عرس الطفولة..!

  هديل قشوع

هكذا هي الحياة.. ربح وخسارة .. قد تربح الحياة وقد يخسر الإنسان او يربح .. لكن القدر لا يخسر أبدا .. نحن نضحي .. لكن الوجدان لا يضحي بل علمنا على أن نربح شيء ونخسر اخر .. وعلمنا على أن الخسارة تكمن في دهاليز الربح مهما كان .. وصراع الإنسان دائما وأبدا في هذا الميزان .. ماذا يربح وبماذا يضحي .. صراع في صراع..!
بعد طول تضحية وبعد طول سنين .. قررت أو أحسم النهاية  أو ربما أن أرسم طريق جديد لهذا الروتين وهذا المنوال من القهر والتضحية, ولا  أنكر عشقي لوطني , لغرفتي , للحائط قرب سريري حين كنت أكتب عليه جملا تنال إعجابي , حين كنت أقرأ قبل النوم .. الى مكتبتي .. الى غرفتي .. والى كل أزقة مدينتي.. إلى الجيران والأصدقاء.. المعارف وطلاب الصف.. في الابتدائية والإعدادية والثانوية.. كلها كانت تضفي إلى نفسي الحب والحنان .. لكن نقصاني لحنان الأم كان ينهش من جسدي.. ويأكل من أيام عمري..
وقررت أخيرا الرحيل حيث أمي.. أن أملأ هذا الفراغ المتراكم منذ سنين عابرة.. أن أعود لحضن أمي.. أن أضع رأسي على فخذها فتداعب أناملها أطراف شعري .. وقد حان الوقت لأن أشعر بطفولتي الضائعة .. حان الوقت لأن أشعر بمعنى الأمومة بعد طول غياب..
وعادت اليّ مشاعري.. وصرت فعلا طفلة بين يديها .. وكأنها بلمساتها حركت عجلة الزمن الى الوراء .. حتى عدت طفلة أرقد بين ذراعيها.. لكني خسرت وطني.. أرضي.. مسقط رأسي .. غرفتي التي حاولت أن تمنعني من الرحيل في حين كنت أنظر اليها نظرة وداع أخيرة حتى نظرَت الي بعنف وكأنها تقول..مهما رحلت ومهما ابتعدت فماضيك يقطن فيّ ولا يمكنك محو تاريخك وماضيك.. وكل أسرارك أحفظها في رحمي..!!
خرجت والدمع كالمطر يغسل وجهي من غبار الماضي .. في حين كنت أحاول الهروب منه.. فهل أتخلى عن ماضيّ في سبيل مستقبل أفضل؟ّ ربما؟! لكن عبثا نحاول النسيان.. هناك دقات تطرق باب العقل لتمدنا بتجارب الماضي الذي حولنا إلى إنسان وصنعنا من ضرباته ملعبا نمرح به في وجداننا..
وخرجت.. وأنا أختم أيامي بخطوات أخيرة.. وأحسمها ..حتى انتهت رحلتي هناك لأبدأ رحلة جديدة في حضن أمي.. وقد عدت اليها بعد رحلة عناء طويلة.. بعد حرمان وصراع ..سرت في الشوارع هنا وهناك.. وتنقلت من حافلة لأخرى باحثة عن حضن أمي .. حتى تسللت الي رائحتها حين اقتربت من .. وحين كنت أقترب أكثر كنت على يقين أنني في طريق الصواب.. وأنني في طريقي لحضن أمي .. يكفي هذا.. ومن بعيد .. رأيتها قادمة.. قلت في نفسي.. لا بد وأن رائحتي تسللت اليها .. فعرفت أنني قادمة لملاقاتها.. هنا.. وأنني تائهة في هذا الشارع, باحثة عن الأمان والاستقرار بعد رحلة شاقة من الحرمان.. فركضت الى أمي واحتضنتني لأبكي وأبكي كطفل ضاع عن حجر أمه ثماني سنوات حتى وجدها أخيرا.. وأي كلمات تصف شعور كهذا؟؟!
كيف لا وبتُّ خائفة من أن تضيع أيام العمر المتبقية دون أن أرى وجه أمي كما يجب..
لكني لم أتخل عن وطني.. أحبتي.. وحتى غرفتي..ومدرستي.. لأن الماضي كله يقطن فيهم.. وفي كل صفحة من صفحات كتابي كانت هناك حكاية , قصة, أو رواية تعلمت منها .. وكانت تجاربي أ:بر برهان على أنني أدركت الحياة وهرمت بها ومنها وأنا لا أزال في الطفولة..!
لكني تعلمت الكثير .. فالأرض أم .. والأم عرس الطفولة ومن يفقده يفقد معنى الأمومة ونشوة الحب والحنان , ومن عاش معها فقد مازوشيته للحياة . وبالتالي يخسر.. وضربات وتجارب من كلية التجارب والفنون وسادية القدر .. فلا يكون صلبا لمواجهة هذا الوجدان مهما كبر .. لأنه لم يتلق الضربات الكافية حتى يتعلم القوّة والتحدِّ.

—-
عن موقع: بيتنا

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…