ماجد ع محمد
إذا كان الفلكلور أو التراث الشعبي لأي مجتمع هو بمثابة المرآة لذلك المجتمع، فهذا يعني بأن على المرآة أن تقدم نفسها على حقيقة ما هي عليه من دون إكسسوارات، أو إضافات بعيدة عن طبيعتها، وكذلك الأمر في عدم اللجوء إلى بتر شيء من لوحتها الأصلية إرضاءً لمزاج وغايات السلطات السياسية أو الأمنية، أو تحويرها بناءً على هواجس رهطٍ من المؤدلجين، وذلك لأن التراث الشعبي سيغدو متصنعًا إن أُقحمت في مساماته الأيديولوجيا وكل ما كان مختلقًا أو مِن منتجات الراهن، كما سيفقد الفلكلور المجتمعي بريقه وأهم ألوانه إن لجأت جهة سياسية ما إلى آلية التغييب أو التعتيم بحق بعض الأجزاء من لوحته الفسيفسائية.
التراث الشعبي علامة مميزة وفارقة لكل شعب، وهو ما يميز ملة أو شعب معيّن عن باقي الشعوب، وبما أن الفلكلور أو التراث الشعبي بمثابة ثروة كبيرة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد والمعارف الشعبية والثقافة المادية والفنون التشكيلية والموسيقية وفق الموسوعة الحرة، لذا فإن الاهتمام بكل جوانب ذلك التراث والحفاظ على ما كان بهيًا فيه مِن قبل الدولة أو مؤسساتها يُعتبر من الأولويات الملحة، كما أن هذا يعني بأن هذه الثروة الثقافية كلما تنوعت مصادرها كلما زاد غناها، بينما إذا ما حوصرت وتقوقعت وصارت لونًا واحدًا دل ذلك على فقرها.
وللأمانة كقارئ متابع لما كانت تصدره وزارة الثقافة السورية، وخاصةً المترجمة منها، منذ ما قبل 2011 بسنوات، فبالرغم من أن النظام السياسي في سوريا هو نظام شمولي وأمني ويحمل كل أمراض الأنظمة الاستبدادية، إلا أن الوزارة والحق يُقال كانت سبّاقة في ترجمة منارات الأدب العالمي قبل العشرات من دور النشر الخاصة، كما أن بعض القراء في سوريا قرأوا من منشورات الوزارة لـ ماريو بارغاس يوسا قبل حصوله على جائزة نوبل في الأدب عام 2010 وقبلها قرأوا لـ جان ماري غوستاف لو كليزيو قبل حصوله على جائزة نوبل للآداب في 2008، ما يعني بأن ثمة فريقًا متذوقًا للآداب العالمية في الوزارة يعي مكامن الجمال الفني والأدبي في الغرب والشرق، ويتابع حركة الأدب العالمي، ويختار منها الأعمال الجديرة بالترجمة وخاصةً في مجال الروايات والقصص والشعر والمسرح وباقي الفنون، وبما إني حاليًا مقيم بتركيا فلا أنكر بأن أفضل مختارات من الشعر التركي المترجم للعربية من التي قرأتها كانت من منشورات نفس الوزارة، وهو الأمر الذي دفعني كقارئ لمتابعة ما تنشره الوزارة وقراءة ما يتلاءم مع ذائقتي من منشوراتها ـ طبعًا مع إبعاد معظم الكتب السياسية والأيديولوجية الصادرة عن الوزارة نفسها ـ وهو ما يجعلني حتى بعد الخروج من سوريا بأن أقوم بزيارة موقع الوزارة من شهر لآخر في الإنترنت، عوضًا عن الزيارات الميدانية للنوافذ والمؤسسات التابعة للوزارة التي كنا نجريها على أرض الواقع في البلد.
