التفاعل الرمزي وتصور الفرد عن ذاته ومحيطه

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

1
     التفاعلُ الرمزي بين التنظيم العقلاني للعلاقات الاجتماعية والترتيب المعرفي للظواهر الثقافية ، يُمثِّل نَسَقًا وجوديًّا في أعماق البيئة الحياتيَّة للفرد والجماعة، وهذا النَّسَقُ الوجودي يَستمد شرعيته وقُدرته على الاستمرارية مِن تصوُّر الفرد عن إنسانيته،وذَاتِه الفاعلة في مُكوَّنات المُحيط الاجتماعي، وذَاتِه المُتفاعلة معَ عناصر الطبيعة. وكُلُّ تَصَوُّر سَيُنتج حُكْمًا بالسَّلْب أو الإيجاب ، وكُلُّ حُكْم سَيُوَلِّد تَصَوُّرًا عميقًا ومُتَجَانِسًا معَ تفاصيل الحياة اليومية، التي تُمثِّل شبكةً مُعقَّدةً مِن العلاقاتِ بين مركزية الوجود ومصادر المعرفة، والتفاعلاتِ بين كَينونة اللغة والأفكار الإبداعية ، والروابطِ بين المعايير الأخلاقية والأفعال الاجتماعية . 
وَتَصَوُّرُ الفرد عن كِيَانه والكِيَانات المُحيطة به هو الأساسُ المنهجي للوَعْي الذهني والسلوكِ الوظيفي، والطريقُ الفكري إلى ماهيَّة المعاني الظاهرية والباطنية التي يُسقِطها الفِعْلُ الاجتماعي على طبيعة الوعي والسُّلوكِ في المجتمع الإنساني. وإذا كانت مُهِمَّةُ الفِكْر هي إزالة التناقض بين النسق الثقافي المُضْمَر والسِّياق الاجتماعي المَكشوف ، فإنَّ مُهِمَّةَ البُنية الثقافية الاجتماعية هي تحليلُ العوامل المُؤثِّرة في تَكوينِ الذات وصِياغةِ المَوضوع ، وربطُ الدَّلالات العقلانية النابعة من رمزية اللغة بالعلاقات الاجتماعية كَمًّا ونَوْعًا ، مِن أجل الفَصْل بين العُمْقِ النَّفْسِيِّ للفردِ والعُمْقِ الاجتماعي للظاهرة الثقافية، وهذا الفَصْل ضروري لإنشاءِ نظام ثقافي مُتكامل، وحاضن للتفاعل الرمزي المُستمر في علاقة الفرد باللغة ، والمُتَغَيِّرِ في علاقة الوَعْي بالسُّلوك .
2
     إذا كان الحُكْمُ على الشَّيء فَرْعًا عَن تَصَوُّره ، فإنَّ التواصلَ الاجتماعي فَرْعٌ عن طبيعة إدراك المعنى اللغوي رمزيًّا وثقافيًّا. وإذا كان الحُكْمُ يَدُور معَ عِلَّته وُجودًا وعَدَمًا ، فإنَّ الوَعْي يَدُور معَ قُدرة الفرد نَفْيًا وإثباتًا. وهذا التشابك المعرفي يُسَاعِد على صِياغة منهج اجتماعي على تَمَاس مُباشر بالأحداث اليومية ، يُسَاهِم في تحليل الدَّور الوظيفي للفرد في تشكيلِ الفِعْل الاجتماعي، وتحليلِ مَسَاره ، وتفسيرِ نتائجه . ويجب التفريق بين المُحيط الاجتماعي المادي الذي يعيش فيه الفرد، ويَنفعل به ، ويتفاعل معه ، وبين المُحيط الاجتماعي الذهني الذي يعتمد على تأويل الفرد ونظرته إلى نَفْسِه وتَصَوُّره عن الحياة . والواقعُ يَختلف عن عملية تأويله ، والأحداث اليومية تَختلف عن مراحل تفسيرها . وإذا استطاعَ التفاعلُ الرمزي في المجتمع إقامةَ حَد فاصل بين الشَّيء وتفسيره ، وبعبارة أُخرى، الفَصْل بين الطريق والطريقة ، فإنَّ الظواهر الثقافية في البُنية الاجتماعية سَوْفَ تَتَحَرَّر مِن الافتراضات التقليدية . وعندئذ ، تُصبح الأفعالُ الاجتماعية نظريات وُجودية ديناميكية قادرة على تحويل أنساق المعاني إلى مضامين معرفية في الإطارِ النَّفْسي للفرد ، والبناءِ الحضاري للمُجتمع .
3
     العلاقاتُ الاجتماعية هي صُوَر ظاهرية تتحرَّك في صَيرورة التاريخِ الجُزئي ( الأحداث اليومية ) والتاريخِ الكُلِّي ( الوقائع الوجودية ) . وينبغي البحث عن جُذور هذه الصُّوَر ، وأُسُسها المعرفية ، مِن أجل كشف أبعاد ماهيَّة التفاعل الرمزي في فلسفة الفِعل الاجتماعي ، التي تُوَازِن بين العامل الوِجداني الذي يُعبِّر عَن شخصية الفرد وهُويته وكَينونته ، وبين العامل اللغوي الذي يُعبِّر عن وسائل التفاهم وأدوات المعرفة وخُصوصية البناء الاجتماعي . وعمليةُ التوازن بين العامل الوِجداني والعامل اللغوي لا يُمكن أن تتكرَّس كَنَسَق فردي وسِياق جماعي ، إلا إذا اعتمدَ السُّلُوكُ على الوَعْي ، واعتمدَ الوَعْي على الخِبرة ، التي تتعلَّق بِتَصَوُّرِ الفرد عن ذاته ومُحيطه ، والتبادلِ الثقافي بين الأفراد . وبذلك ، يجد الفردُ إنسانيته ، ويُصبح ذَاتًا فاعلة تَملِك الجُرأةَ على مُساءلة معايير المجتمع وأنساق الثقافة وأنماط الظروف المعيشية .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حيدر عمر

