فيلم ذَنْب لا يغتفر.. امرأة في سجن بلا جدران

أحمد اسماعيل اسماعيل

تتكرر موضوعة السجن في السينما كثيراً، ومنذ عقود طويلة، حتى تجاوزت مفهوم السجن المختزل بالزنزانة والقضبان والسجان، إلى أمداء أوسع وأعمق، يكون السجن فيها بلا جدران، والجميع فيها سجين وسجان.
ويُعد فيلم “ذنْب لا يغتفر” سيناريو بيتر كرايغ، وإخراج نورا فيكشايندت، وبطولة ساندرا بولوك وطائفة من الممثلين، منهم: فيولا ديفيس، فينسنت دونوفريو، آيسلينج فرانسيوسي، وروب مورغان..وآخرون. انتاج سنة 2021 واحداً من هذه الأفلام، والذي تم عرضه لأول مرة في نيتفليكس: يوم العاشر من ديسمبر من هذا العام 2021.
في بداية الفيلم، وقبل ظهور الصورة، يصاحب توالي أسماء صناع الفيلم على الشاشة السوداء، صوت خافت وهو يدندن بشجن، في إشارة، ربما، إلى عدم استثناء هؤلاء أيضا من موضوعة الفيلم، ثم يتم اقحام المتفرج في العالم ذاته بمشهد يحتوي على لقطات متداخلة وسريعة: صراخ وحرق أغصان وكتب وإطلاق نار.. وطفلة تطرق باباً مقفلا وهي ترجو والدها ألا يفعل ذلك، ومقتل مفتش بوليس، واعتقال الب2طلة التي كانت لا تكف عن الصراخ من وراء النافذة ضد رجال البوليس. تستحضر روث سلايثر “ساندرا بولوك” هذه اللقطات بما يشبه أحلام اليقظة بالتزامن مع إجراءات مغادرتها السجن، وذلك بعد عشرين عاماً قضتها داخل أسواره تنفيذاً لعقوبة لم ترتكبها، ومع توالي المشاهد وتقدم الفيلم، سنعرف أن هذه اللقطات المبهمة والخاطفة، ليست كابوساً، بل حقيقة، والمشهد المؤسس، الذي سيبنى عليه الفيلم برمته، وليصبح جزءاً من غالبية المشاهد، مدخل مشهد لروث، أو خاتمة مشهد لأختها كاتي. 
تدور أحداث الفيلم عن قصة امرأة حكم عليها بالسجن مدة عشرين عاماً لقيامها بقتل مفتش بوليس أثناء اقتحامه منزلها رفقة مجموعة من العناصر، وهو يحمل أمر إخلاء المنزل بعد أن عجز صاحبه، والد روث، عن إيفاء الديون المتراكمة عليه، فلجأ إلى الانتحار هرباً من مواجهة الموقف، ويلقى المفتش المصير ذاته، ليسقط قتيلاً برصاصة أُطلقت عليه فور دخوله إلى هذا المنزل، ثم يتم القبض على روث التي كانت تطلق من خلف النافذة التهديدات نحو البوليس. 
في الطريق إلى مسكنها الجديد، وأثناء قيادته لسيارته، يملي رجل البوليس، والذي يدعى فينسنت كروس، على روث الجالسة بشرود إلى جانبه، الوصايا العشر الواجب عليها الالتزام بها، إن أرادت ألا تعود إلى السجن، ومنها: لا لمعاقرة الخمرة. لا لتعاطي المخدارات. لا لممارسة الدعارة.. إلخ. 
يتزامن خروج روث من السجن وهي في السيارة مع خروج أختها “كاتي” من داخل مطعم وهي مسرورة، غير أن استرجاعها جزءاً من المشهد المؤسس أثناء قيادتها لسيارتها، يجعلها تسهو قليلاً، وتخرق نظام السير، فتسقط جريحة بسبب اصطدام سيارة أخرى بها.
