إبراهيم محمود
يشعر كرديٌّ ما، أنه مضطرٌّ لأن يوزّع مشاغله النفسية والذهنية على أكثر من محور حياة. يشعر كردي ما أكثر من الشعور المعتاد نفسه، بوجوب مضاعفة قواه النفسية، أن يزيد من وتيرة الضغط على نفسه، على كل خلية داخله، ليكون أكثر تفاعلاً مع نهر الزمن، وخصوصاً في زمننا الديجيتالي هذا، ليكون له زمن معتبَر، أو بعض من ” حسناته ” على الأقل.
يشعر كردي ما، ولكي يكون كردياً باسمه الفعلي، بما يعزّز فيه حضوراً يُسميه، وليس مجرد الجسد اليومي، العابر، جسد ” من الفرشة إلى الورشة “، وبالعكس، وشعوراً منه بوطأة الوعي الزمني عليه، ليكون له صوته: دمغة الزمان: المكان، يشعر أن عليه الشعور بأكثر منه تباعاً!
هذا الكردي الـ” ما ” الذي أجيزُ لنفسي باعتماده إلى نهاية المقال وأكثر، هو الذي الباحث عن صوته الممتد في الزمن، إلى جانب ظله المبثوث في المدى المكاني، وهو الذي يحمل لقب الكاتب، الشاعر، كردي هو اسم علَم، رغم فعل التجهيل علامة قسرية له.
ولحظة التسمية يتراءى الكردي بحقيقته تاريخَ ولادة، وتنصيب إقامة كتابة: نثراً وشعراً. وإذا سمحت لنفسي بإضافة هي تعميق للمسطور حتى النقطة هذه، وليس إضافة تماماً، فهي العبارة التي أطلقها الأميركي هارولد بلوم بلسانه النقدي البصير: على قدر شعور المرء بكونه قوياً، يكون شعوره بالمرارة أقوى، وانحرافه عن الواقع أبرز.
ذلك قانون جاذبية الكتابة، والكتابة الشعرية في الواجهة، حيث تسلخ اللغة جلدها اليومي، وتجلو بنيتها المتجاوزة للواقع، دخولاً في واقع مغاير. هو الواقع المعاش شعرياً، إن من جهة المتخيل، أو من جهة التوجيه اللغوي للمعنى مجازياً، حيث يقرأ الزمن في بعض مؤثّر منه شعراً.
هنا، يكون للكاتب الشاعر الكردي، أو العكس طبعاً: عزيز غمجفين Ezîz Xemcivîn ” مواليد الحسكة 1965 “، مسوّغ التقدم بهذه العلامة المجازة في إطلاق عنان متخيله شعرياً، وله تموقعه في النثر: رواية وكتابات نثرية: أمثولية وغيرها.
لدي، أمامي، ثلاث مجموعة شعرية له، تسمح بكتابة ما كتبتُ، وإبقاء باب القول الشعري على مصراعيه. وأنا أرسم إشارات، في ضوء المتاح، إشعاراً بهذه الذائقة المركَّبة. ذائقة الكردي المُرة تجاوباً مع مرارة شتاته الكردي وهو طي جغرافيته المتشظاة، أو شتاته الكردي وهو في جهات جغرافية بينها غاية التباعد، ليجد نفسه رحالة الجهات، باحثاً عن عناصر تكوينه، كي يتدبر أمر نفسه، قادراً على رؤية الكردي الموحد داخله، وضريبة هذا البدء إيلاماً ونزف روح.
من ” أمواج تنهيدة ذاهلة Pêlên Ahîna matmayî ” إلى تطريزات الحرية ” Tnteneyên Azadiyêف ” تواقيع الحب Navîşkên Evînê ” وكلها صادرة عن دار Ajans ” في ” آمد ” لعام 2021 . وهو تاريخ لا يعني أنها كتبت في ذات التاريخ، كما هو الملموس في التواريخ المقروءة أسفل القصائد، وتلويحات المكابدة طيَّها .