هناك حكايات تتنازعها عدة ثقافات، مثل حكاية “شَنْگلو مَنْگلو / şekgelo mengloالتي تتنازعها الثقافتان الكوردية والفارسية، وهي مروية على لسان معزاة توصى صغارها الثلاث بألَّا يفتحوا باب الحظيرة في غيابها إلَّا بعد أن يسمعوا منها أغنية معينة تغنيها لهم. سمعها ذئب في أحد الأيام، كان يمر في الجوار. بعد ابتعادها عن صغارها، جاء الذئب،…

محلل
يقال احيانا ان هناك “رجالا لم ينصفهم التاريخ”، وكان التاريخ كائن جائر، يوزع المجد والانصاف على من يشاء ويحجبه عمن يشاء. غير ان التامل العميق في معنى التاريخ ووظيفته يبين ان هذه العبارة، على شيوعها، ليست دقيقة؛ فالتاريخ، في جوهره، لا يظلم احدا، بل يمارس عملية فرز طويلة المدى لا تخطئ في نتيجتها النهائية، حتى…

د آلان كيكاني

منذ اشتعال فتيل الجنون في سوريا يسهل عليك تمييز السوري من بين الناس أينما كنت، وأينما كان هذا السوري…

ولو كنت دقيقَ ملاحظةٍ لعرفته من على بعد مئات الأمتار.

لا لرائحة خاصة تميزه كما عند بعض الكائنات.

وليس لسحنة مميزة تخصه كما عند بعض الشعوب.

وإنما لأسباب أخرى …

مثل إطراقة الرأس.

والكآبة البادية على محياه.

وربما لاحمرار عينيه وذبولهما.

ها…

صدر حديثاً عن منشورات رامينا في لندن كتاب “سيرة النصّ المفتوح – رحلة واسيني من تلمسان إلى السوربون” للباحثة والكاتبة السورية أماني محمّد ناصر. وهو يمثل دراسة نقدية معمّقة تتناول المسار الإبداعي والفكري للروائي الجزائري واسيني الأعرج، أحد أبرز الأصوات السردية العربية المعاصرة، من جذوره الريفية الأولى في تلمسان إلى موقعه الأكاديمي في جامعة السوربون…