و رحل طائر النورس الحزين

ياسر إلياس 

تصدق عليه مقولة ” بقي طفلاً فبقي شاعراً ” 
تعرفت عليه من خلال كتاب ” مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية” الذين أعارنيه صديق حين كنت في الصف العاشر، إلى أن أقمتُ في دمشق ” زورڤا ” وادي المشاريع الغربية رفقة العائلة في بيتٍ مستأجر ككل دراويش تلك الحقبة البائسة، و كثيراً ما كنت أتناوب العمل و الدراسة الجامعية لإعانة نفسي على مصاريفها اليومية الكثيرة و في يوم أياري / أيار/ صيف سنة١٩٩٨بينما كنت أُؤدي عملي في استقطاب الزبائن أمام باب فندق إقامة الصالحية وقع نظري عليه خارجاً من مقهى هاڤانا الذي اعتاد على ارتياده، اعترضته نصف اعتراض فكأنه لاحظني و أحس بموجة حب تتحرك نحوه و كان خبيراً في التقاط ذبذبات المحبة و المودة، سلمتُ عليه بحرارة، قال: بعيونك ود، قلتُ : نعم،
 و تبادلنا حديثاً قصيراً كان كافياً لصداقة دامت إلى حين مغادرتي و مغادرته لدمشق و سوريا للأبد و انقطاع ما بيننا بعد الحرب و أهوالها، جمعتني به لقاءات كثيرة في منزله الكائن في مشروع دمر، في إحدى المرات زرته و في يدي كتاب في النحو لابن عقيل، لم ينس بعد السهرة حين مغادرتي أن يعيرني رواية للكاتب الألماني هرمان هسه( ذئب البراري) قائلاً : اقرأه إنه أكثر فائدة من كتب النحو، و في إحدى المرات كنا في طريقنا إلى بيته الجديد في الصالحية إذ طالعتنا شجيرات قصيرات لا تتجاوز متراً في طولها كانت تزين المنصف على طول الطرقات، قال: هذه نسميها عندنا في العراق ( الجعفري) و بعد هنيهة طالعتنا شجرة ضخمة وارفة تتجاوز في ارتفاعها سبعة أمتار فوقف في ظل الشجرة و كأنه يسمعها أو يخاطبها أو ينشد في حضرتها رافعاً يديه الاثنتين يحاكي بها ارتفاع شموخ الشجرة و علوها  قائلاً :
“و هذا المام جلال الطالباني ” و مطها كأنه يجرها إلى قمة الشجرة، ثم شرع يضحك ضحكته الجميلة النادرة، كنت أبطئ عليه و أتغيب لشهرٍ أو شهرين لدواعيي الكثيرة، ثم أزوره فيفتح الباب، تتوهج عتبة الباب من أشواق عينيه الصافيتين، “معاتباً : هاي وين تغط، لا تغيب هالشكل ” لاحقاً جارنا في السكن أشركنا في خطه الهاتفي، كان يدق : يسلم بكلماته العذبة الطفولية الفرحة و أشواقه الصافية الصادقة ” يا الله، تعال،الشاي عالنار لا تتأخر ” .
كنتُ عنده في بيته حين أمسكوا بصدام حسين، تلقى هاتفاً من صديق يعلمه بالخبر، أوشك أن يطير فرحاً، قائلاً : الحمدلله إلي عشنا و شفنا نهايته..
اعتقد أنها نهاية سكة الآلام و طريق المآسي !
لقد كان مخطئاً، ما حدث بعدها كان أنكى و أدهى!
مظفر النواب مثلنا، صدمته الحياة، و أوجعه واقعها المؤلم، أطلق كل ما في جعبته من الشتائم، الأطفال شديدو الحساسية حين يغضبون ينفجرون بالشتائم. 
كان مثلنا لم يحلم سوى بوطن قابل للعيش ، وسط أهله و أصدقائه، رحل و لم يكحل عينيه بذلك الوطن ..!
مظفر النواب 
أبا عادل الكبير الجميل 
العالم أقل جمالاً برحيلك يا سيدي
و داعاً …
……………….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…