غريب ملا زلال
يقال بأن غاليري آرام و الذي أسسه التشكيلي العراقي الكردي آرام علي في مدينة السليمانية عام 2004 ، يكاد يكون الغاليري الأول الذي أفتتح في العراق و كردستان بعد سقوط النظام عام 2003 ، الغاليري الذي حمل على عاتقه و ما يزال مهمة مؤسسة ثقافية ، و نجح في تثبيت ذلك ، و بالفعل تحول إلى ناد ثقافي ، بل إلى مركز ثقافي منه يشع الجمال و الحب و الفن ، و فيه تقام النشاطات الثقافية في مختلف ميادينها ، من معارض فنية و ورشات العمل إلى ندوات و محاضرات في الفن التشكيلي و الأدب و المسرح ، إلى أمسيات موسيقية و سينمائية ، بل تحول إلى بيت للفنانين و الأدباء و المثقفين ، فيه يلتقون و يتحدثون ، يتحاورون و يتناقشون ، تحول إلى بيت الجميع ، الروح فيه لا يهدأ ، و الحركة مستديمة ، فيه يختلفون و يتفقون ، يتباينون و يتوازنون ، و لهذا كان له دوره في تحريك الجسد الثقافي لا في السليمانية فحسب بل في عموم كردستان و العراق ، و تزويده بجرعات من الدم تعيد له الحياة ،و بجرعات من الأوكسجين تعيد له ألقه ، كان له رسائله المفتوحة إلى الآفاق اللانهائية ، النابضة باللحظات الدافئة ، فكثيرة هي الجدران الآيلة للسقوط ، وحدها الطيور الحرة قادرة على التحليق .
الفنان الذي يشطر بيته إلى شطرين ، شطر لسكنه و عائلته ، و شطر لغاليري و مرسم فيه يمارس هو و أصدقاؤه عمليات الإدراك الفني ضمن شبكة تصورية من العلاقات المناسبة ، فيه يرسمون لوحتهم التي لا تنتهي ، و فيه يبدعون كتابهم الخاص و الفائق التأليف و التركيب ، فيه يعلنون بأن الإنسان هو الحياة و من المحزن أن يتدحرج في ممراتها الضيقة الواسعة ، الفنان الذي يقسم رغيفه إلى نصفين ، نصفه لعائلته و النصف الآخر له و لأصدقائه و على مائدته لربي هذا وحده يكفي ما يثير في دواخلنا لوحة هادئة له / عنه مشحونة بكم هائل من الطاقة التي تتجه في أكثر من إتجاه ، و يدفعنا بالقوة ذاتها إلى إحترامه و تجربته و الوقوف عندها في هذه المادة .
النشاط الجمالي الذي يقوم به آرام علي يشير إلى أهميته في عالمه ، فهو محب للبحث و التساؤل الموجهين له نحو الحفاظ على الذات بخبرة جمالية بوصفها خبرة دينامية بعلاقات دقيقة و مرهفة ، و بخصائص مميزة لأنساقها الفنية ، لأنساق من الرموز و ما تحمله من المعاني الخاصة ، و في ضوء ذلك يطرح آرام علي مفاهيمه الشديدة الأهمية على نحو غير مربك ، و بدوافع معرفية مرتبطة بالإكتشافات و النشاطات الإنسانية المختلفة ، فبخبراته الجمالية التي تمتزج بخبراته المعرفية يخلق الكثير من النشاطات المتسمة بالتمايز و بإكتساب الضرورات ، و يبذل الكثير من الجهد ليزودنا بكمية أكبر من المتعة و مظاهرها ، فهو يعبر بالخطوط و الألوان عن إنفعالاته و رؤاه ، عن حبه لتاريخه و الجمال الذي فيه ، عن تنبؤات خاصة تأخذ طريق الإتجاه الخاص ، إتجاه التغييرات في المحتوى الجمالي بأسلوب غير متوقع ، فيه تحضر الألفة و النفور معاً ، بأسلوب قد يجعله مؤلفاً تشكيلياً بعيداً عن المعتاد ، مشتملاً على جوانب من الإستثارة التي تزيد من جهد أي مكون من مكوناته و هي تمضي في فضاءات ساخنة جداً ، أو باردة جداً ، لا لتعمد الغرابة المستمدة من وسائله و هي في طور الإنفجار منفصلة عن الضغوط بكافة مستوياتها ، و لا لقصد الصدمات لتحريك الذائقة الفنية بدرجات كبيرة قد تزيح الغشاوات من روح متلقيه و ترميها جانباً دون أن يتخلى عن الإيقاعات الداخلية منها و الخارجية لأشكاله الغارقة في التاريخ بموسيقاها و في حالات من النشاط الإنساني ، فالواقع بتراثه و تاريخيته ينظم نفسه هنا و بإنغماس في تخييلاته التي قد تستثيره و متلقيه