نــصٌّ شعــريٌّ وقــراءة نقديّــة

أحمـد علي محمّد

نشر الصديق الشاعر يحيى قطريب على صفحته الفيسبوكية قصيدة جديدة متميزة مبنى ومعنى، وقد كتبت تعليقا عليها ويسرني أن أعيد نشر القصيدة هنا مع التعليق .
القصيـــدة
آهِ لو ألقاك يا قلبي كما قلبي يراك
تفتحُ الأفقَ شراعاً
عالياً
تتخطّف الدنيا مداك ..
ورفيفاً من عبيرٍ
طالعاً
من لجّةِ النجوى
استدار الكونُ
صوبك
أو أفاقَ
على شذاك …
آهِ لو ألقاك يا قلبي كما قلبي يراك
موسماً للضوء
يهطل في المدى
خبزاً
يعرّشُ
في رُباك …
ونبيّاً
جاء
من آخر الحرب
يحملُ راية الحبّ
وترفعُ
شارةَ النصر
يداك …
التعليق.
نحن أمام نص كثيف ومدهش، يتلفت الشاعر حواليه يمينا وشمالا، وفي كل الاتجاهات فلا يجد إلا الخراب والدمار والحرائق، ووطنا ممزقا وشعبا مشتتا في أربع جهات الأرض، حيث تنتشر رائحة الموت في كل مكان، فينفطر فؤاده على هذه الحال التي وصل إليها وطنه فيستهل قصيدته بآهة طويلة تختصر ما يعتلج في نفسه من مشاعر الألم والمرارة والشكوى ( أه لو ألقاك ياقلبي كما قلبي يراك) ، يدهشنا ويصدمنا من اللحظة الأولى لقصيدته بهذه الكناية عن الوطن بالقلب، لقد درج الشعراء على استخدام المرأة الحبيبة كرمز للوطن، أما أن يكون القلب معادلا للوطن فهذا رمز مبتكر وجديد يعكس حميمية العلاقة بين الشاعر ووطنه، إذ لم يعد الوطن كائنا آخر حتى لو كان محبوبا أو حبيبة، بل هو عضو أو جزء من ذات الشاعر وأي جزء؟ إنه العضو الذي لاحياة من دونه لأنه ببساطة يضخ الحياة إلى باقي الأعضاء، وإذا كان الوطن بمنزلة القلب فمن الطبيعي أن يتألم الشاعر وقد لمس ما آلت إليه حال هذا القلب من وهن وضعف وخراب، وكطفل لايريد أن يصدق ما تشاهده عيناه يغمض عينيه، ويذهب في الحلم ليرسم صورة مغايرة ومناقضة للصورة الأولى، صورة الوطن المأمول كما يراها الشاعر، ويتمناها في قلبه ( كما قلبي يراك)، وطناً للخير والحب والجمال. ومايزيد المرارة والحرقة لدى الشاعر هو معرفته بأن الصورة الوردية الجميلة التي يرسمها ماهي إلا أمنيات (آه لو ألقاك) ، ولاتوجد فرصة واقعية لتحققها في المدى المنظور على الأقل.
تتألف القصيدة كما هو واضح من مقطعين، رغم أن الشاعر لم يقطعها، لكننا نستدل على بداية المقطع الثاني بتكرار الجملة الافتتاحية كتوكيد على استمرار الحلم، التي تعتبر تأسيسية في النص، فهي تختزل روح النص، ففيها نجد المرارة والشكوى، ونكتشف مكانة الوطن عند الشاعر، كما تشير إلى المفارقة بين الوطن كما هو في الواقع وكما يراه الشاعر بعين القلب، ثم لينطلق الشاعر في رسم لوحة الوطن الجميلة بألوانها المزركشة البراقة.
إن جمال اللوحة التي يرسمها الشاعر عبر الرؤية القلبية إنما تعكس لنا الصورة النقيض، الصورة المضمرة والمعاكسة للصورة التي يجسدها الواقع المؤلم ، فالضوء الذي يهطل في مواسم هو نقيض للعتمة والظلام الذي يكتنف ربوع الوطن، الظلام بوجهيه الحقيقي والمجازي، كما أن الخبز المعرش كناية عن ظروف الجوع والحرمان التي يعيشها الناس، والحب نقيض للحرب والكراهية والبغضاء التي تعشش في النفوس، بينما يشير المقطع الأول إلى المكانة التي يتمناها الشاعر لوطنه ” تتخطف الدنيا مداك” ، و ” واستدار الكون نحوك أو أفاق على شذاك ” والتي تعكس حالة التردي في مكانة بلاده بين الأمم على كافة الصعد، وبعد أن كان الوطن يشع عبيراً وألقاً أصبح بؤرة للتطرف والإرهاب. ويأتي استحضار النبوة في المقطع الأخير كتعبير عن  التعلق بأمل غامض سحري بعد إدراك الشاعر لانعدام الحلول الواقعية، ليتخيل الوطن كنبي رافعاً إشارة الانتصار بكلتا يديه، انتصار السلام على الحرب، وانتصار الحب على الكراهية والبغضاء، وانتصار مواسم الضوء على جحافل الظلام.
أما من الناحية الفنية فقد جاءت القصيدة محكمة السبك، خالية من الحشو، فلكل كلمة وجملة مكانها المناسب ودورها في إيصال المعنى، وتقريبه من ذهن المتلقي ،متدفقة بعفوية وانسيابية وصدق مع تدفق عاطفة الشاعر، ولقد أعطى تتالي كلمة (قلبي) في مطلع القصيدة جمالية خاصة للنص لاستخدامها مرة بصيغة مجازية، وأخرى بمعناها الحقيقي، كما أن صيغة النداء والإضافة إلى ياء المتكلم ” ياقلبي” قد أعطت للعلاقة مع الوطن طابعاً حميماً حانياً، كأم تخاطب صغيرها، كما أن صيغة المخاطب، شذاك.. رباك… يداك جاءت لتؤكد حضور الوطن بكثافة في وجدان الشاعر، وبالتالي في ثنايا قصيدته.
باختصار : القصيدة جميلة ومتقنة استطاع الشاعر من خلالها النفاذ إلى أعماقنا لكي يحثنا على مشاركته بناء صورة جديدة للوطن تساهم في تحويل حلمه إلى واقع، وتجسر المسافة الشاسعة بين واقع الوطن الحالي وصورة الوطن الذي نرجوه ونتمناه جميعاً.
———————
شاعر وقاص سوري

