فوضى السرد في ثلاثية كورستان لجان بابير

ريبر هبون

:الأدب والنقد متلازمان

النص الموضوع يثير التساؤل، وينقاد إليه، الناقد حين يقرأ الهواجس المتعددة بمتنها و تتصل ببحث الناقد في خضم السرد عن الجماليات والإشارة إليها والإشادة بها وتقديمها للمتلقي كي يكثر منها ويكتب أفضل منها، إذن يقوّم النقد النص ويأخذ بالمبدع لطريق مشرع بالنور والتجلي، ينقذ النص من الوقوع في أسر
. الفراغ والدوران حول الذات، لينفتح على الآخر ويعبّد الطرق للولوج لأعماق حيواتهم
:التداعي الحر في ثلاثية كورستان *
وهي نزعة تمثّل بها الكتّاب الأوروبيون المتأثرين بالتحليل السيكولوجي الفريدوي كأمثال فرجينيا وولف وجيمس جوبس ووليم فولر ، فمن إيجابياته أنه يعتمد الكشف ، حيث يكشف الكاتب جان بابير بما في مكنونه بكل حرية
“! فهو نفسه يقول هنا ص67 : „هل هذه رواية؟، أم أنها تداعٍ حر يمارس الهذيان الاختياري؟
بمعزل عن هذين الاحتمالين فلا شك بأن هدف الكتابة الإبداعية هو تحقيق التواصل المحمود بين المؤلف والآخرين ، إذ أن الكتابة لا تمارس لأجل الذات ولها فحسب، هذا التداعي الذي أغرق المتن بالشعر غرّد بعيداً عن الرواية  نوعاً ما وإنما قريباً من الخاطرة، حيث يعني التداعي الحر ذلك الجريان الشعوري وهو بالأصل يستخدم للعلاج النفسي وإخراج اللاوعي من معتقله، وقد ابتكره عالم النفس الأمريكي وليم جيمس وله اسم آخر يسمى بالمونولوج الداخلي ، يبرز الكاتب في متن هذا التداعي قضايا شائكة تخصه كفرد وتخص الآخرين كأفراد من مجتمع يعاني التهميش والفقر والضياع في متاهة الأوهام
. العودة للماضي وتكرار أحداثه بغية الانسلاخ عن مآسي الحاضر ومآلاته-
“ص88 „ هاهو عنترة يمتطي فرسه، ينزل ، يركب، ينزل، يموت، يعيش
الاحتجاج على الواقع السياسي وطغيان الاستبداد وتفشيه في الحياة المعيشة-
ص109 : „أصبحت قيمهم زنازين، معتقلات، قبعوا أيضاً في داخلها ، لأنهم اقتنعوا بما يفعلونه، كيف
„!! يسمحون للآخرين بالخروج منها؟
الانقياد للأسطورة والذهاب للطبيعة حال الغنائيين والرومانسيين اللائذين للبراري والابتعاد عن النفاق –
.والتملق والزيف المكتظ بجوانب وأطراف المدينة 
دخان سيجارتي يتصاعد بينما أستند بظهري إلى جبال بيستون، قصة فرهاد وشيرين، رائحة الغبار „
“المتسللة إلى أنفاسي من وصايا زرادشت
 الانغماس في الشهوات الجسدية كبديل عن الاكتئاب الذي لا حل له إثر شعور عميق بالاغتراب وانعدام –
.وجود ديمومة واستقرار في طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة
“ص283 : „لعقت كل جسدها، بأنفاس ولعاب كاوية، كأنني كنت أطهرها من ماء الله
:الصورة الشعرية في النص –
بما لا شك فيه فإن السرد ينطوي على كون شعري من الصور نذكر: ص42 
ما أروع نهديك ، كأنهما قبتان من البياض، والحلمتان البنيتان ترفعان بابتهالهما نحو سماء سواستيكا والظل
. العاري في قلب الناقوس ، يتدلى فوق فضاء رأسك والبخور يفصح عن غطرسة احتلال المكان
تلك المقاطع يكثر جان بابير في رصدها وتنم عن شاعرية حادة مرهفة تنطوي على هيئة تلاحم الحسي
. بالمعنوي
: مآخذ *
لشدة الرتابة في السرد الروائي وإغراقه بالطلاسم والغوامض والتي تتسم بها القصائد الرمزية عادة فإن المتلقي يضيع في لجة هذيان الكاتب وكتابته للشعر بمسمى الرواية مما يجعل القارئ أمام احتمالين ، إما أن يكمل  القراءة للنهاية مستمتعاً بالصور والتراكيب التي قد يجدها بين فينة وأخرى، أو أن يتوقف عن قراءة الرواية لآخرها لأنه لم يجد فيها ما يشجع، هنا أتحدث عن غياب الفكرة والمناخ الموحد بنظام معين، ترابط  الشخصيات،  والمغزى من السرد الذي يقفز على الأحداث بطرائق غير منطقية وعلى نحو يكرر فيها الكاتب ذاته ، بما لاشك فيه فإن ما قلناه لا يقلل من قيمة العمل الفني على العكس من ذلك فإن المرء قادر على أن يحفل بمناخاتها المجنونة والجذابة ويغض الطرف عن غياب الحبكة والحكائية المختفية من بداية الكتاب لنهايته، فتارة نجد السرد يستغرق صفحات طويلة متتابعة وفجأة نرى حواراً طويلاً لا يعلم فيه القارئ من يحاور من، لا شخصيات محددة وإنما سرد ينمّ عن سيرة ذاتية تنطوي على خواطر وأوجاع شخصية ، وتجارب جسدية(أوهايو-هيفاء) كبديل عن تجربة عاطفية صادقة لم تكتمل (نازو)، أيضاً يبرر الكاتب كل تلك الرتابة فيصف الناقد بالذباب الذي يحوم حول الوجه مبيحاً لنفسه مالايجب الاعتراض عليه أو ملاحظته، وهنا يأخذ بنا لقضية القطيعة الشرقية بين الكاتب والناقد، نظراً  لغياب نقد حقيقي موجه، وانشغال بعض النقاد كيداً بحروب عبثية مع الكتّاب ليس هدفها الحث على أعمال ذي جودة وإخراج المبدع من قاع  تكرار الهفوات إلى ركن التجلي بالجمال والإبداع المتمايز عن سواه، مما يضعنا أمام مكاشفة موضوعية بضرورة الإنصاف والإشارة إلى الزلل وكذلك لمواضع الفرادة إن وجدت، نجد تكرار لكلمة جاوبتها ، والأفصح أجبتها، نذكر ذلك في مواضع  هنا ص17 جاوبته ببرود ظاهر، ص49 جاوبته: لاشيء مازلنا في صراع، ص50 قاطعته مجاوباً 
لا خلاف على أيهما أصح أجاب أم جاوب وإنما تكرار ذلك لم يكن ليعبر عن شيء وإنما لا يكون محبذاً في
. الحوار ويضفي عليه رتابة تشعر القارئ بالملل
:خاتمة *
يمكن فهم هذه  الرواية التي تنطوي على  نصوص، قصائد ، خواطر ، وقصص قصيرة جداً بهذه الطريقة وهذا ما مِلت إليه في دراستي لهذه الثلاثية الكاشفة عن هدير في أعماق الذات ورغبة عارمة في فهم الجمال على الرغم من تكالب القبح والقيح في كل مكان وزمان ، وبهذا آمل أني قد نجحت في عرض جوانب من السرد
. والتداعي الحر لما فيه من ألغاز يمكن الإحاطة بها من باب طلب المتعتين  الفنية والجمالية 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…

