الجسد المقموع في لوحة فنية لشاكر نوري

أحمـد عزيـز الحسيـن

في ظنّي أنّ غيابَ معرفتنا بالجسد هو نتاجٌ لجهلنا بأنفسنا؛ ودليلٌ على غياب إدراكنا لهُويّتنا، لأنّ الجسد هو حاضِنٌ للذّات، ومستودَعٌ للهُوِيّة، وبقدر ما نفلح في معرفتنا لذواتنا، ونقترب من إدراكنا لهُويّتنا، نُحسِنُ الإحاطةَ بمتطلَّبات أجسادنا، ونستجيب لنزوعاتها بطريقة صحيحة، وما غيابُ ذلك إلا دليلٌ على قصور فهمنا ووعينا، وإحاطتنا بأنفسنا، وبالآخر أيضاً.
وما يعوق معرفتَنا بالجسد هو أنّه تعرّض لمصادراتٍ ذهنيّةٍ وفكريّةٍ وماديّةٍ، حالتْ بيننا وبين معرفتنا لأجسادنا، ولذلك نهضتْ علاقتنا بأجسادنا على الغربة، والمصادرة، والقمع، ومُنِعْنا من التّباهي بجماليّاته، والاستجابة لحاجاته الحيويّة؛ ومن أسف أنّ هذه المصادرةَ، وهذا الاستلابَ لم يكونا موجودين في تراثنا الأدبيّ العربيّ، إذ لعب الفقهُ المتطرِّفُ دوراً كبيراً في ظهورها، ولهذا نجد أنّ كتبَ التّراث المهمّة كالأغاني، والعقد الفريد، والبصائر والذّخائر، والدّيارات، وألف ليلة وليلة، وكتب الجاحظ عموماً، تحتفي بالجسد، وتقف ضدّ مصادرته وفق الطّريقة التي آلتْ إليها حالُه فيما بعد.
وفي لوحة حديثة نشرها الأديب والفنّان التّشكيليّ العراقيّ شاكر نوري في صفحته الفيسبوكية ثمّة امرأة جميلة ووحيدة تغتسل بماء المطر، وتدلّ وضعية جسدها في اللّوحة على تفاعُلها مع المطر الهاطل عليها، وعلى احتفائها بجسدها، ومع ذلك حرص الفنان على تغييب تفاصيل عذا الجسد عن المتلقّي، للتّأكيد على أنّ السّياق الاجتماعيّ الذي تعيش فيه لايمكّنها من عرض هذه التّفاصيل، أو الاحتفاء بها، وهي مضطّرة  إلى إخفائها تماشياً مع ضغط السّياق الاجتماعيّ القامع لها، وحين لاتفلح في الإفصاح عن تفاصيل جسدها والاستمتاع بجماليّاته علناً حتّى عندما يهطل عليها المطر (رمز الخصب والانبعاث) فهذا يعني أنّها تعيش حياة تنهض على المفارقة والقمع، وأنّ ذاتها (التي يحتضنها الجسد) مُغيَّبة، إذ لا ذاتَ من دون جسد يحتضنها، ولاكينونة مُتحقَّقة من دون حاضن حسيّيّ يساعدها على التّجلّي والظّهور .
إنّ تشظّي الجسد أو عدم تجلّيه الكامل في اللّوحة (كما كان يفعل الإغريق والرّومان مثلا) هو دليل على اغتراب صاحبته واستلابها؛ إذ إنّ تغييب الجسد يدمَّر كينونة الإنسان، ويبدِّد قدرته على تحقيق هويّته الإنسانيّة. 
لقد حال التّابو بين المرأة ولبين الاحتفاء بجسدها، وجعلها تحرص على إخفائه حتّى في لحظة شاعريّة حميمة عاشتها، وكانت فيها بأمسّ الحاجة لتأكيد أنّها (حرّة)، وأنّ من حقّها الاستمتاع بجسدها، والتعامل معه على أنّه ملك لها وليس مُصادَراً من قبل قامعيها، ومع ذلك بقي الفنّان في لوحته متفائلا بقدرتها على تحقيق ذاتها، واستعادة جسدها المغيَّب، وذاتها المقموعة، من خلال استخدامه للّون الأبيض الذي طغى على اللّوحة مع ضربات فرشاة باللّون الأزرق تدلُّ على تماهي صاحبته مع الطّبيعة التي تحتضنها، ولوقام الفنّان باستخدام اللّون الأحمر بدلا من الأبيض مغ ضربات فرشاة باللّون الأسود لدلّ ذلك على أنّ العنف الذي يُمارَس على المرأة شديد، ومن الصعب عليها أن تواجهه، أو تتخلّص ممّا يختزنه من دلالة تقوم على الإكراه والاستلاب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

بسم الله الرحمن الرحيم

“يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي”
صدق الله العظيم

ببالغ الحزن والأسى، تلقى موقع ولاتي مه نبأ وفاة السيدة ستية إبراهيم أحمد دوركي، حرم المرحوم صالح شرف عثمان، ووالدة الكاتب الكوردي المعروف فرمان بونجق هفيركي…

إبراهيم اليوسف

لقد غدا اليوم الذي ظننته يوماً للذكرى، لا للرحيل، يوماً غيّر مسار الذاكرة كلّها. جدد فيه الألم، ومنحني ألماً من نوع آخر، بسبب عدوى ألم المحيط الذي يشكل أديماً روحياً. استيقظت وأنا أتهيأ للحديث مع إخوتي وأخواتي في الذكرى الثالثة والعشرين لرحيل أبي- كما أفعل ذلك منذ أكثر من عقدين- فإذا بأخي أحمد يهتف…

مروان شيخي

المقدّمةُ:

في المشهدِ الشِّعريِّ الكُرديِّ المعاصرِ، يبرزُ الشاعرُ فرهادُ دِريعي بوصفِه صوتاً خاصّاً يتكلّمُ من عمقِ التجربةِ الإنسانيّةِ، لا بوصفِه شاهداً على الألمِ فحسبُ، بل فاعلاً في تحويلِه إلى جمالٍ لغويٍّ يتجاوزُ حدودَ المكانِ والهويّةِ.

ديوانُه «مؤامرةُ الحِبْرِ» ليسَ مجرّدَ مجموعةِ نصوصٍ، بل هو مساحةٌ روحيّةٌ وفكريّةٌ تشتبكُ…

غريب ملا زلال

سرمد يوسف قادر، أو سرمد الرسام كما هو معروف، عاش وترعرع في بيت فني، في دهوك، في كردستان العراق، فهو إبن الفنان الدهوكي المعروف يوسف زنكنة، فكان لا بد أن تكون حياته ممتلئة وزاخرة بتجربة والده، وأن يكتسب منها بعضاً من أهم الدروس التي أضاءت طريقه نحو الحياة التي يقتنص منها بعضاً من…