لتنقلنا الكاميرا إلى لقطة في مشهد متزامن مع المشهد السابق، وفيه يقول رجل البوليس لروث وهما داخل السيارة، عبارة مفتاحية هامة:(أظن أنك تعتقدين أن كل شيء حُل بخروجك) تتلوها لقطة عامودية ترتفع عالياً عن السيارة وهي تتسلل إلى نفق داخل المدينة، وتتابعها من فوق في لقطة “عين الطائر” الذي يلاحق طريدته، ثم تحلق فوق النفق إلى حيث المدينة، وتدخل غرفة أختها في المشفى وهي محاطة بعائلتها الجديدة، ليتم القطع إلى روث وهي تلج نزلاً كبيراً لا يختلف في شيء عن السجن: أوامر من مشرفة النزل، وشجارات بين ساكنين منحرفين، وأسرة قذرة.
أثناء دخولها إلى النزل، تنتقل الكاميرا إلى الطرف الآخر من الشارع، لتظهر لنا وجه حانق من خلف زجاج سيارة وهو يشيع روث المتجهة نحو باب النزل بحنق ونظرات وعيد، لنكتشف بعدها هويته ونعرف أنه “كيث” ابن المفتش الذي قُتل قبل عشرين سنة أثناء اقتحامه بيت روث، وسنتعرف على أخيه ستيف وأمهما التي تستلقي في كل المشاهد التي تظهر فيها، في غرفة معتمة وهي فاقدة الوعي تماماً.
لقطة مراقبة كيث ابن المفتش لدخول روث وهو داخل السيارة، المقربة جداً منه، والبعيدة عنها، سيتكرر مع بعض علامات الإيقاع من ظلال وإضاءة وموسيقى في صيغ وشخصيات ومشاهد كثيرة، تأكيداً على جدلية صراع الداخل/الخارج، أو تنافرهما، وما يوحي به من توجس وصراع مرتقب مشحون بالحقد. ومنذر بالخطر.
تلتحق روث بعمل في معمل تغليف السمك، بناء على توصية من رجل البوليس المكلف بمراقبتها، فنتعرف على بعض التفاصيل والأجواء التي تتشابه وتماثل أجواء السجن: أوامر، وضجة، وقهر، وعدائيات، سوى شخص واحد هو بليك، زميلها الودود في العمل، الذي ستأنس بصحبته، وذلك بعد توجس منه وحذر، كحال من قضى مدة طويلة في السجن، ويكاد الاستئناس أن يصبح ألفة ومودة، وتبدي بعض التجاوب عندما يبادر إلى لمس شعرها وظهرها، غير أنها سرعان ما تنفر منه، حانقة غاضبة، بعد أن يخي2ب رجاءها بما يصدر عنه من توجس وجبن عندما تكشف له عن هويتها، وترتد إلى وحدتها وعزلتها مثل جميع الأبطال في هذا النوع من أفلام الجريمة، فالأخرون دائماً هم الجحيم في هذا العالم الأسود، ولا يمكن للأبطال أن يجدوا ما يؤنس وحدتهم ويكسر عزلتهم.
غير أن ذلك كله لا يعني لروث شيئاً عظيماً، إذ أن جلّ هدفها، ومذّ خرجت من السجن، هو العثور على أختها، ولذلك تبذل في سبيل ذلك، كل ما في وسعها من جهد: العمل الشاق في مكانين، المسمكة والنجارة، ثم البحث المستمر عن أختها كاتي، أو كائرين، اسمها الجديد الذي أطلقته عليها العائلة التي تبنتها، والتي أحسنت معاملتها حتى ساوت بينها وبين ابنتها الحقيقية المجايلة لها، والتي سيفسد الكابوس المكون من لقطات المشهد المؤسس سعادتها وهو يراود ذهنها بين الفينة والأخرى، مثل أختها روث: صراخ ودم إضافة إلى مفاتيح البيانو المرسومة على ساعدها من قبل امرأة مجهولة الهوية بالنسبة لها، وهي في الأصل أختها روث.  
