تاريخية العقل البشري

ابراهيم البليهي

 خلال القرون كان الناس يتصورون أن العقل كيانٌ نورانيٌّ مختلفٌ عن الجسد ومنفصلٌ عنه نوعيا لكن العلم والتاريخ والواقع تضافرت كلها لتؤكد تاريخية العقل البشري؛ فكل أمة تَكَوَّن عقلها أي نَسَقُها الثقافي بواسطة تاريخها والظروف التي أحاطت بها والأحداث التي رافقت نشوءها وتكوينها …..وحين يعلن فلاسفة ما بعد الحداثة عن موت العقل فإنهم يقصدون التغيُّر الجذري الذي طرأ على مفهوم العقل؛ فكل أمة لها عقل يختلف عن عقليات الأمم الأخرى وكل فرد له بنية ذهنية بأنماط مختلفة عن الأنماط الذهنية لكل الآخرين فلم يعد العقل بنية واحدة متماثلة عند كل البشر وإنما العقل يتكَوَّن بمحتواه فتتعدد العقليات بتعدد الأنساق الثقافية وتتعدد العقول بتعدد الأفراد وبسبب ذلك تتأكد حتمية الاختلاف في الآراء والتصورات والأنماط وصعوبة التوافق وهيمنة الذاتية وصعوبة التحقق الموضوعي ومن هنا انطلقت مقولة: موت المؤلف لأن الذاتية هي المهيمنة مما يستبعد الموضوعية ….. 
القائلون بتاريخية العقل يؤكدون على أن العقل متحول حتما أما الحقيقة فهي أن التحول ليس حتميا وإنما مجرد قابلية فالأسبق يملك قوة هائلة لفرض الاستمرار لذلك فإن الأنساق الثقافية ما تزال تتحكم بالعقل البشري بمختلف أنساقه رغم كل التطورات العظيمة التي حققتها العلوم …
– العقل الفردي والجمعي قابلٌ للتحول لكن الغالب عليه أن عقل الأمة وعقول أفرادها لا تتغير فالقابلية لاتعني حتمية حصول التحول فالعقل العربي مثلا لم يطرأ عليه أي تحول نوعي منذ خمسة عشر قرنا ….
– مرونة الدماغ وقابلية التحول تتيح فرصة في غاية الندرة للإفلات الفردي من قبضة التبرمج الأسبق وبهذا الإفلات الفردي تطورت الحضارة وذلك بانفصال أفراد خارقين عن هيمنة النسق مثل نيوتن وديكارت وآينشتاين وأمثالهم من القلة المبدعة ….
– القول بتاريخية العقل لا تعني حتمية التحول بل تعني قابلية التحول كما تعني أن العقل ليس جوهرًا نورانيا ثابتًا كما كان متصوَّرًا في السابق وكما كان يراه التنويريون في القرن الثامن عشر وهذا هو ما يعنيه القول بموت العقل أي موت التصور القديم عن العقل …..
– اكتشاف تاريخية العقل توجب على كل فرد أن يستنفر طاقته لنقد وفحص محتويات عقله ومواصلة البحث والاستقصاء والتحقق من أجل تحرير عقله مما تراكم فيه من تحيزات وأوهام وأخطاء وعُقَد ….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أعلنت دار الخياط – واشنطن عن صدور رواية جديدة للكاتب والباحث السوري مازن عرفة بعنوان «نزوة الاحتمالات والظلال»، لتضاف إلى سلسلة أعماله الأدبية التي تجمع بين العمق الفكري والخيال الجامح، وتفتح أفقاً جديداً في السرد العربي المعاصر.

وتطرح الرواية، التي جاءت في 190 صفحة من القطع الوسط، عالماً غرائبياً، تتقاطع فيه نزوات الطغاة مع رغبات الآلهة،…

غريب ملا زلال

أحمد الصوفي ابن حمص يلخص في تجربته الفنية الخصبة مقولة ‘الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح’، وهو كثير الإنتماء إلى الضوء الذي يحافظ على الحركات الملونة ليزرع اسئلة محاطة بمحاولات إعادة نفسه من جديد.

يقول أحمد الصوفي (حمص 1969) في إحدى مقابلاته : “الفن رؤيا جمالية وبدائل لفساد الروح”، وهذا القول يكاد ينبض في…

عبد الستار نورعلي

في الليلْ

حينَ يداهمُ رأسَك صراعُ الذِّكرياتْ

على فراشٍ مارجٍ مِنْ قلق

تُلقي رحالَكَ

في ميدانِ صراعِ الأضداد

حيث السَّاحةُ حُبلى

بالمعاركِ الدُّونكيشوتيةِ المطبوخة

على نارٍ هادئة

في طواحينِ الهواء التي تدور

بالمقلوبِ (المطلوبِ إثباتُه)

فيومَ قامَ الرَّفيقُ ماوتسي تونغ

بثورةِ الألفِ ميل

كانتِ الإمبرياليةُ نمراً..

(مِنْ ورق)

بأسنانٍ مِنَ القنابلِ الذَّرية

ومخالبَ مِنَ الاستراتيجياتِ الدِّيناميتية

المدروسةِ بعنايةٍ مُركَّزَة،

وليستْ بالعنايةِ المُركَّزة

كما اليوم،

على طاولته (الرفيق ماو) اليوم

يلعبُ بنا الشّطرنج

فوق ذرى…

حاوره: إدريس سالم

إن رواية «هروب نحو القمّة»، إذا قُرِأت بعمق، كشفت أن هذا الهروب ليس مجرّد حركة جسدية، بل هو رحلة وعي. كلّ خطوة في الطريق هي اختبار للذات، تكشف قوّتها وهشاشتها في آنٍ واحد.

 

ليس الحوار مع أحمد الزاويتي وقوفاً عند حدود رواية «هروب نحو القمّة» فحسب، بل هو انفتاح على أسئلة الوجود ذاتها. إذ…