غمجفين” جامع الهموم ” حصيلة مرارة الكردي مما يراه ويعيشه أو يكابده، لا يخفي لعبة كرنفالية بعناوين مجموعاته الشعرية، فالعنونة راهناً صنعة قائمة، لها مهارتها، وشفافيتها النافذة، وتترجم جوانب حية من رؤية الشاعر الجمالية، وما في هذه الرؤية المفتوحة من قابلية استبصار اللامرئي. أليس الشعر لقاء المجهول واستدراجه إلى معلوم ممضي باسمه؟
الكردي متنوعاً، التنوع وصفة الكردي لذاته فناناً، شاعراً، كاتب نثر، أو ناقداً، شعوراً بوجود فراغ ما، بما هو مستجد، ليكون أكثر صفاء جسد روحي، أو تحليقاً بروحه المتخيلة على الممتد والمنقسم على نفسه كردياً هنا وهناك، حيث لكل كردي رصيدة من المرارة المشعة هنا .
تنوعٌ يترجم هوية المأخوذ بالجمال، وفي حال الكردي، يضاف التفجع بالمسفوك فيه كردياً: جغرافياً وتاريخياً ، طالما أنه يعيش علة مزمنة وجارحة ومقلقة على وقع ” البطاقة الحمراء ” التي يلوّح به مناكده، عدوه القومي ، خصمه الناهب لجغرافيته وتاريخه، ومن ثم المهدّد له باسمه، بلسانه، بظله، بصوته المختلف. لتكون المرارة ملازمته كثيراً .
فيكون التغني بالوطن علامة حِدَاد عليه، واستنهاض لاسمه على مدار الوقت، وأنّى عاش، وهو طي خاصيته الكردية.
ثمة العمق الذي لا يُسبَر على وقْع شفافية مقدَّرة، تترجم بدعة الفلاح في مصادقة الوامض في العمق هذا ، عمق يتشابك مع بساطة، غاية في البساطة، إنما متعددة الطبقات، دونها ينعدم الشعر، ويضيع المعنى حقاً.
أن تقرأ عزيز غمجفين، هو أن تقيم وصلاً متعدد الجهات مع شاعر يُسمِعك صوته ولن تخطىء في اعتباره صوته حصراً، وليس أي صوت آخر.
أتوقف هنا، حيث أنتقل إلى رحابة المجموعات الشعرية الآنفة الذكر، وأنا أورد عناوين من كل منها، للنظر ليس إلا:
من ” أمواج تنهيدة ذاهلة ”
القلب النفيس
نعم يا الروح
بقدر ما يكون القلب ذاك نفيساً،
يُشعرني دائماً بالحياة !
متفائل،
عندما يعلّمني الطيران
في بستان المرغوب
الحب الأول
أقبلَ موعد لذلك التلك الحديقة
يا للعش الذي بناه داخلها
أيقظ القلم الملون في تنهيدة الأسئلة
حرارتك،
سرقت القصيدة مني.
