فراس حج محمد| فلسطين
تحتل السخرية موقعاً متقدما في حركة الشعر والأدب، فأحاديث التبوّط في رواية “باط بوط” للروائي الفلسطيني رياض بيدس، وأحاديث التشاؤل عند إميل حبيبي في “الوقائع الغريبة”، و”خنفشاري” نافذ الرفاعي، وأدباء الرصيف علي فودة ورسمي أبو علي ومحمد طملية كلهم ساهموا- مع غيرهم- في تقديم رواية ساخرة، وتعزز الاتجاه نحو السخرية في الأدب الفلسطيني، كما عززت المقامات الاتجاه الساخر في الأدب العربي القديم. ولم تنقطع الأعمال الساخرة في كل حقب الأدب العربي والعالمي، فثمة كتاب ساخرون ولا يعرفون بغير السخرية. إنها ملكة خاصة ولها اعتبارها.
السخرية أصعب درجات الجدية، هكذا يقول الساخرون، الشعر الساخر صعب، والرواية الساخرة أصعب، والرسم الساخر (الكاريكاتير) أصعب وأصعب، والمقال الساخر نادر، كلها تحتاج نظرة متعمقة لتؤدي رسالتين في نص واحد. فالكاتب الساخر بلا شك هو كاتب جادّ، وليس كاتبا عبثياً، أو لاهياً.
والسخرية أوجع أنواع الكلام الجاد، وإن كان ذاك الكلام شتائم وسباباً مباشراً، ألم ترَ أن القرآن الكريم قال في معرض حديثه عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “إنّا كفيناكَ المستهزئين”. وقال في حق الكافرين: “سخر الله منهم ولهم عذاب أليم”.
والسخرية ليست إضحاكاً بالضرورة، وإن صاحبها ذلك أحياناً، بل ربما كانت سوداوية فيها الكثير من المفارقة المحزنة، ولعل أفضل أنواع السخرية ما أبهج المتلقي- غير المسخور منه- بضحكة لطيفة، وأثار حفيظة المسخور منه، فيوجد ثلاثة أطراف في هذه العملية، الساخر، والمسخور منه، والمتلقي المتابع، ولكل طرف دور وطريقة خاصة في التعامل مع موضوع السخرية، قد يتعاطف المتلقي مع المسخور منه، وتكمن براعة الساخر في دفع المتلقي إلى أن يتخذ الموقف ذاته من المسخور منه، أو على الأقل تحييده وإشغاله بالموقف والموضوع.
يمتلك الساخر لغة هجاء مخاتلة، بغض النظر عن نوع تلك اللغة، ولذلك ترى أن ناجي العلي شهيد ريشته الساخرة، وعلي فرزات ضحية ريشته المناضلة، (قامت بعض الجهات بتكسير أصابع يده الراسمة خلال أحداث الثورة السورية في بدايتها)، كما كان الحطيأة ضحية سخريته المقذعة من الزبرقان بن بدر. لقد التهمت أنياب السلطة الكثير من الساخرين، ومنعت أعمالهم.
عبد اللطيف عقل كان ساخرا في “الشلام عليكم”، كما إبراهيم طوقان، ومحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد في أشعارهم. محمود شقير في “ابنة خالتي كوندليزا” و”صورة شاكيرا” وسعاد العامري في “شارون وحماتي” كانا منغمسين في هذا الفن مع تباين في الأسلوب بطبيعة الحال. فالسخرية باب لا يتقنه إلا الساخرون ذوو المواهب العالية.
حاولتُ أن أكون ساخراً، في السرد والقصة والمقال والقصيدة، وبحثت هذه الظاهرة مبكرا، ولاحظتها وأشرت إليها في الأعمال الأدبية التي ناقشتها وتناولتها في الدراسة والتحليل (عام 1999)، وكثيرا ما تعرضتُ إلى مواقف ساخرة، سخر مني فيها كثيرون. كانت مواقف مؤلمة وللتقليل من حدة ألمها على النفس عليك أن تقابلها بابتسامة وبتعليق لطيف، ينزع عنها أشواكها ويجردها من حدها الجارح. لكنها تخلف في النفس غصّة مؤلمة. أتجنب أن أسخر من الآخرين، حتى وأنا في قمة الغضب، ولو طاوعتني لغتها وظروفها، فإنني أتجنبها وأقاومها، فلا يليق بي أن أكون ساخراً من أي إنسان مهما كان سيئاً، بإمكاني أن أرد عليه سوءه بطريقة أكثر تهذيبا، تشعره بالخجل، لعله يرتدع.
ربما كانت السخرية عملا لا أخلاقيا، وخاصة أنها تنتقص من الكرامة الإنسانية، وعليه لقد كانت أداة من أدوات الهجائين، قديما وحديثا. جرير كان ساخرا وكذلك الفرزدق والأخطل، كما وجدت عند شعراء الهجاء السياسي، كبعض أشعار الخوارج.
