غريب ملا زلال
عبدالرحيم حسين ( رحيمو ) ( عامودا – 1962 ) من الأسماء المهمة في المشهد التشكيلي الكردي السوري إذا جاز لنا أن نقفز من فوق هذا المصطلح، و يشكل مع عمر حمدي، و محمد صالح موسى بشار عيسى، و خليل قادر، و بهرم حاجو، و زورو متيني، و أحمد قليج، و زهير حسيب، و حنيف حمو، و عنايت عطار، و الأخوين حسو ( محمود و رشيد )، و بشار برازي، لقمان أحمد، غفور حسين …. إلخ سيمفونية عذبة هي بمثابة ذاكرتنا الممعنة في الزمان و المكان، و له حضوره في الوسط الأوربي، يعيش فيه منذ ثلاثين عاماً، قدم خلالها الكثير من المعارض الفردية، و شارك في العشرات من المعارض الجماعية، رحيمو يشتغل بهدوء المحب و العاشق لفنه، يشتغل بصمت الملائكة التي لا تحضر إلا إذا حضر الجمال بكل أريجه،
لست هنا بصدد الحديث عن تجربة رحيمو و حضوره الجميل في الوسط، فسبق كتبت عنه و عن تجربته أكثر من مقال، فقط أحب أن أذكر بأنه في معرضه الفردي الأول الذي قدمه في مدينته عامودا عام ( 1988 ) تحول إلى ما يشبه التظاهرة، خرجت المدينة كلها عن بكرة أبيها تحتفي بإبنها الوفي الذي أبى إلا أن يكون معرضه الأول فيها، بين ناسه و أهله و أصدقائه، خرجت لتشارك إبنها معرضه هذا، شيء لم تعشه المدينة لا من قبل و لا من بعد، أن يخرجوا جميعاً لحضور معرض فني، هذا بحد ذاته نصر له و تاريخ يسجل له، إستطاع أن يوحد صوتهم و خطواتهم و عزفهم، في هذا الجانب الفني التشكيلي الجميل على الأقل، أقول لست بصدد رصد تاريخ رحيمو و تاريخ تجربته، فلديه ما يحكي و ما يروي أكثر مما كتبت عنه سابقاً بكثير، أعماله هي جواز سفره في هذه الحياة، و لكن ما أنا بصدده ما أنجزه مؤخراً من عمل تصويري استوحاه من التراث الكردي، من إحدى أهم قصصه الغنائية ( فاطمة صالح آغا )، الأغنية الأكثر شهرة في الوسط الكردي، غناها الكثيرون و إن كان الأول و الأجمل بصوت الفنان رفعت داري، و بمرافقة محمد شيخو عزفاً، فمن من الكورد لم يسمع لهذه الأغنية الملحمية، أغنية تلخص الحب و العشق عند الكورد، الحب الذي إن حضر لا بد أن يشق طريقه، و لا بد للعاشقين أن يمضوا في طريقهم العذب، بغض النظر عن العادات و التقاليد الشعبية التي كانت تحمل رؤية قاسية في ذلك .
رحيمو في إقترابه من حكاية فاطمة صالح آغا هو إقتراب من حكاية باتت جزءاً من الذاكرة الشعبية، جزءاً من مخزون غني في هذا الجانب، فمهما نهل منه المبدعون لا ينضب، و هذا الإقتراب هو الشروع في تمثلها فنياً بكل مسلماتها، مأخوذاً بالجدة، مفتوناً بها، يندس في صميم الحكاية و يديرها بدقة، يحيط بمفرداتها و بما تضمنته من إمكانية البناء فيها، فيمارس عليها نوعاً من الاحتواء حتى يجعلها تخدم مشروعه و تفي بحاجاته الجمالية دون عسر، فثمة كلام يدور في دواخله محققاً رغبته في إنجاز حديث بالإتكاء على نص قديم، القصد منه الحرص على الاحتواء لقيم الجماعة التي تجعل النص ممدوحاً بخصال و ناس هم مدارها، الإلتزام بخطاب يجسد فيه مع تلك العوالم العامة عالمه الداخلي، عالم فكره و نفسه و قلبه و نشاطه الإجتماعي و الفني في الوسط المحيط، و في الزمان و المكان، فهو يدرك بأنه يرسم الإنسان لا في حالته السكونية، بل في حركته المستديمة التي لا تعرف الثبات، و بعينه المبصرة يغوص في عمق الحكاية منتشلاً منها وعي و مشاعر أناس عاشت في عصر مختلف، تحمل قوة النفس الإنسانية بفكرها و شموخها، و ببحثها عن السعادة الإنسانية أو خلقها، و التي تشكل بؤر الحكاية التي يجسدها رحيمو في رحلة ألوانه، معبراً عنها بأشكال و وجوه هي وجهات نظره فيها، في الإنسان – الفرد كجوهر الحكاية، واضعاً في حسابه بأن العمل الفني الذي ينجزه ما هو إلا مغزى معرفي و جمالي بها يتجاوز الصعوبات الكامنة فيه نحو تقديم المتعة الفنية و بقائها إلى حد ما، و هو بذلك يقدم نمذجة لعالم الواقع و الإنسان برؤيته هو، نمذجة فيها تتجلى وحدة مكوناتها من العام و الخاص، و إن كانت تحمل سماتها الخاصة المتعلقة بأساليب التعميم الفني للحياة، تعميم الحياة و العالم الداخلي للإنسان، و هذا لا يقلل من أهمية قضايا الشكل بل يعززها و يجعلها تقود حكايتها الأنموذج بحركات حية متعددة الأبعاد و الجوانب، تأخذها من خلال تطورها التاريخي و كذوات ملموسة، مضيفاً عليها ما يرفع من حيويتها و تميزها و ما يجعلها أكثر غنى، إن كانت للحكاية على نحو عام، أو للعالم الداخلي لبطلته ( فاطمة صالح آغا ) على نحو خاص .
