غريب ملا زلال
فرود باقي ( 1973 -السليمانية ) فنان تشكيلي من كردستان العراق، و إبن مدينة السليمانية، فيها ولد حتى باتت ذاكرته التي تختزل شهيقه و زفيره بالمظهر الخاص التي تكون عليه الأشياء بحالة كلية من وحدة العاطفة بينها و بين المرء كإنسان قادر أن يبرز اللون الحقيقي لتلك الأشياء مهما كانت قريبة من الوهم، و مهما كانت الحواس مدركة لها بمعيار عاطفة خاصة تُعتمد عليها في كشف الجمال بتعبيراتها المختلفة التي تصدرها إلى العين الفاحصة، الواعية، الغارقة في الكيفيات لإحداث الأثر المرجو منه، فيها شعر بعاطفة الجمال المناسبة و بحساسية خاصة و بإنفعالات رقيقة و مرهفة، فيها تذوق كل الأحداث و المواقف بمذاقات ممتازة و معتقة، طفيفة تشبه الضحك حتى النهاية، و كثيفة تشبه الأطعمة الحلوة المرة، و بعواطف خارجية أو داخلية حتى المدى، فهو مفتاح المكان و ذاكرته التي لا تصدأ، فرود باقي حاله لا يشبه حال أغلب الفنانين التشكيليين الآخرين، و لا يلازم ما يلازمونه هم،
فله عمليته الإبداعية الخاصة المستنبطة من جمال المكان، فهاجسه أن تبقى ملامح مدينته محافظة على روحها و تفاصيلها، أن تقوم الديمومة بين الصورة الحيّة (الخارج) و بين الجوهر النابض (الداخل)، أحلامه تكاد تختصر في هذا المكان منطلقاً من إدراكه بأن الحرص على ذاكرة المكان هو الحرص على الذات الإبداعية فيه، و التي تحتمي بروح خاصة يذهب في التاريخ، و هو على يقين بأن المكان دون ذاكرة خراب على خراب، و الذاكرة دون مكان كتلة نقاء لا إدهاش فيها، فباقي يهيمن على الإتجاه الذي يمضي به نحو الإتجاهات الأخرى الأقرب إلى عوالم لها المكانة العليا في تصويراته الغارقة في الإدهاش، يمضي به نحو شبكة من الوحدات المعرفية النشطة المستمدة من دراساته الكثيرة عن المعالم المميزة لمدركاته الجمالية، فهناك إتفاق ضمني بين مثيراته الإدراكية و التي تشكل الأساس المنطقي لجمالياته، و بين الواجهات المعمارية و بما تحمله من متعة جمالية تذهب إلى مستوى أعلى كتمثيل الإنموذجي و ما يهتم به من معنى بعيداً عن التعرض للتكرار أو بعيداً عن السقوط فيه، و هذا ما يؤدي به نحو إنبثاق حساسية جمالية من إتقانه لقواعد لغته و لرموزها الأخرى الكثيرة، فهو يعرف بأن معرفة ذلك أمر ضروري و لهذا يتحرك تدريجياً بالصعود أو بالهبوط تبعاً من قربه أو بعده من الضوابط التي أفرضها على نفسه، تل الضوابط التي زادت من الحرية التي يشعر بها و هو يميل إلى تفضيلها، أو إخضاعها لإختياراته الصارمة على أقل تقدير .
إن وصف أسلوب باقي و ما يلعب فيه من الدهشة و الفضول يحملنا إلى إنطباعات ملتقطة من الجوهر و ما يسمح لعينيه بالتعاطف معها و تقمصها، فالأمر عنده ليس إيهاماً ممتعاً و خيالاً يوشك أن يكون كاملاً فحسب، بل إيهاماً قد ينذر بالخطر القادم على المكان، فالمشاهدات التي يقدمها تؤرخ حتماً و تتحول إلى الذاكرة الملتهبة لهذا المكان، فهو يلاحظ و يقدم ملاحظاته على شكل أعمال فنية و هذا أقل ما يمكن أن يفعله مبدع ما فيه الحس الوطني و الإجتماعي ما يوازي الحس الجمالي في أعماله، و هذا يضعه في قائمة الذي يدقون ناقوس الخطر بضرورة الحرص و الحفاظ على ذاكرة المدينة و تنشيطها بقدر المستطاع و بدرجة عالية من الحرية و المسؤولية .