لم تخش نباهة الأصابع
في الخفاء مضت الروح صحبة الروح
ضحك القلب وقال:
” سرق اللصوص من اللصوص، سألتْ عنهم السموات والأرض “. ص 15
قامة الليل
القلب لا يسمح
في أن يستودعك الليل
حيث يتدثر بالذكريات
يليق به البرد والحر
تزين قامة الليل بأسئلة العشاق
يعرف الليل أننا أهله
يعرف الليل أن قلبينا أكثر لصوصية من اللصوص
أكثر جرأة من قطاع الطرق والغزاة
وأكثر خطورة من شبح الليل
يعرف الليل أن العاشقين والنوم في عداء
إن رقصة القلم وحمّى جسد القصيدة تأتي مع الليل
تتناظر الأعين
تتحاكى الأعين
في الزنازين والأقفاص أيضاً
تطحن الأفكار برغل الحب. ص 31
مفاصل التأوه
في عقدة الكلمات ضحكة متبرعمة حديثاً
في بؤبؤ الأعين حماس الليل أنار عش الشكوى
مفاصل التأوه استيقظت في التقاط الرائحة
ندى الرغبة، بلل سيماءات مقصد القلب
اغتسل التمني في تردد صداه في ينبوع الأحاسيس
الوجع أيضاً، داوى ألم الأسئلة المنجرحة بالحب. ص 71
حدود
عندما وقعت طيَّ حدود عينيك
توارى قمر القلب في حكاياتهما. ص99
الحمامات الخجولة
بتلك المعرفة
أظهرت حمرة خدود وجه الحب
أطارت زوجي حمَام خجولين خوفاً مني ومنها
من غليان حسرتنا
من رقدة صدرينا
من جوع رغباتنا
توجهت طيور كلماتنا
صوب أشجار حور الكلمات
على حبّات قمحية رسمت عاطفتنا . ص 119
من ” تطريزات الحب “
رأس السنَة
رأس السنة مدمّى
ونهاية السنة مدماة
جرح قلبي
تارة كوباني
تارة قامشلو
وتارة عفرين. ص 21
صباحاً
وحده الصباح قادر
أن يقدّم ” عزيز غمجفين ” بصواب من أجل بحر عينيك
يستطيع السباحة في أحاسيسك
لك وباسمك يشيّد معابد الحب
وحدك تستطيعين القول مستهلَّ الصباح:
” باسم الحب الرحيم الكبير، الرحمان،
قدِمنا إلى حضن الصباح . ص 34
دموع الصباح
سأكتب قصيدتي بدموع الصباح
سأطرز بقلم حر
ألوان حرية غضاضتك
على جبهة الحب. ص47
أغصان الزيتون
أنظر إليك
أمام نافذة الحرية
تكحلين عينيك بأغصان الزيتون
عفرين الحب، عروس جبل قلبي
تمضي الزوابع، يبقى موطنك أخضر . ص 63
الليلة المباركة
بتلك الليلة المباركة
قسماً بدموع الجُمَل
بحلاوة لحظات الحب
سأيمّم وجهي صوب نور فردوس روحك
لها وحدها أصلي . ص 79
المتفجر
عفرين
الحسكة
و
قامشلو
عناقيد ثلاثة من الوطن منجرحة
من النار حتى المتفجرات
تستمر دموع القمح والزيتون دون توقف . ص95
أنا
أنا، ذلك التراب
ذلك الذي أثرُ أصابعك في محيطه
إذ تطرز أنسجة حلوة
أنا، تلك السماء
تلك التي سمّى صدري علَمك بالحرية
أنا، ذلك الحب
ذاك الذي يعشش في كل مرة طيورك في رأسه . ص148
من ” تواقيع الحب “
يقظة
أكون عيناً يقظى
على حدودك
سأكون
سور إحساس
وسماء ضحوكاً
سأكون
على رأسك ظل الحياة . ص 17
سر
أعرف أنك تقرئينني في صمت
في صمت تنقشين مرآة حبي
صورتان معاً تصبحان شمساً وقمراً
ووثائق القصائد الوردية لن تعود قادرة
على إخفاء أسرار أعيننا. ص33
يا وطن
من أجل ضحكة عينيك
من أجل قلب حبك
من أجل ألحان نظرتك
من أجل كلمة أمسيتك
أعبُر كل الحدود من أجلك
وردتك على صدري
الصدر من أجلك حياة
يا وطني . ص59
وطن الجرح
يا وطن !
غدا، يوم العشاق..
البارحة، اليوم، وغداً حرب عليك
بالأسلحة الدموية باركوك
وطن الجرح
داو ِ جرحك بنفسك . ص 106
يا وطن
ما بين الذِرّ والعروة
ثمة بحيرة حمراء وجبل عار ٍ
يا وطن !
لا تضيق علي ذراعيك أكثر
حجاب الوجود بات يخجل من عيون الحرية . ص133