ثُنائيّـــةُ المــــوتِ والحيــــاةِ فــي لوحــــة العصفــــور والسّكّيــن لـ (يوســف عبدلكــي )

 

أحمد عزيز الحسين

   
في رأيي أنّ العنوانَ، الذي ارتضاه الفنّانُ يوسف عبدلكي للوحته (العصفور والسِّكين) يعكسُ التّراتبيّةَ في الوجودِ؛ إذ إنّ العصفورَ وُجِد أوّلا بوصفه نتاجاً لتطوُّرِ الطّبيعةِ نفسها، ثمّ تلاهُ السِّكِّينُ، الذي هو نَتاجٌ لقوةٍّ إنسانيّة قاهرةٍ أرادتِ التّحكُّمَ بالفعل الإنسانيّ ونَتاجِه، و إخضاعَ ما يشتمله حيّزُه الطبيعيّ من عناصر متعدّدة، وتوظيفَه لمصلحتها، ومنها بالطبّع العصفورُ.
     يرمز العصفورُ في اللّوحة إلى الحياةِ، والخصبِ، والنّداوة، والطّراوةِ، والأملِ، وهو الأصلُ في الحياة، أمّا السِّكِّينُ، التي ترشحُ  بالموتِ والعنفِ، والقسوةِ، والسّواد، والتّشاؤمِ، فقد انضافتْ إلى الحياةِ، وأرادتْ مصادرةَ فعلِ النّماءِ، والاخضرارِ فيها، وهكذا احتّلتْ في اللّوحةِ معظمَ الحيّز الطّبيعيّ الذي يعيش فيه العصفورُ، وأقصتْهُ إلى قاعِـه؛ وهكذا غادر العصفورُ مركز الحيّز مُكرَهاً بعد أن أصبحَ الحيّزُ كلُّهُ ملكاً للسِّكِّينِ، وتراجعَ عنِ الفاعليّةِ في حيّزهِ الطّبيعيِّ، وسلّمَ مقاليدَ الأمورِ مُضطّرّاً لأعدائه.
     تمّ الإعلانُ في اللّوحةِ عنِ انتصارِ السِّكِينِ، واستسلامِ العصفورِ لمصيرهِ القاسي المفجِعِ، بعد أنْ تحكّمتْ به السِّكِّينُ، وأقصتْهُ عن عشّه وحيّزه الطّبيعيّ؛ لكنّ العصفورَ، كما قال الدُّكتور خالد حسين في تحليله للّوحةِ، لم يمُتْ بل انقلبَ على قفاهُ فقطْ، وقد يكونُ فعلَ ذلكَ متظاهراً بالموتِ أمامَ سطوةِ العنفِ الذي تمثِّله السِّكِّينُ؛ وقد يعودُ إلى المواجهةِ منْ جديدٍ إذا امتلك القوّةَ الكافيةَ التي تتيحُ لهُ ذلكَ؛ لأنّ السِّكِّينَ دخلت إلى الحيّز الإنسانيِّ كي تكون خادمةً للإنسان لا عدوّاً له، أو سلاحاً ضدّه، ولذلكَ قد يفلحُ العصفورُ في اكتشافِ آليّةٍ جديدةٍ تُتِيح له العودةَ إلى المواجهةِ لامتلاكِ حيّزهِ الطّبيعيِّ؛ وإقصاء السِّكّين عن وظيفة العنف أو القتل التي أسنِدتْ إليها من قبل الإنسان المُتسلِّط والقاهر نفسه، ولهذا تُجسِّدُ اللّوحةُ مدى إيمانِ الفنّانِ يوسف عبدلكي بقدرةِ رموزِ الحياةِ على التّسيُّدِ والهيمنةِ في الوجودِ، وإنْ غُلِبتْ إلى حينٍ.
————————
ناقد سوري

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

(ولاتي مه – خاص):
على امتداد أكثر من خمسة عقود، يمضي الفنان والمناضل شفكر هوفاك في مسيرةٍ حافلة تجمع بين الكلمة الثورية واللحن الصادق، ليغدو أحد أبرز الأصوات التي عبرت بصدق عن آلام الشعب الكردي وأحلامه بالحرية والكرامة.

منذ انخراطه المبكر في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني في سبعينيات القرن الماضي، ظل شفكر…

ماهين شيخاني

في فجرٍ بعيدٍ من فجر الأساطير، خرج رستم، بطل الممالك الفارسية، في رحلة صيدٍ طويلة. ضلّ طريقه بين الجبال حتى وجد نفسه في مدينة «سمنغان»، حيث استضافه الملك في قصره. هناك التقى بالأميرة تَهمينه، فتاةٌ تفيض حُسنًا وشجاعة، قالت له بصوتٍ يقطر صدقًا:

«يا رستم، جئتُ أطلب من البطل ولداً مثله، لا كنزاً…

إبراهيم اليوسف

لم يكن إصدار رواية” إثر واجم” في مطلع العام عام 2025 عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، مجرّد إعلان عن عمل سردي جديد، بل ولادة مشروع روائية- كما نرى- تُدخل إلى المشهد الروائي صوتاً لم يُسمع بعد. هذه الرواية التي تشكّل باكورة أعمال الكاتبة الكردية مثال سليمان، لا تستعير خلالها أدواتها من سواها، ولا تحاكي أسلوباً…

عصمت شاهين الدوسكي

الشاعر لطيف هلمت غني عن التعريف فهو شاعر متميز ، مبدع له خصوصية تتجسد في استغلاله الجيد للرمز كتعبير عن مكنوناته التي تشمل القضايا الإنسانية الشمولية .

يقول الشاعر كولردج : ” الشعر من غير المجاز يصبح كتلة جامدة … ذلك لأن الصورة المجازية جزء ضروري من الطاقة التي تمد الشعر بالحياة…