إن شعور المتلقي بمتعة عميقة و مركبة، بمتعة يبحث عنها مكتشفاً دلالاتها بمفرداتها غير المحايدة، إن شعوره بالإندماج و المغادرة معاً و هو يحاكي أعمال فرود باقي هو شعور يتلذذ بالأشياء المسكونة بالأحياء و ما ترتبط بمفاهيمهم لمحاكاتهم بمنطق يساعده على المتابعة و التفسير، دون أن تراوده أي خوف مما قد ينتظره، هو شعور يحدث على نحو تدريجي و يمكنه من التواصل معها ما يبذله من جهد في تقديم تفسيرات مقنعة لذاته، و تقديم التبؤات الخاصة بالمحتويات و الأساليب المتوقعة، و قد يستمد منها أساس الحاجة لذلك التواصل، فأعماله تؤرخ المكان، و هو من الجيل الذي يعتمد في إنتاج العمل الفني على نفسه أولاً و أخيراً، فهذا الإنتاج المثمر و التأريخ يصبح مألوفاً لدى باقي، لأن القيمة المؤثرة الخاصة بالمثير الجمالي لديه هي في حالة الإستجابة المستديمة، لا يفقد تأثيره فيه / عليه، و لهذا مجمل أعماله تشتمل على جوانب كثيرة في مجمل مستوياتها، فهي دالة للقيمة المعطاة للجدة من خلال نظام منتجه، و بطرائق باتت أقرب إليه من أي فنان آخر، فهو يرسم بحماس و عشق و كأنه يؤلف مقطوعة موسيقية عليها أن تحافظ على إيقاعاتها التراثية، المكانية، البيئية، و على نحو مختصر يمكننا القول أن فرود باقي لا يقفز في الهواء، بل يحقق قفزة موفقة على درجة كبيرة من الإداء الخاص الذي يكون عاشقاً به، فأهمية الدور الذي يلعبه و يقوم به و بفرح دائم كبير قائم على أساس من المنطق من جهة، و حب المكان و ما ينوط عليه من المسؤولية من جهة ثانية، و هذا ما جعل مشروعه الجمالي يلتقي مع مشروعه البيئي القائم على الحفاظ على العمارة القديمة و تركها تتنفس بحبق الأولين، و جعلها كنوزاً للمدينة و أهلها لا يحق لأحد أن يفرط فيها، تلك الكنوز التي أن تكرس من أجل الإنسان، و ذلك كي تكون حياته أكثر إنسانية و بالتالي أكثر جمالاً، فالإهتمام بالخصائص الشكلية للمكان تأتي من خلال الإهتمام بالعلاقة التفاعلية بين الإنسان و المكان و ما تحرضه من خصائص حسية بالتوالد في إطار ما من توالد معرفة جمالية مرتبطة بتزايد الإهتمام بنوعية الحياة و برفع مستواها، و على أساس من التفاعل المشترك بين الإنسان كفرد و بين المكان كبيئة حيث يندمج أحدهما في الآخر في حالة من المشاهدات المتداخلة و إن ظهرت تباينات عدة إن كان في إحتياج كل منهما لتركيب خاص، أو من إدراكهما بالحركات الإرتقائية الأكثر هدوءاً في مسارات بصرية موجودة فيهما، فالإحساس الشديد بالذات المؤثرة في إبعاد ما يفسد المشاهد البصرية هي الأكثر فاعلية في رؤية التدخل الإنساني، ففرود باقي يؤكد بأن المنحى المعرفي مع جانب إنفعالي من الخبرة الفنية له أهميته القصوى في تنشيط مهارته الإبداعية أولاً، و في تنشيط مهارة القراءة لدى متلقيه ثانياً .