«عشت لأتذكر» سيرة ذاتية لمحمد عبدو النجاري

شيرين خليل خطيب

هو الذي استغرق في ترجمة الأدب الكيبيكي، فترجم نحو خمسين عملاً من هذا الأدب الإنساني العريق، ما بين روايات وقصص ومسرحيات..
هو الذي ترجم وأعدَّ الكثير من الكتب لأشهر الكتّاب الروس والسوفييت.
هو الذي ألّف روايتي (النار – من أوراق مهاجر)، وكتب المجموعة القصصية الممتعة (عفواً… الرفاق في انتظاري).
إجمالاً، هو الذي أعدَّ وألّف وترجم أكثر من سبعين من الأعمال الأدبية، استمتعنا بقراءتها، وأغنت مكتبتنا المعرفية والفكرية منذ أن كنا صغاراً وحتى تاريخه.
إنه الدكتور في الأدب المقارن، خرّيج جامعة موسكو، الكاتب والمترجم محمد عبدو النجاري.
جاء ليتحفنا بآخر أعماله الأدبية “عشت لأتذكر”. يتحدث فيه عن سيرته الذاتية الغنية والمهمة على الصعيدين الفني والحياتي، موثِّقاً بذلك لمرحلة معينة من الحياة التي عاشها الناس في منطقة الجزيرة في سوريا، ابتداءً من مرابع طفولته في قريته “خربة كوجكي”، مروراً بانتسابه إلى الحزب الشيوعي وهو لا يزال فتىً، ثم سفره إلى روسيا لنيل شهادة الدكتوراه، وعودته إلى دمشق للاستقرار فيها والعمل في وزارة الإعلام السورية – مديرية رقابة الكتب والمطبوعات، ليسرد فيه الدكتور النجاري، وبشفافية عالية، الأمور التي حدثت معه والمواقف التي تعرض لها، عند محاولاته إعطاء الموافقة على طباعة الكثير من الكتب العربية والكردية، مع ذكر أسماء أصحاب تلك الكتب وتلك القصص، فيبوح بذلك بما له وبما عليه قائلاً: “أما أنا فأقول، إن كل من سأوجه له الشكر أو اللوم في هذه القصص، قد وجهته له، وجهاً لوجه، قبل الآن بوقتٍ طويل”.
ثم يسرد لنا الدكتور عن الفترة التي قرر فيها السفر إلى كندا للاستقرار فيها، بعد عشرة أعوام من العمل في وزارة الإعلام. هو الذي لم تستقر قدماه يوماً على أي حال. وعن سفره إلى ليبيا لتدريس اللغة الروسية في جامعاتها على مدى أربعة أعوام متفرقة، وعودته مرة أخرى إلى كندا، للاستقرار في مونتريال بشكل دائم. ثم تنقلاته الكثيرة هنا وهناك منذ الطفولة وحتى الوقت الراهن وكأنه مُصاب بـحمى عدم الاستقرار في مكان واحد، حتى تأكد هو نفسه خلال الحرب السورية من أن: “لعنة الغربة ستلاحقني حتى آخر أيام عمري”.
محمد عبدو النجاري، الذي شهدتُ في كتاباته وفي اختياراته للأعمال التي ترجمها إنسانيةً قلَّ نظيرها، وإحساساً مرهفاً يكاد يكون شبيهاً بنسمة منعشة في ظهيرة صيف قائظ، ونظرةً ثاقبة وصادقةً تفصل بسهولة بين ما هو حقيقي وبين ما هو زائف… بين العمق والسطحية… بين الذي يجب أن يكون والذي يجب ألا يكون. إنه ذاك الإنسان النقي ذو الأحاسيس الطفولية التي أنا نفسي لمستها وخبرتها عن قرب. إنه ذاك الإنسان الذي رفض الشهرة والظهور والمادة، وفَضّل الاستمرار في عمله بهدوء وجدية، فقط ليرضي إنسانيته أولاً، ثم ليرضي نفسه وأهله وأصدقاءه ومحبيه.
 كيف لا، وهو الذي تفاخر بإنسانيته قبل دينه وقوميته من خلال سرده لهذه الحكاية التي حدثت معه والتي كتبها في “عشت لأتذكر”، عندما سأله طالب كردي، من كردستان العراق، قابله مصادفة ذات يوم في سبعينيات القرن الماضي، في موسكو:
“- أنت كردي لو عربي؟
–  كردي وعربي..
–  شلون يعني؟
– يعني أمي عربية وأبوي كردي.
بعد مدة، سألني أحد الأصدقاء:
– شو قايل للكردي العراقي (…)؟  
– ولا شي، خير؟
– ما ترك طالب كردي ولا عربي في السكن الجامعي، إلا وقالو إنو أنت تخليت عن أصلك الكردي، وعملت حالك عربي!
– أخو الحفيانة، كان بدو ياني أنكر أصل أمي، مشان يبقى يزاود على الناس!!”.
ولا يعني ذلك مطلقاً أن كاتب “عشت لأتذكر” لا يتفاخر بقوميته الكردية، حيث يبدو ذلك جلياً واضحاً من خلال اهتمامه بالهم الكردي واللغة الكردية، وترجمته للعديد من الأعمال العالمية التي تتناول القضية الكردية، ما بين دراسات وقصص، وفلكلور كردي، إلى اللغة العربية، لتكون في متناول القارئ بالعربية. كيف لا، وهو من مؤسسي رابطة كاوا للثقافة الكردية في الاتحاد السوفييتي عام 1976، إلى جانب المهندس عبد الرزاق أوسي (رزو)، والدكتور عبد اللطيف (بافي نازي)، والدكتور سعد الدين ملا.
