هل تخطيت الستين أو تكاد؟

د. آلان كيكاني

الغريب:
في لعبة الألغاز يسأل الغريب ابنه عن الشيء الذي تقوم عليه الخيمة دون أن يأبه به أحد أو يكترث لحضوره. فيحتار الولد ويستسلم دون معرفة الإجابة، فيضطرّ هو إلى الإجابة عنه: هو العمود الذي لا تقوم الخيمة إلا عليه،يا ولدي، ورغم ذلك لا ينتبه أحد لوجوده، أو يهتم به، إلا إذا انكسر وهوت الخيمة على رؤوس سكانها.
وفي اللغز التالييتابع الغريب سائلاً: هل تعرف ما هي الغربة الحقيقة يا بنيّ؟. فيفكر الولد ويجيب: هي أن تعيش بعيداً عن أهلك وموطنك، كأن تهاجر مثلاً إلى أمريكا، أو إلى أستراليا، أو تعيش في أقاصي الدنيا، في جزيرة نائية مثلاً، تفقد فيها التواصل مع ذويك وأصدقائك. فيجيب الغريب: لقد أخطأت، إنما الغربة الحقيقية هي أن تكون حاضراً بين أهلك في أداء الواجب، ومنسياً في توزيع الحقوق.
بعد عناء عمل اليوم وطول مدته يدلف الغريب باب بيته منهكاً يكاد يترنح من شدة التعب، فتستقر أعين أفراد أسرته على يده وماذا فيها. يخلع حذاءه ويبحث له عن مكان يلقي بنفسه فيه، لأن أحداً لا يفسح له المجال ويدعوه إلى الراحة. فالتعب دائما من نصيبه بينما الراحه من نصيب غيره.
يراد منه أن يكون قلباً نابضاً بالحب والحنان تجاه أسرته فيتقبل الأمر برحابة صدر، وتجتمع عليه الأسرة في المناسبات، كم من المال سيضخه إليهم في عيد الأضحى، وكم من الهدايا سيشتريها لهم في عيد الفطر، وإلى أية جهة سياحية سيأخذهم. وتحدد له شريكته في البيت نوع الهدية التي عليه أن يشتريها لها في عيد ميلادها لتتباهى بها أمام أقرانها وتعبر لهم من خلالها مدى تعلقه بها، وترسم له شكل الهدية التي يتوجب عليه إحضارها في يوم الحب العالمي، وتعين له نوع العرفان والتقدير الذي ينبغي أن يقدمه لها في يوم الأم كونها أم أولاده، وتفرض عليه شكل التبجيل والتعظيم الذي تستحقه في يوم المرأة العالمي. فيلبي الغريب كل ما يُطلب منه بنشوة وتفان.
يبحث في التقويم عن يوم له فلا يجده، فيراهن على يوم ميلاده، ويتأمل من خلاله لفتة عطف وحنان من أهله، تشعره بقيمته وتردُّ له المعروف الذي يقوم به تجاههم على مدار السنة. وعشية حلول هذا اليوم يجلس في زاوية من زوايا البيت ويمنّي النفس بتهنئة من خلال كلمة أو إيماءة أو هدية من الصباح حتى المساء، إلا أن هذه التهنئة لا تأتي، ويمر اليوم مثل كل الأيام، فيدرك أن أحداً من أفراد أسرته لا يدري في أي يوم ولد. وينصرف كئيبا وينظر إلى نفسه من المرآة فيتخيل نفسه مثل دواء انتهت مدة صلاحيته ولا يليق به سوى سلة المهملات.
أجمل ساعات يوم الغريب هي تلك التي يغيب فيها عن الوعي والجاً في نوم عميق يريحه من عذاب اليقظة، ومن هموم الحياة، وضنك العيش، وفظاظة مدير العمل، وجلافة موظفيه، وإلحاح الزبائن عليه وصعوبة إرضائهم. وأفضل أيامه هي تلك التي تتقلص فيها مطاليب بيته إلى الحد الأدنى موفرة له شيئاً من المال وآخر من الجهد.
وإذ يتخطى الغريب الستين ينظر إلى أمامه فلا يرى سوى الضباب، فيلتفت إلى خلفه مفتشاً عن ساعات السعادة التي عاشها في حياته ليستأنس بذكراها فلا يجدها سوى في أحضان والديه، أيام كان أميراً صغيراً ينبض قلبان بحبه وعلى استعداد للتضحية من أجله.
=====
هذه الأسطر من مجموعتي القصصية “قلب من ذهب

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

رضوان شيخو

يا عازف العود، مهلا حين تعزفه!
لا تزعج العود، إن العود حساس..
أوتاره تشبه الأوتار في نغمي
في عزفها الحب، إن الحب وسواس
كأنما موجة الآلام تتبعنا
من بين أشيائها سيف ومتراس،
تختار من بين ما تختار أفئدة
ضاقت لها من صروف الدهر أنفاس
تكابد العيش طرا دونما صخب
وقد غزا كل من في الدار إفلاس
يا صاحب العود، لا تهزأ بنائبة
قد كان من…

ماهين شيخاني

الآن… هي هناك، في المطار، في دولة الأردن. لا أعلم إن كان مطار الملكة علياء أم غيره، فما قيمة الأسماء حين تضيع منّا الأوطان والأحبة..؟. لحظات فقط وستكون داخل الطائرة، تحلّق بعيداً عن ترابها، عن الدار التي شهدت خطواتها الأولى، عن كل ركن كنت أزيّنه بابتسامتها الصغيرة.

أنا وحدي الآن، حارس دموعها ومخبأ أسرارها. لم…

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

فَلسفةُ الجَمَالِ هِيَ فَرْعٌ مِنَ الفَلسفةِ يَدْرُسُ طَبيعةَ الجَمَالِ والذَّوْقِ والفَنِّ ، في الطبيعةِ والأعمالِ البشريةِ والأنساقِ الاجتماعية، وَيُكَرِّسُ التفكيرَ النَّقْدِيَّ في البُنى الثَّقَافيةِ بِكُلِّ صُوَرِهَا في الفَنِّ، وَتَجَلِّيَاتِها في الطبيعة ، وانعكاساتِها في المُجتمع، وَيُحَلِّلُ التَّجَارِبَ الحِسِّيةَ، والبُنى العاطفية ، والتفاصيلَ الوِجْدَانِيَّة ، وَالقِيَمَ العقلانيةَ ،…

إبراهيم اليوسف

الكتابة البقاء

لم تدخل مزكين حسكو عالم الكتابة كما حال من هو عابر في نزهة عابرة، بل اندفعت إليه كمن يلقي بنفسه في محرقة يومية، عبر معركة وجودية، حيث الكلمة ليست زينة ولا ترفاً، مادامت تملك كل شروط الجمال العالي: روحاً وحضوراً، لأن الكلمة في منظورها ليست إلا فعل انتماء كامل إلى لغة أرادت أن…