدته السورية.
تبدأ درامية الرواية متأخرة من لحظة اختفاء السيدة صاحبة الكلب وموت كلبها، حيث تتوجه شكوك الشرطة لصديقها اللاجىء السوري.
في الصفحات الأخيرة للكتاب يشعر القارىء بحاجة البطل لطبيب نفسي بالفعل بعدما اعترف تحت وطأة القلق واتهام الشرطة وجحيم انتظار استدعائه للتحقيق مرة بعد أخرى بارتكابه لجريمة لم يرتكبها …
بل إن القارىء نفسه لاسيما إن كان لاجئا في ألمانيا، ربما يصبح مضطرا لمراجعة طبيب نفسي، وهو يشارف على الصفحات الأخيرة من الرواية، فليس اللاجىء سوى نسخة عن بطل الرواية وليس هذا الأخير إلا نموذجا عن اللاجىء المتهم دائما حتى تثبت براءته.
لفتت انتباهي بعض العبارات في الرواية منها:
“ليس من متعة أكبر من متعة التحرر من البول
إنها كمتعة التحرر من الطاغية “
وكذلك قوله في الصفحة 46:
” إن وجودنا هنا إن حاجتكم إلينا هما نتيجة عوامل عدة، من بينها إفراطكم في الاهتمام بالكلاب . أنا مع العناية بالكلاب (لكن) ضمن حدود المعقول …( وليس) إلى درجة إلغاء الإنسان من أجل الكلاب ” لكن البطل يقتني في نهاية الرواية كلباً كما فعل عديد من اللاجئين السوريين في ألمانيا ربما تحت ضغط المطالبة بالاندماج أو رغبة بإعلان أنهم أناس مستقلون مواطنون ألمان أو رغبة منهم في إعلان أنهم كلاجئين صار لديهم وظائف وأعمال تمكنهم من اقتناء كلاب كما الألمان، وليسوا مجرد لاجئين عاطلين عن العمل.
يجدر بنا الذكر أن كثيرا من عبارات الرواية يمكن نسبها إلى الحكمة، فآلام المهاجر الصبور تتحول إما إلى انفجار أو موت بطيء أو تتحول إلى حكمة .
رواية (جمهورية الكلب) صرخة الشرقي اللاجىء ذي الكرامة المهدورة في وطنه والمكانة المنتقصة في أرض لجوئه.
فنحن لم نصل بعد زمن الكلاب ولم نحسن لغتهم.