عندما نضع إنسانيتنا فوق قوميتنا وديننا وطائفتنا… وفوق كل الاعتبارات التي من شأنها تشويش الذهن والمزاودة على الآخرين، هذا لا يعني أننا نتنكر لما نحن عليه، لكنه يعني أن الأفضلية للإنسانية، ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم لاستمرارية النوع الإنساني في ظل التهديدات الحالية.
فهو نفسه الذي قال: “لن تحتاج الكردية أو الكردي بعد اليوم إلى أن يفسر لمن يسأله، إنه من أحفاد صلاح الدين، الذي حرر القدس لا دمرها، أو أحمدي خاني الذي سطّر ملحمة “ممو وزين” الأقوى من روميو وجولييت، ولا أن يستشهد بقائمة طويلة تضم أسماء شخصيات عظيمة في الدفاع عن التراب، وفي العلوم والفنون والآداب، من سيبيريا وحتى الصعيد المصري، ومن القفقاز حتى بلاد الشام وما بين بلاد الرافدين! حسبهم جملة واحدة: نحن أبناء شعب حارب الإرهابيين، ودحرهم!”.
وأيُّ استشهاد يمكنه أن يستشهد به دليلاً على تفضيله للإنسانية، على كل الاعتبارات الأخرى، أكثر من استشهاده بالرسالة التي أرسلها أنطون تشيخَف إلى أ.س سوفورين، بعنوان “قسمة الطبيب الصعبة في زمن الوباء”، حيث كتب تشيخَف: (لا أكتب شيئاً. رفضتُ الـمُـرَتّب، كي أمنح نفسي شيئاً من حرية الفعل. لذا أعيش دون فلس واحد! في انتظار جمع الجودار وبيعه). وتابع تشيخَف قائلاً في الرسالة نفسها: (عندما ستعرف من الصحف أن الكوليرا قد انتهت، فهذا يعني أنني استأنفتُ الكتابة من جديد. لا تعدّوني أديباً ما دمت أخدم طبيباً في الريف. إذ يصعب اصطياد أرنبين في وقت واحد!).
محمد عبدو النجاري، ابن مدرسة الأدب الواقعي، التي أنا نفسي أنتمي إليها… مدرسة تشيخَف، بولغاكَف، بوشكين، غوركي، ليرمَنْتَف، ليف تولستوي، دوستويفسكي، وغيرهم من العظماء الروس، الذين كانوا المنبع الذي انطلقنا منه ونهلنا منه ثقافتنا على مدى العقود الماضية. إنه وليد الأدب الروسي… أكثر آداب العالم إنسانيةً وسخريةً هادفةً للمضي بالإنسان نحو حياةٍ أفضل… للمضي بالإنسان من السطحية إلى العمق، حيث نلمس سخريته الموجهة إلى نفسه قبل الآخرين في بعض مقاطعه الزاخرة بالانفعالات والمشاعر العميقة، ومنه على سبيل المثال لا الحصر: “في بيتنا خمس مرايا، من مختلف الأحجام والأشكال! أصطدم بها أينما اتجهت، وأتهمها، واحدة تلو الأخرى، بأنها تشوّه صورتي، ولا تنقلها كما هي في الواقع! لو كان الأمر بيدي، لنفّذت بسرور إيعاز سوفورَف، وهشّمتُ، دون ندم، جميع مرايا بيتنا، بل ومرايا العالم كله!”.
وأيضاً: “كانت علاقتي بالدخان علاقة غريبة، إلى يوم هجره، فلم أكد أدخن إلا وحيداً في المساء. كما لم أدخن، غالباً، جالساً ولا ماشياً، إنما واقفاً في الفناء أو في الشرفة. لم أرغب في أن يقترب مني أحد في أثناء التدخين، ولا أن يحكي معي أحد بعد السيجارة الأخيرة قبيل النوم. وإذا ما “أخلَّ” أحد بهذه القاعدة، كنت أذهب لأدخن سيجارة أخرى، وأعود إلى الفراش مباشرةً”.
“عشت لأتذكر”، سيرة ذاتية في 495 صفحة. كنت قد قررت قراءة مقاطع متفرقة من هذا الكتاب لضخامته وحاجة قراءته إلى الوقت، ولأن المقطع فيه لم يكن يرتبط بالمقطع الذي قبله ولا بالذي بعده. لكنه شدني إليه بعد قراءة الصفحات الأولى منه، ولم أجد نفسي إلا وأنا متورطة بقراءته حباً في استكشاف المزيد عن هذه التجربة الحياتية الغنية والممتعة… بينما عيناي تنتقلان من سطر إلى آخر، ومن صفحة إلى أخرى على مدار ثلاثة أيام متواصلة، لأسلوبه الشيق أولاً، وغناه بالمعلومات التاريخية المهمة ثانياً، ولكثرة احتوائه على المشاهد الإنسانية والحياتية المعاشة، والتي رواها لنا الكاتب بكل موضوعية وشفافية وواقعية، الأمر الذي يجعل من هذه السيرة الذاتية عملاً توثيقياً للحياة التي عاشها الناس في منطقة الجزيرة في النصف الثاني من القرن العشرين… إضافةً إلى كونه عملاً روائياً جديراً بالقراءة والتأمل والاستكشاف.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…