وبذهاب روث إلى بيتها السابق، ووقوفها في حديقته، وتأملها له من بعيد بحزن وحسرة، تبدأ العقدة بالحل،  ولكن الكاميرا في هذا المشهد تورطنا في الوقوع في موقف متناقض، مرة حين ننظر إليها مع مالكة البيت الجديدة ليز،” فيولا ديفيس” من خلف نافذة بيتها، لنرى من خلالها روث هي واقفة في حالة تربص عدائي، مثل الذئب، وفي وضعية تنذر بالشر، لينقلب موقفنا إلى النقيض، مع اقتراب الكاميرا من روث، ثم تبني وجهة نظرها وهي تنظر نحو المنزل بأسى لا شر فيه، ولعل هذا هو دور الكاميرا حين تصف اللقطة من خلال تحديد الوضعية وحجم اللقطة ونوعية الألوان. وسيكرر الفيلم مثل هذه التنقلات بكثرة، بين الداخل الآمن، والخارج الخطير، والنافذة هي الفاصل بينهما دائماً! إلى درجة تكاد تصبح فيها تيمة الفيلم، ونصه المصاغ جمالياً. 
تدخل روث البيت، بيتها السابق، بناء على دعوة المحامي جون، زوج ليز ومالك البيت الجديد، وتتبادل مع الزوجين نتفاً من حوار متوتر، يشوبه الشك والريبة، وتزيد حالة التوتر من منسوبه، التي تتلبس روث حين يقع بصرها على النافذة ومكان موت المفتش، لينهض المشهد السابق حياً أمام ناظريها كما لو لم يكن قبل عشرين سنة.
تثير حالتها المثيرة للشفقة تعاطف جون، وهو الذي سبق أن عانى تجربة السجن، فيؤمن لها لقاء مع والديّ أختها بالتبني، الذي يجري فيه جدل صاخب: شد وجذب حول أحقية كل منهما بأختها، يصل إلى حد الشجار، يقدم فيه كل منهما مبرراته وحججه للحفاظ على الفتاة، أو امتلاكها، هم: السعادة وراحة البال والمستقبل الجيد، وهي: الحق الطبيعي لها كأخت. من دمها ولحمها، ما يذكرنا بالحكاية الصينية عن الولد الذي تنازعت أم تخلت عنه أثناء الحرب، وجارية أنقذته، على أحقية كل واحدة منهما به، وبخلاف ما ذهب إليه بريخت في انتصاره للجارية، ولهدف متعلق بعقيدته، انتصر الفيلم في النهاية للحق الطبيعي على المادي، لتذهب الفتاة إلى أختها وتعانقها حين تراها مصادفة، رغم عدم معرفتها بما أقدمت عليه من تضحية في سبيل حمايتها، ورغم كل ما في عرض العائلة المتبناة لها من اغراءات.
ولقد جاء هذا المشهد ضعيفاً، وباهتاً من جميع النواحي، ولا يرتقي إلى مستوى خاتمة لمشاهد مشحونة بالتوتر، سريعة وغامضة. وقبله كان مشهد صراع روث وتيش، ابن المفتش المقتول، الذي اختطف ابنة العائلة التي تبنت أختها، ظناً منه أنها أخت روث، قد أوصل الفيلم للذروة، فتيش، ورغم امتلاكه للمسدس، فإنه فشل في تنفيذ عملية الانتقام، وتتوالى الكاميرا مهمة كشف معاناته وضعفه من خلال حجم اللقطة ونوعيتها ودرجات الإضاءة، بعد أن عرفنا أنه كان هو الآخر ضحية خيانة أخيه وزوجته.