ثمة سخرية أخرى في الأخبار وفي السياسة، وفي التعليقات الرياضية، وفي النقد كذلك كما فعل غسان كنفاني في “فارس فارس”، لا شيء يمكن أن يخلو من السخرية، إنها تدخل في كل منحى، وفي كل معنى، وفي كل نشاط، فليس المسرحُ وحده مجال السخرية
جاءت لغة الإيموجي مع التطور في اللغة التعبيرية الرمزية لتحل محل كثير من اللغة الأبجدية والمنطوقة، لغة تداعب البصر والبصير وتستفز الإحساس، بما فيها من طاقة مختزنة، تستثير في الطرف المعني الكثير من مشاعر السخط والغضب، ثمة إيموجات تختلط بها مشاعر أخرى غير مشاعر السخرية، وربما بعضها كان فَكِهاً بسيطا لا غير، مجرد أنه نكتة طريفة، لا تحمل أي مشاعر عدائية أو انتقامية. إنها لغة مختصرة، مكثّفة، تغني عن كثير من الجملة، وتحمل بُعدا نفسيا، له دلالة مهمة في السياق الذي تأتي فيه.
لا شك في أن الساخر يتمتع بذكاء خاص، ولماحية في اقتناص لحظة السخرية، عدا أنه يمتلك حساَ مرهفا في تقدير الموقف وما يناسبه من درجة السخرية وشكلها، بحيث تؤدي المرجوّ منها في تحقيق أعلى درجات التأثير، ولا ينقلب الموقف ضد الساخر، فيتحول من ساخر إلى مسخور منه، ويصبح هزؤة. ونادرا ما حدث مثل هذا، لكنه متوقع إن لم تكن السخرية محبوكة بشكل جيد، بحيث تصدم الطرف المقابل وتذهله، فيتوقف عقله للحظات، ويعجز عن الرد، وإذا ما انتهى الموقف، بطلت فعالية أي رد بعدها إن لم يكن ردا برد في اللحظة ذاتها.
وعادة ما تكون السخرية قريبة المأخذ، لا تعتمد على التورية والتعمية إلا في نماذج قليلة، يبدو لي أن المواقف الساخرة التي تحتاج إلى إمعان نظر غير ناجحة تماماً، لأن الهدف منها التأثير المباشر في لحظة صناعة الموقف الساخر، وإذا ما احتاجت السخرية إلى شيء من التفكير ذهب رونقها وبطل تأثيرها. وعليه فأكبر فضاء لصنع السخرية هو “الوجاهية” المتمثلة على المسرح، أو إلقاء الشعر في المهرجانات، وكلما تفاجأ الجمهور بالموضوع كان أكثر وقعا، لذلك تعتمد السخرية على عنصر الإدهاش والمفاجأة التي تسمع لأول مرّة، إذ التعوّد يودي بأثرها وينزع فتيلها، ومن أجل ذلك أدرك الكوميديون المسرحيون أن إعادة تمثيل المسرحية كما هي دون تصرف أو تغيير في جملها التي كانت مثار إعجاب الجمهور أول مرة لن يحقق ما يصبو إليه العرض في مرات قادمة.
يبدو لي أن قراءة النصوص الساخرة، لا تحقق أهدافها كالسخرية الوجاهية الحيّة، فثمة مصاحبات أخرى غير لغوية تجتمع في الموقف الساخر، كلها تُفقد في القراءة، ولا يبقى سوى الكلام الذي قد يلتبس أحيانا بين السخرية أو عدمها. هذه أمور مهمة للأطراف ذات العلاقة بالموقف الساخر، فالصخب الجماهيري الذي يعقب الموقف الساخر ضروري لزيادة منسوب التأثير، لذلك كانت السخرية مصاحبة للشعر الجماهيري، بل ويعتمد عليها كثيراً، كما في كثير من أشعار المقاومة الفلسطينية التي كانت تلقى في المهرجانات الحماسية، أو ما نقل عن مواقف المواجهة بين طرفين عدوين، كما يحدث أحياناً بين المعتقلين وسجانيهم، وهي على العموم ظاهرة وجدت كثيراً في الشعر السياسي، كما في بعض أشعار أحمد فؤاد نجم ونوح إبراهيم، ولعل قصيدتيهما “كلب الست” لنجم وقصيدة “دبرها يا مستر ديل” لنوح- على سبيل المثال- تصلحان في أن تكونا دالّتين واضحتين على ارتباط السخرية بالشعر السياسي، سواء أكان شعرا بالعامية كما في هاتين القصيدتين أو شعرا فصيحاً كما في قصائد الشعراء الساخرين؛ من أمثال إبراهيم طوقان ومحمود درويش وأحمد مطر.
لا أعتقد أن الساخر شخص انتقاميّ أو أنه مريض نفسياً، إنما هو شخص ذو حساسية مختلفة تجاه الأشياء والأحداث، فعندما يصبّ غضبه بشكل ساخر إنما يحاول أن يعبر عن ذلك الغضب المكبوت داخله، كما حصل مع الشاعر المصري نجيب سرور في قصيدة “أمّيّات”. تعد هذه القصيدة مثالا للشعر الساخر الذي وصل صاحبه إلى قمة الغضب والرفض والاحتجاج على الواقع الذي كان يعيشه ويعاني منه، فامتزجت فيها كل المشاعر السلبية، وانعكست على اللغة المستعملة. إنها نتاج حالة شعرية ونفسية خاصة، كان لا بد لها إلا أن تخرج بهذا السفور العلني البذيء.