حي التضامن في هانوفر

عبداللطيف الحسيني

حتّى ذاكَ الخيط من الدّخان الذي صَعَدَ إلى السماء تبدّد…. ابتلعته
خيوطُ الشمس الخافتة وأنا أنظرُ إلى اﻷفق الذي فَقَدَ لونَه الذي باتَ
إلى الكآبةِ أقرب.تمدّدتُ على العشب الذي أصبح إبراً وخزت جسدي الجريح
المملّح. كأنّ مقبرةَ اليهود القريبة من جامعة هانوفر ملاذي اﻵن هي حيّ
التضامن القريب من جامعة دمشق الذي عشتُ فيه شهوراً.
المقبرةُ مغلقةٌ ومغلّفة بهدوءٍ مرعب ، سألتُ حارسَها ﻷدخلَها، أجابني
عليك بموعد مسبّق. خلتُ أنّ مقبرة اليهود تحتضنُ شهداءَ محرقة حيّ
التضامن.. فتلك محرقةٌ وهذه أيضاً محرقة، والفرقُ بينَهما أنّ مقبرةَ
اليهود لها شواهدُ مكتوبٌ عليها أسماء وتحتَها رفاتُ الضحايا، ومقبرةُ
حيّ التضامن حفرةٌ….. وستبقى حفرةً لا تتعدّاها.
لحظة من فضلكم:
أسمعُ نعيقَ الغربان يملأُ المكانَ وينضمّ سربٌ أسودُ يغطّي السماءَ إلى
سرب النعيق المُرّ.
عينان لا تكفيان لاستدراج المحرقة إليّ هنا…. أنا المُبعَد عنها أربعة
آلاف كيلو متر، لكنّي أحدُ الذين احترقوا…. بتُّ خيطَ دخان تطايرَ معَ
الريح. كنتُ أسردُ حكايتي في المحرقة لصديقي قحطان عوّاد الذي قاطعَني
لعدم قدرتِه على التحمّل، فسأُكمُلها هنا:
أنا رجلٌ تجاوزَ الخمسين عَصَبوا عينيّ وأوثقوا يديّ من الخلف و طلبوا
منّي أن أركضَ لتستقبلني حفرةٌ مليئة بالإطارات والمسنّنات
الحديدية.. ارتطمتُ بها.. خلالَ ساعة متُّ ألف مرّة ولم أستطع الصراخ إلا
بآهةٍ مكتومةٍ بقيتْ في حفرة الفم.. كادتْ أن تخنقني … ثم أتتني طلقاتٌ
من أعلى الحفرة…. كنتُ أريدُها قاتلة.. القتلُ نعمة .
إن لم تقتلني.. فأنتَ مجرم: هكذا قال كافكا.
كانت الطلقاتُ التي تلقّاها جسدي الميّت تكفي لتحرير بلدة….. طلقة واحدة
تكفي لتستقبلني أبوابُ السماء، فمنذ ثلاثة أيام لم أتناول طعاماً ولا
شراباً جسدي الميّت استقبل أجساداً رُميتْ من اﻷعلى. قلتُ سراً: أن أتعذّب
وحدي دونَ غيري.. فهذه أيضاً نعمة.
رشّوا على الحفرة خليطاً من البنزين والكاز والمازوت فأصبحتْ فوّهةَ
جحيم ….تصاعد الدخانُ اﻷسود ثم تحوّل إلى خيوط سوداء ناعمة.. ثم تحوّل
إلى خيط دخان ثم تبدّد الخيطُ إلى شيءٍ لامرئيٍ… هكذا هي اﻷرواحُ لا
تُرَى.
يُقال عن الطيّار الذي ألقى القنبلة على هيروشيما أُصيبَ بنوبات هستيرية
بعدَ أن تقدّم في العمر و تذكّرَ ما فعلَه في شبابه وباتت جريمتُه تتجدّد
كلّما كبر.. حتى أصبحتْ كشريط سينمائيّ لا يفارقُه فأرادَ أن يكفّرَ عن
ذنوبِه فالتحقَ بدير ليصبحَ راهباً.
كان ذنبي أن أعيشَ في تلك الحفرة أكثرَ من أربعة عقود وﻷخرج منها خيطَ دخان.
مقبرةُ اليهود بجانبي ألوذُ بها … مَرّةً أسندتُ ظهري إلى جدارِها
الإسمنتي مقرفصاً، وكلُّ مَنْ مرَّ بي رَمَى نقوداً أمامي فالتففتُ ببعضي
وهربتُ خشيةَ أن يراني أحدُ معارفي.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…