ولكن ما لفت نظري عند الاطلاع على العدد 22 من مجلة التراث الشعبي الصادرة عن وزارة الثقافة السورية في الآونة الأخيرة، والتي كتبت وزيرة الثقافة الدكتورة لبانة مشوّح في افتتاحية المجلة مادة تحت عنوان “تأملات في لغة التراث”، هو أن العقلية الشمولية للنظام وتوجهاته فيما يتعلق بباقي المكونات التي تعيش إلى جانب الأكثرية في سوريا ما تزال على حالها، هذا بعد عشر سنوات من الخراب والدمار وقتل ما يقارب مليون مدني واعتقال ربع مليون وتهجير نصف الشعب السوري وفق التقارير الحقوقية، وبدا لي أن إدارة المجلة ما تزال تنفذ الرؤية السياسية للنظام بحذافيره، أو تتبع نفس الإرشادات المعمول بها قبل عام 2011، وتتجاهل فئة كاملة من المجتمع السوري، وتعمل على إقصاء تراث مناطق برمتها، بل وفوقها تأخذ ما يخصهم وتنسبها إلى فئات وأماكن أخرى من البلد، ومنها على سبيل الذكر: فصورة غلاف المجلة لسيدة من منطقة عفرين وكانت كادرة في فرقة نوروز للفلكلور الكردي، كما أن الصورة التي في الصفحة 89 من المجلة نفسها هي من تراث نساء منطقة كوباني (عين العرب) ولكنها مدرجة ضمن مقالة عن أدوات الزينة الشعبية في الساحل السوري كتبتها الدكتورة ناهد محمود حسين! هذا من دون ذكر شيء عن تراث المنطقتين المذكورتين.
عمومًا فلو أن التغيير الذي يتمناه معظم أبناء مكونات المجتمع السوري لم يمس الجانب العسكري أو الأمني في البلد لآمنّا بذلك التكلس، باعتبار أن النظام إلى هذه اللحظة يعوّل بالدرجة الأولى على الجانبين المذكورين لدوام بقائه، ولكن بعد الزلزال الذي ضرب البلد أن يستمر الجمود والتصلب حتى في المؤسسات الثقافة فهنا الطامة الكبرى، وذلك باعتبار أن الثقافة هي الملتقى الأرحب لكل الأطراف، وهي التي تجذب وتحتضن معظم المختلفين في الرؤى، وتقرِّب كل التيارات من بعضها بعكس السياسية التي تفرقهم، وهي تكاد تكون الإطار أو المساحة الوحيدة القادرة على جمع كل السوريين في مضماره؛ كما أن جملة التراث الشعبي تدل على السجية والرحابة والكشف ولا تتحمل أيّة توجهات عنصرية منغلقة، كما لا تتحمل ممارسات التضييق والأحادية، بكون التراث الشعبي جزء رئيسي من ثقافة البلد ككل، والثقافة نفسها تشير إلى التنوع والانفتاح وليس التقوقع والتفرد؛ ولكن من خلال قراءة مواد المجلة بدا لنا أن اللجنة المشرفة عليها إما أنها ما تزال كما كانت عليه قبل عام 2011 تتلقى أوامرها وتعليماتها مباشرةً من جهلاء الأفرع الأمنية، أو أن العاملين فيها يحملون نفس توجهات العاملين في أفرع حزب البعث العربي الاشتراكي، وإلاّ لما لجأت الوسيلة إلى نفس الوسائل المعتادة في السابق، أي إلى آليات الإبعاد والإلغاء والتعتيم والتجاهل كما كانت قبل 2011.
بالتالي يظهر بأن عشر سنوات من الحرب لم تتزحزح أفكار العاملين فيها من مكانها، ونظرتهم للآخر القريب بقيت على حالها، بما أن نظرتهم للآخر الغريب مختلفة بكونهم منفتحون على الآخر الغريب، بينما الآخر الذي في الجوار والداخل السوري فممنوع الاقتراب منه أو الإقرار بخصوصيته ولو في أضيق الحدود!