نصر محمد / المانيا

-يضم صورا شعرية جديدة مبتكرة ، لغة شعرية خاصة بعناق ، تعانق الأحرف بالابداع من أوسع أبوابه ، انها لا تشبه الشعراء في قصائدهم ولا تقلد الشعراء المعاصرين في شطحاتهم وانفعالاتهم وقوالبهم الشعرية

-مؤامرة الحبر يترك الأثر على الشعر واللغة والقارئ ، يشير إلى شاعر استثنائي ، يعرف كيف يعزف على أوتار اللغة…

 

فراس حج محمد| فلسطين

تتعرّض أفكار الكتّاب أحياناً إلى سوء الفهم، وهذه مشكلة ذات صلة بمقدرة الشخص على إدراك المعاني وتوجيهها. تُعرف وتدرّس وتُلاحظ تحت مفهوم “مهارات فهم المقروء”، وهذه الظاهرة سلبيّة وإيجابيّة؛ لأنّ النصوص الأدبيّة تُبنى على قاعدة من تعدّد الأفهام، لا إغلاق النصّ على فهم أحادي، لكنّ ما هو سلبيّ منها يُدرج…

عمران علي

 

كمن يمشي رفقة ظلّه وإذ به يتفاجئ بنور يبصره الطريق، فيضحك هازئاً من قلة الحيلة وعلى أثرها يتبرم من إيعاقات المبادرة، ويمضي غير مبال إلى ضفاف الكلمات، ليكون الدفق عبر صور مشتهاة ووفق منهج النهر وليس بانتهاء تَدُّرج الجرار إلى مرافق الماء .

 

“لتسكن امرأةً راقيةً ودؤوبةً

تأنَسُ أنتَ بواقعها وتنامُ هي في متخيلك

تأخذُ بعض بداوتكَ…