في بحر من التوقعات و التأملات التي قد تشبع بدورها المشاعر و الأحاسيس إلى حد ما ، و ما إحساساته التي بها يستكشف العلاقات بين هندسة أشكاله و ألوانه إلا جماليات جديدة بمعايير جديدة تمنح خصائص دلالية جديدة لعناصر الشكل في عمله الفني بوصفها رحلة بحث جديدة في / عن معلومات جمالية مرتبطة بدورها بخصائص بصرية / حسية و التي ستقوده نحو واحات من مفارقات منها يلتقط أهم اللحظات تحولاً من تعارضات و تقابلات كل ما فيها تشير إلى دلالاتها و ما تحمله من قيم جمالية التي هي الوجه الآخر للقيم الإجتماعية ، ستقوده إلى واحات إليها سيتسلل الحنين و كل ما رسمت من أقدار ، فما أشقى الزمان من مكائده و هي تقف على تخوم الرحلة ، و ما أبعد الآمال من الوصول ، فالفخاخ منصوبة على إمتداد الحياة لتسلب النبوءة من الطريق ، و الخجل من الضوء ، فالرقعة موجعة ، و الركض في صميم الذات الإنسانية و في خلاء التاريخ ملاذ غير آمن و لا يجلب إلا قوة المجاهرة بأن أبجدية اللون قادرة أن تغسل المشهد و ما يسكن فيه من كائنات قادمة من أساطير الأولين ، فالصورة البشرية تسكنها على نحو عام قوة خفية تستنجد بدورها بالمشهد ذاته ، و يمكننا العودة إلى وجوه آرام علي و مناحيها المختلفة ، تلك الوجوه التي تفوز دوماً بالفجيعة و التعب ، و بقطع طريق طويل من التقلبات و التحولات ، فهي و إن كانت تسعى للفوز بالحياة و لونها ، بعيدة عن النمطية و ما فيها من أفكار جامدة ، و إن كانت مدركة أنها لا تستطيع حسم أمر ذلك فهي ترتدي الكثير من المواقف الشاقة التي قد تثير الشفقة من باب تنشيط أقوى لعمليات اللاملائمة في مواقفها و ما تلعبه من دور مع التأثيرات الخاصة و التي ستنتج عنها مستويات مختلفة من خفض أو صعود الوجع ، فالمتغيرات التي تعيشها إلى حد التلاشي تزيد من إحتمالية التطور الخلاق جنباً إلى جنب تجميع آليات التحول الإبداعية في تعدد أشكاله و تنوع موضوعاته ، فأحسب أن هذا هو سر إعجابنا بمنتجه ، فالنتيجة حيوية و هي التي قائمة فيه ، و هي الأقرب إلى ما ينطوي على ثنائيات الجديد / القديم ، الوافد / الذات ، فالتجلي هنا يكمن في عدم التخلي عن العدسات التي تنظر من خلالها عين الفنان ، فالتباين يجعل مشهده متنوعاً و موازياً لمستويات تعبيرية السرد و الحوار فيها أقرب للنغمة في إلتقاطها للحظة تولدها تاريخياً .
آرام علي يحرر الذاكرة و المخيلة عبر لغة لا تخضع للتشتيت بل للتثبيت و التشبث ، فهو يستوعب العلاقة القلقة بين الفنان و ممارساته ، بين الممارسة النظرية و الفعلية ، بغض النظر إن كان يخضع منتجه لمقاربات نصية أخرى أم لا ، فبذور الحلم عنده منتوشة تجعل من تجربته غير المحدودة تنمو في الزمن ، و تتراكم في سياق التأملات الداخلية المرافقة لفضاءاته لاهثاً وراء طمأنينة في محاورة الكينونة في هواجسها ، و هذا البعد الفلسفي التأملي يفتح كوى وسط مشاريع متخشبة ، فإدراكه لهذا البعد يجعله لا يكف في إتاحة المجال للأسئلة و هي تطفو على المشاعر كحصيلة أولية في التأثر و التفاعل ، كحصيلة لعناق الحياة في شموليتها ، إلى جانب ذلك يمكن أن أقول بأن التركيب الفني المحدد للشكل داخل عالم آرام علي غير محايد بل يتدخل على نحو دائري و كأنه يصر على نزعه من الزمن و الهروب نحو الأعلى حيث الرؤية مفتوحة النوافذ ، و ثمة ثغرة تخص طرائق التأويل حين نتحدث عن الإنتشار و التلقي ، في ظل عدم وجود شروط ملائمة للإبداع ، فالإنخراط في الحداثة بقوة و رؤيا هي بلورة دينامية ساعية إلى التغيير بتعبير عن سيرورة التحولات المختلفة و ما تطرحه من دلالات و تساؤلات أقلها إستقرار في الهامش و زوبعة في العموم .