زيارة الأول من نيسان

هيفي الملا

فتحتُ البابَ بخوفٍ وبخطىٍ مترددة ولجتُ البيتَ المعتمَ، الممرُ القصيرُ المفضي إلى المطبخ، كلُ شيءٍ فيه متهالكٌ، مسحُ الزمنُ بصماتي عن الجدران والأواني وموقِد الغاز، 
 إناءٌ صغيرٌ هناك، نسي الزمنُ كسره ليخدشَ بهِ اليومَ جدارَ ذاكرتي.
غرفة الأطفال فيها سريران، وخلف كل سرير زهرةُ عبادِ شمس مدورة ، وحصالةُ نقودٍ فخاريةٍ مهشمة على الأرضِ، صورتان معلقتان فوق السريرين، آه كم تغيرتْ ملامحهما .
غرفةُ الضيوفِ المنمقةُ دوماً، مكتبةُ كتبنا العامرة وورقةٌ ملصوقة بأسماء من استعاروا منها ولم يُرجعوها بعد ولن .
ابتسمُ وانا أستعيدُ سيناريوهات محادثات قديمة، يا رجل هذه المكتبة للكتبِ لا لعرض الحجارة والفخار المكسور، وعلى سطح المكتبة مكواةٌ حديديةٌ لن ترحمَ من تسقطَ عليه، غليونٌ قديم، صفحاتٌ من مخطوطةٍ مهترئة، حجارةٌ ملساء أخالها ستشتعل، وإناءُ نحاسيٌ جميل، كانت الحلاباتُ قديماً يستخدمنه.
سجادةٌ تتوسطُ الصالون، تحتها تختبئُ أجزاءٌ من لعبٍ مكسورة وأقلامُ تلوين وندفٌ من ثلج العمرِ ذابت هناك ، أتأملها لا أتذكرُ لونها السابق، فقد صبغتها السنواتُ بلونٍ ولون، ليتني ماغسلتُ عنها يوماً بقعَ القهوةِ المسكوبةِ الداكنة، ولاسوادَ فحمِ مدفأةِ المازوت، عندما كانت تنتفضُ غاضبة. وتلك الجدران لِمَ منعتُ أناملَ ابنتي من رسم خرائط طفولتها عليها، و الأكوابُ غاليةُ الثمنِ من استحق غيرنا أن يشربَ بها من نميرِ هذه المدينةِ التي كانت تنامُ يوماً على الحبِ وتستيقظُ على العمل .
ممرٌ ضيقٌ المسافةِ ،فسيحٌ كذكرياتي ، وردةٌ ذابلةٌ على الجدارِ ، لوحةُ طبيعةٍ خرساء، عينٌ زرقاء ظننتها تحرسنا فكنا أول ضحاياها .
خزانةٌ افتحُ أبوابها فتتهاوى الثيابُ واللعبُ والذكريات، كلُ قطعةٍ تضحكني، هل كنتِ بهذا الحجمِ حبيبتي، يا إلهي هل كنتُ نحيفةً يوماً هكذا؟ هل كانت تستهويني هذه الألوان حقاً، وأضحكُُ على سذاجتي هذه الجرابات الدافئة السميكة لِمَ خبأتها ! هل كنتُ سأواجهُ صقيعاً أقسى .
 أقفلتُ الباب بهدوءٍ حتى لا تستيقظَ جنية الحكايا، وخرجتُ صفرةَ اليدين، عاريةً إلا من ضحكات أطفالي وصورتين وغلافٌ ممزق لرواية كلفتني أسبوعاً في الكلية دونَ وجبة الصباح لأقتنيها .
 لا أدري، ولكن مقاس الوجع اختلف، باتَ فضفاصاً فماذا أحمل معي، وربما ماضاق منها سيشدُ الخناقَ على أوردتي المتأهبةِ للنزف،  لذلك خرجتُ صامتةً سارحة، فالذكريات أقوى من الكلمات، والعواطف المتناقضة تتحول أمامي لألفاظٍ عاجزة ذليلة، وها أنا أغلقُ ذلك الباب،ربما حياتنا سنكملها هكذا، حديثٌ عابر، أناسٌ عابرون، محطاتٌ عابرة، وهنا يرقدُ ركنُ ذكرياتٍ نطوفهُ في الأولِ من كل نيسان .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…

 

محمد إدريس *

 

في ذلك المشهد الإماراتي الباذخ، حيث تلتقي الأصالة بالحداثة، يبرز اسم إبراهيم جمعة كأنه موجة قادمة من عمق البحر، أو وترٌ قديم ما زال يلمع في ذاكرة الأغنية الخليجية. ليس مجرد ملحن أو باحث في التراث، بل حالة فنية تفيض حضورًا، وتمنح الفن المحلي روحه المتجددة؛ جذورٌ تمتد في التراب، وأغصانٌ…

 

شيرين الحسن

كانت الأيام تتسرب كحبات الرمل من بين أصابع الزمن، ولكن لحظة الغروب كانت بالنسبة لهما نقطة ثبات، مرسى ترسو فيه كل الأفكار المتعبة. لم يكن لقاؤهما مجرد موعد عادي، بل كان طقسًا مقدسًا يُقام كل مساء على شرفة مقهى صغير يطل على الأفق.

في كل مرة، كانا يجدان مقعديهما المعتادين، مقعدين يحملان آثار…