ويتكرر في النهاية مشهد المقدمة، المؤسس، بإلقاء القبض على روث مرة أخرى، وامتثالها لأوامر البوليس بالاستلقاء على الأرض، وتكبيل يديها، ودفعها نحو السيارة، إلى درجة المطابقة، وكادت هذه المطابقة أن تفقد ضرورتها الجمالية والفكرية، لولا عملية المزج بين مشهدين، تكون الفتاة، أ2خت روث، فيهما هي الهدف، المشهد الذي تعزف فيه داخل الأوبرا بفرح يزداد كلما توضح لها وجه أختها في المشهد الكابوسي الغامض، وفك لغز رسم لوحة البيانو على ساعدها، والمشهد القديم، قبل عشرين سنة، حين كانت تأكل البيتزا بسعادة وظهرها للنافذة، التي أدارته روث حينها، كي لا تطل من خلالها على حدث اعتقالها. وكنا حينها نعتقد أن قاتل المفتش هو روث وليس أختها كما سنعرف بعد ذلك أثناء شجار روث وليز في حديقة المنزل، وإن الصغيرة كانت قد أقدمت على ذلك بحركة طفولية، وفي غفلة من روث، ولم يكن لروث من بد سوى تقديم نفسها للعدالة على أنها الفاعل. 
أراد الفيلم أن يوصل الكثير من الرسائل، ولعل ما رددتها روث أمام رجل البوليس بعد أن تم ضربها من زميلة لها في العمل:
“الناس هنا والناس في ساحة السجن متماثلون.”
هي مقولته الرئيسة، وبها تفضح حقيقة هذا السجن الكبير. الذي اسمه المجتمع. 
غير أن ذلك ليس كل ما أراده الفيلم من رسائل، مستخدماً من أجل إيصال ذلك؛ تقنيات كثيرة من: إيقاع سريع، يظهر في عملية تناوب الظل والضوء، كاشفاً بها مواقف القوة والضعف لدى الشخصيات، وحركة الكاميرا المتابعة لروث المحبطة وهي قادمة نحو الكاميرا/ نحونا، بسرعة عكس سير الناس، وكأننا/الكاميرا، نهرب منها. كما فعل الآخرون من أفراد مجتمعها.
ولقد لعبت النافذة في الفيلم دوراً درامياً، لتكون عينها على الخارج، والحد الفاصل بين عالمين ومكانين، عالم الخارج السيء، والداخل الآمن، حتى حين اجتمع العدوان: روث و تيش، داخل محل النجارة، فقد تم الفصل بينهما بحاجز من الأعمدة الخشبية الشبيهة بقضبان السجن، أو القفص، روث في الداخل، وابن القاتل يدور حوله من الخارج مثل ذئب.
كما كان للعبارة الموسيقية، المتمثلة بالقطعة التي كانت تعزفها كاتي، دورها الدرامي في قول ما لم تقله الكلمات في ثلاثة مشاهد متتالية. إضافة إلى إيصال الفتاة إلى حالة من الصفاء، لترى بوضوح ما استعصى عليها حله سابقاً، وعلى مدى عشرين سنة: وجه أختها روث.
في الفيلم لمسات ومشاعر أنثوية رقيقة، وتضمينات مقصودة، وربما غير مقصودة، بما يشبه التناص في الأدب: حكاية الولد المتنازع عليه من قبل الأم والجارية، وكذلك حكاية ليلى والذئب، المتمثلة في الداخل والخارج، إضافة إلى أن الشخصية الرئيسية امرأة: روث” ساندرا بلولوك” والضحايا جلهم من النساء، كما أن للموسيقا دورها، وكذلك للقطات التي أكثرت من القريبة جداً، الوجه وتفاصيله، الحميمية والأكثر كشفاً للدواخل، وربما كان لصانع العمل دوره، فالمخرجة امرأة، وفي مقتبل العمر: مواليد 17 فبراير 1983.
———–
مجلة الجديد اللندنية    

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…