وفي هذا الخصوص فإن المطلع على الشأن الكردي يعي جيدًا أنه منذ ما قبل 2011 كانت السلطة ومن يمثلونها على طول البلد وعرضه يتعمدون تهميش كل ما يخص الكرد، سواء ما تعلق بالفن والأدب أو الهوية أو العرق، وحيث كانت الجهات الرسمية وغير الرسمية تعمل جاهدةً على إبقاء الكردي مهمشًا مغيبًا متجاهَلًا، وذلك لكي لا تستيقظ أناه القومية من سباتها كما هو الحال لدى الشريك العربي المفتخر بأصله وحسبه ونسبه وتراثه ولغته وعرقه ليل نهار، في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وحيث إن بقاء الكردي في سباته العميق بالنسبة للنظام السوري خير من استيقاظه، لأن اليقظة ووعي الذات ستقودانه إلى إدراك أناه القومية ومعرفة ما جرى وطبق بحق أبناء ملته من مشاريع عنصرية كالحزام العربي والإحصاء الاستثنائي.
في الأخير فإذا ما آمنا بأن بعض النسوة في وسائل التواصل الاجتماعي يلجأن إلى ارتداء الأقنعة ونشر صورٍ لنساء فائقات الجمال مكان صورهن الشخصية، منها لئلا يعرف أحد الشخصية الحقيقية المخفية خلف الصورة المستعارة، ومنها من باب ضعف الثقة بالذات يلجأن إلى ذلك الوجه المستعار، كما أن منهن مَن يتعمدن اللجوء إلى تلك الآلية من أجل الإيقاع ببعض الذكور الذين يفتنهم أي وجه جميل، أو بكون واحدهم يخر ساجدًا أمام أي صورة لامرأة حسناء؛ ثم إذا كانت بعض الأحزاب والتنظيمات تستخدم بعض النسوة كالإكسسوار الخارجي لها، بحيث تقوم تلك الوجوه النسائية بدور ترويجي أو تسويقي لذلك التنظيم أو المؤسسة فتستخدم حينها كواجهة للمؤسسة من أجل إرضاء الجهات الغربية؛ خاصةً إذا كان هدف المؤسسة تلقي الدعم السياسي أو التمويل من الدول الغربية، لذلك تلجأ إلى تلك الحيلة من باب التقرب من أصحاب القرار هناك باعتبار أن للمرأة وزنها ومكانتها الحقيقية في الغرب ومؤسساته.
السؤال الذي يطرح نفسه ههنا يا ترى ما الذي يدفع إدارة مجلة مهتمة بالتراث الشعبي السوري بأن تضع صورة لفتاة تحمل خصوصية ثقافية لأناس منطقة بأكملها ولكن من دون أي إشارة إليها أو إلى المنطقة التي تنتمي إليها أو إيراد تعريفٍ بها، ولو بمعلومة صغيرة عن نوع الهندام الذي ترتديه، أو معلومة عن المنطقة التي يرتدي نساؤها هكذا ملابس، أو إيراد أي شيء يخص صاحبة الصورة نفسها؟ فما الذي على القارئ إذًا توقعه؟ هل عليه أن يقول بينه وبين نفسه بأن الصورة مجرد اكسسوار تم اختياره لأنه مناسب لفحوى المجلة؟ ولكن كيف لمجلة رسمية صادرة عن وزارة الثقافة في دولة ما أن تضع صورة من دون أي معلومة متعلقة بها؟ خصوصًا وأن الفتاة ليست شخصية عامة حتى تقول إدارة المجلة بأن صورها منتشرة في كل وسائل الإعلام، وأنها معروفة بالنسبة للقارئ، فلا يستدعي الأمر ذكر اسمها أو ما يتعلق بها، أم ثمة رسالة ما تكمن خلف هذه الآلية التي اتبعتها الإدارة؟ ألا وهي أن على الملة التي تنتمي إليها تلك الفتاة التوصل للاستنتاج والاقتناع التام بأن النظام ما يزال على حاله لا يعترف بأيّ هوية ثقافية أو اثنية أخرى في سوريا غير هوية السلطة الحاكمة؟ بالتالي ما يزال هاجس الدولة ودهاقنتها إلغاء الفروق، ونبذ التعددية، ورفض التنوع، ونفي الخصوصية، والقضاء على الاختلافات، وابتلاع الثقافات أو صهرها في بوتقة ثقافة صاحب السلطة.