قراءة في الأعمال المنجزة في سيمبوزيوم السليمانية الثالث في كردستان العراق.. ماهر ستار يستجيب للعامل الجمالي الذي ينبض فيه (16)


غريب ملا زلال

أراقبه و هو منهمك جداً مع لوحته، في تلك الزاوية التي اختارها لتكون صومعته، و هو ككاهن ينشد فيها تراتيله، لا يجد إلا القليل من الوقت ليلتفت بها، يوزع نظراته على فضاءات الملتقى، على أصدقائه الفنانين الآخرين، و هم مشغولون بما سينجزون، ثم يعود بها مسرعاً إلى جهات صومعته تلك حيث ريشه و ألوانه و قماشه الأبيض تنتظره ليبدأ بترتيب أفكاره الجمالية بها و عليها، فيجذبه الطقس الذي خلقه لنفسه، و يستجيب لحالته بشعور كبير من المتعة و الحب، يستجيب للعامل الجمالي الذي ينبض فيه، و الذي سيقفز من دواخله ليحيط بالمكان حتى يزيد شعوره به، فكلما كان المكان جميلاً، و كلما كانت روح الفنان جميلة كلما كان قادراً على تحريك الذوق الجمالي و الإرتقاء به، كلما كان قادراً على الإمساك بالأشياء و تنشيط مخططاتها المعرفية الخاصة، تلك المخططات التي يراها ماهر ستار بمنزلة البنية العامة الخاصة بمشهد معين تكون خصائصها بعض التفاصيل و الخصائص التي تناسب التغييرات الجديدة لديه،
 و الشيء بالشيء يذكر فهو يملك من الخبرة ما يسمح له الإهتمام بالحركة المتتابعة و التي تصور حالة شخوص لها إيماءاتها الخاصة، لها مفرداتها التشكيلية التي تكاد تشكل مكوناته البارزة للتعبير عن جوانب إنسانية تشغل باله كثيراً، فهو يصور شخوصه بحالة تثير الإنتباه لطريقته في معالجة موضوعاته، لا لعنايته بأمورها الخاصة فحسب بل لإستكمال بروزه لمظاهر إجتماعية، إنسانية في أزمنة مختلفة، متخطياً الوقائع المصطنعة و الجاهزة نحو التعبير عن موقفه الإنتقادي للمنطلقات الأساسية للمجتمع و وسائلها الإستهلاكية القاتلة، فستار من هؤلاء الفنانين الذين يشتغلون على التطور الفني لهذه المرحلة، و من الذين يمنحون عملهم صفة الحدث و المضمون الإجتماعيين، دون أن يبرزوا الجانب الإعلاني السياسي فيه / منه، فهم يدركون و ستار منهم بأن إبراز هذا الجانب يبسط العمل و يسقطه في بئر القراءة السهلة، و هذا يطعن ما يشتغلون عليه من تطوير الفن و دفعه ليكون زاداً لتاريخ نعيش فيه، و لتاريخ سيتحدث عنه .
ماهر ستار يتبنى بعض العناصر من محاكاته لعوالم خاصة، و عوالمه الخاصة منها بكل تأكيد، و يمثلها بتعبيرية مشبعة بمناخ تراجيدي، منبثقة من وعي لا يبتعد عن رؤى خيالية تقرب حنينه من عوالم حلمية تنسجم إلى حد كبير مع طبيعة هندسته لهواجسه حين يستكشف فيها الحقائق اللاواعية و يبدأ بالتعبير عنها تشكيلياً، بحيث توحي له و لنا بأنها تراتيل من سجل حياتي أنشدها كاهن فنان مستحضراً مظاهر جمالية بتداعيات لها علاقة مطلقة بأشكاله ذات الملامح البيئية و بالفضاء العميق لديه، لم تكن غايته تقديم الموضوعات على اهتماماته التقنية التشكيلية، بل اختيار مواضيع متخيلة بتراتيله هو، مؤكداً على إتجاهه الجديد الذي يمضي فيه، و ما العملان اللذان أنجزهما هنا، في هذا السيمبوزيوم إلا ملخصاً لحرصه على التخلص من شوائب ما، و القيام بحركة جمالية بها يتخطى مرحلة و ينعطف إلى مرحلة أخرى، من مرحلة تحويل بياض العمل / اللوحة من مساحات مسطحة إلى فضاءات من البؤر تتموج في العمق على شكل تناغمات تعيده إلى إتجاهه الجديد، و بصرف النظر عن الأحكام التي يفرضها ستار على نفسه، فهو يقوم بتخفيف ما يحدث من التوترات و بنائها، و يستلهم من أفق تجربته وبإدراك حسي المفهوم الدرامي الموجود في مشهده البصري واضعاً نصب عينيه إستثارة توقعات المتلقي و إستجاباته له، و هو على يقين بأن المشهد يتشكل معانيه و يبثها في العيون و الصدور، و يكون في حالة تجدد دائم إذا حضر المتلقي فهو الذي يحقق إنجاز بنية العمل، و بتغيير شروط التلقي التاريخية و الإجتماعية يتغير المعنى فيها .
ماهر ستار 
تخرج من كلية الفنون الجميلة في بغداد عام 1995
من معارضه الفردية :
2015 في غاليري سردم بالسليمانية .
2015 في وزارة الثقافة العراقية ببغداد .
2019 في بيروت – لبنان .
شارك في العديد من المعارض الجماعية في داخل و في خارج اقليم كردستان .
أستاذ في معهد الفنون الجميلة بمدينة السليمانية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…