التشكيلي سيف داود في البيت الأزرق :تحريك الراكد في الفن التشكيلي

أكسم طلاع
تعرض في صالة البيت الأزرق للفنون الجميلة بدمشق أعمال الفنان التشكيلي سيف داود القادم من مهجره الغربي حاملاً لخليط من المؤثرات البصرية التي اكتسبها من خلال دراسته للهندسة والفن واطلاعه القريب على التجارب التشكيلية المعاصرة وخاصة تلك التي لا زالت ترى في لوحة المسند مكانها الغير مقطوع عن جملة الفنون البصرية السابقة قبل أن تداهم هذه الساحة الأفعال الجديدة لفنون المفاهيمية وصرعات ما بعد الحداثة الصادمة للوعي الجمالي، وقد يستغرب مستقبلي العمل التشكيلي في أقاليم لم يتجاوز فيها عمر اللوحة المئة والخمسين عاما ، إلا أن هناك خطا غير بعيد بالمعنى عن بعض التجارب الحداثوية الرائدة في تعبيريتها قد استطاعت تحقيق رقعة واسعة الانتشار متجاوزة حدود الهويات والتنميط الأكاديمي ،
 هذه التجارب بدأ تأثيرها واضحا في منتجات الفنانين ولم تستطيع أن تلغي عتبة تأثير ثقافة الصورة التشبيهية أو الأثر التراثي وتمركزت في حدود التداول النخبوي المحسوم لصالح الموضة أو التأثير الدعائي وسلطة الإعلام المنافق لرأس المال المنغمس في مشاريع هيمنة القوى المولعة بالسيطرة على مقدرات الآخرين وسحق استقلالهم وتشويه تاريخهم الحضاري، وقد عملت على توسيع دائرة هذا الخراب مؤسسات ثقافية لا زالت عاملة في العديد من بلدان العالم الثالث ، استطاعت ترويج كم كبير من التشويه الذي أضحى راسخا لا يمكن اقتلاعه إلا بجهود كبيرة وشجاعة في التصدي لهذا الزيف والنبش عميقا في أسباب قصور الوعي الجمالي وتخلف دائرة الانتاج والتلقي معا .
في هذا المعرض للفنان داود تحضر فكرة الفنان طازجة حين يذهب نحو التعبير عن متعته في رسم عوالمه الخاصة بطريقة مبسطة لا تنشد استجداء القارئ العادي وحين يذهب حرا نحو صياغة جملته التعبيرية بما اكتسب من أدوات وطريقة ، فالطريق هو اللوحة التي يسير عليها دون الاكتراث لمتطلبات وجودها الأدبي حيث لا إشارات دلالية أو أدبية تبريرية ، بل يكتفي بالقليل من ملاحة الصورة والتوجه مباشرة نحو فعل الرسم كفن ممكن التعبير من خلاله بعيدا عن فتنة المهارات والخدع الاستعراضية الساذجة بتقنيات الملونين والحرفيين ، فتكون لوحته بسيطة وصادقة كملامح صانعها المسكون بالفن والصراحة ولطف الحضور الواثق بالجمال أداة لجعل الحياة أكثر احتمالاً.
ومن الواضح أن الفنان يستعين بلغة الفن المعاصر القائم على جدل وحوار بين الفهم والاتفاق وبين الجدل الحضاري التي تستعيض عن التمثيل البصري بالتمثيل الذهني وبهذا يحضر الخطاب الفكري في هيئة سطح بصري يكتنز مفاهيم كثيرة ،ويتضح في لوحته أن  فلسفتة في رسم الشخوص تبين الجواهر الذاتية المتعددة للمعنى في مخالفة للتشكيل المغلق والروتيني حيث تندر الأدوات ويتسع الموضوع مما يجعل من الرسم ميدانا غير تقليدي للبحث عن الجوهر الذي يكتفي بالإشارة والتلميح عن ذات لا حشو فيها ومفتوحة للتأويل ، فكما يخلق الشعراء معجمهم اللغوي يخلق الفنان الحقيقي فضاءه اللوني والمأساوي ووجوده الحر ليتمكن من التعبير عن ذات متحررة من التنميط باحثة عن قدرة جديدة في توليد معرفة جديدة من خلال الفن الذي انطلق بشكل غير مسبوق من منتصف القرن الماضي تقريبا وامتلك أسباب انطلاقته بامتلاكه حريته وبالتالي انحسرت القواعد الأكاديمية التي استنفذت أدواتها بفعل التغيرات ، وأضحى أنه لا مناص من إحداث تمردٍ شاملٍ قد يطيح بالهويات الوطنية في الفن التي بدأت تنحسر بفعل التأثيرات المتبادلة وما تحققه أدوات التواصل الجديدة من فعل على مستوى الإنتاج والتلقي، وما يحصل من انفلات في المجتمعات المغلقة ما هو إلا أحد هذه التجليات .
افتتح المعرض منذ أيام قليلة في صالة البيت الأزرق  ومستمر لعدة أيام قادمة وبه تكون هذا الصالة الجديدة قد بدأت تخطو نحو استضافة التجارب الأكثر حداثة على مستوى المنتج التشكيلي السوري الراهن الذي يعاني من استعصاءات على مستوى الترويج  والتجديد ومواكبة متطلبات الحداثة بشكل مؤثر وحاضر .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…