رحيمو ينظر إلى الحكاية المعروفة فاطمة صالح آغا و التي باتت مألوفة في المشهد الغنائي الكردي نظرة غير مألوفة، فالحكاية مبنية على أحداث حقيقية جرت في عامودا أو في أطرافها حين سكن البدو الرحل على الحدود التركية حسب الباحث في التاريخ عمر إسماعيل، و تبدأ بمجموعة من الصبية و هم يلعبون بكرة من القش، و مرة تصدم تلك الكرة الإبن الوحيد لإمرأة مسنة التي تألمت كثيراً لمشهد إبنها فإقتربت من الفاعل محمد و هو إبن رئيس القبيلة قائلة له بكل عنفوانها و غضبها ” و كأنك متزوج من فاطمة صالح آغا ” فيزداد جنون محمد و غضبه و يبدأ بالبحث عنها و السفر إليها حيث تقيم و تنتهي الحكاية بإعلان زواجهما و قيام الأفراح لمدة أسبوع بعد أحداث درامية غنية، هذه الحكاية التي باتت جزءاً عذباً من التراث الغنائي الكردي، رددها الكثيرون غناءاً ( رفعت داري، حسين كيجو، محمود شنكالي، رافي مردويان، صفقان أوركيش، يارا أحمد، ….. إلخ ) مضيفين عليها من لمساتهم، هذه الحكاية لم يقترب منها رحيمو إقتراباً تقليدياً، بل اقتنص منها وجوهاً في لحظات معينة كانت قد اكتملت و نضجت في تطورها الذي تستحقه، وجوهاً لم تكد تغادر الحكاية و هي تمضي نحو النهاية لتستقر على فضاءات رحيمو تعيد سرد حكاياها بالشكل الذي يراه رحيمو على ضوء مبادئه في الرؤية، فلا جزيئات سقيمة فيها، بل من البداية يدخل متلقيه في جوه و ما فيها من أبواب مفتوحة حين يدفع فاطمة بوجهها و ملامحها التي يراه هو إلى مقدمة العمل لتحكي وجعها و حبها الذي كان بتلك الغنائية التي تطعم العمل بإضافات معينة متعمدة، تساعده على تطوير الحدث و حركته بالشكل الذي يراه و الذي يتطور من داخله بالذات، و هذا ما يجعله يمتلك أهمية بالغة مبدأ تعميم الحياة في النماذج الفردية، تجسيد العام في الخاص، و من جهة أخرى يلاحظ رحيمو أن كل وجه من وجوه عمله هو بمفرده يكاد يكون إنموذجاً كاملاً يتكلم عنه و عن أفكاره التي تنطوي عليها، فلا شيء غامض لديه و لا شيء مظلم، فكل جواهره تحمل مزاياها الفنية بدقة و حذر
تلخصها الفكرة الكامنة في أساسه، و هو لم يتول مهمة السرد الحكائي بوصفه شاهداً على الحياة و الوقائع التي صورتها الحكاية الشعبية، بل و في ضوء تعاطفه مع نبضها و روحها المميز يلجأ إلى تعابير لونية جامحة في الحب، مفعمة بالفرح، بها يعكس تركيباته الدقيقة، و ميولاته الجمالية المعبرة، و لغته التي تذكرنا بإستقلاليته في إستنباط سماته الفنية و الأسلوبية التي بها يُمَكِّن اكتشافاته بسماتها الراسخة، مراعياً تلك المتطلبات الجمالية النابعة من صلب القوانين الموضوعية العامة للفن، و من حرية الإبداع الفني .