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

نص: حفيظ عبدالرحمن

ترجمة عن الكردية: فواز عبدي

 

جاري الافتراضي كئيب

جاري الافتراضي حزين

جاري الافتراضي يحلب اليأس

يحتسي الوحدة

يبيع الحِكَمَ المكوية برعشة الآلام

بثمن بخس.

 

من نافذة صفحتي

أرى

مكتبه

صالونه

غرفة نومه

مطبخه، شرفته، حديقته

ومقبرة عائلته.

من خلال خربشات أسطره

أقرأ طنين النحل

في أعشاش عقله.

 

جاري الافتراضي

يكتب على جدار صفحته

كلمات مثقوبة بالألم

محفورة بمسامير التنهدات

يمسحها

ثم يعيد…

مروة بريم
لم يسبق لي قطُّ أنْ رأيتُ الجزيرة، تكوَّنت صورتها في ذهني، من قُصاصات مطبوعة في المناهج المدرسية، وما كانت تتداوله وسائل الإعلام. عَلِقت في ذهني صورة سيدات باسقات كأشجار الحَور، يأوينَ إلى المواقد في الأشتية القارسة، تشتبكُ القصصُ المحلّقة من حناجرهنَّ، مع صنانير الصّوف وهنَّ يحكنَ مفارش أنيقة، وفي الصَّيف يتحوَّلن لمقاتلات…

شيرين اوسي

عندما تكون في الشارع وتحمل في احشاءها طفلها الاول

تتحدث عنه كأنها تتحدث عن شخص بالغ

عن ملاك تتحسسه كل ثانية وتبتسم

يطفئ نور عينها وهي تتمنى ضمه

تقضي في حادثة اطلاق نار

رصاصة طائشة نتيجة الفوضى التي تعم المدينة تنهي الحلم

تموت وهي تحضن طفلها في احشاءها

ام مع وقف التنفيذ

تتحسس بطنها

ثم تتوسل لطبيب المعالج

ساعدني لااريد فقد كامل…

إبراهيم محمود

البحث عن أول السطر

السرد حركة ودالة حركة، لكنها حركة تنفي نفسها في لعبة الكتابة، إن أريدَ لها أن تكون لسانَ حال نصّ أدبي، ليكون هناك شعور عميق، شعور موصول بموضوعه، بأن الذي يتشكل به كلاماً ليس كأي كلام، بالنسبة للمتكلم أو الكاتب، لغة ليست كهذي التي نتحدث أو نكتب بها، لتكتسب قيمة تؤهلها لأن…