ساعات

ليلاس رسول
لو كان بوسعي لسرقت ساعة من الزمن الماضي. لسرقت تلك الساعات التي كنت أقضيها لاعنة الطريق أثناء ذهابي إلى المدرسة، تحت وطأة تذمري من سقوط الأمطار التي تبلل بدلتي المدرسية، و كان للطين الذي يتكور أسفل حذائي الحصة الكبرى من اللعنات. نصطف خلف بعضنا البعض في صفوف تشبه الطوابير، لإلقاء تحية العلم . تحت زخات المطر .نتهامس مع من حولنا عن الواجبات المنزليه التي لم ننجزها. نخرج من حقائبنا التي أرهقت كاهلنا دفاتر و أقلاماً، لنمشي بين الصفوف. نترجى إحدى زميلاتنا بأن تعطينا حلول الواجب، ثم ندخل الصفوف واحدة تلو الأخرى . منتظرين أساتذتنا وسط ضجيج يملأ أرجاء القاعة، لتغلق الأفواه ويحل السكون لحظة دخول المدرس، ويبدأ صباحنا بأشهر كلماته، حتى قبل أن يلقي تحية الصباح التي بتنا نحفظها، مثل أسمائنا . من لم تقم بكتابة الواجب فلتقف !؟. 
لتقف كثيرات، ويبدأ الأستاذ بتوبيخنا واحدة تلو الأخرى، غير آبه بأعذارنا الكاذبة التي اعتاده عليها هو أيضاً. ويبدأ بإلقاء محاضرة اللوم علينا كما كل مرة، لتأخذ نصف وقت الحصة ونحن لا نأبه بشيء سوى بعد الدقائق و الثواني لانتهاء الحصة . لتفرج كربتنا، عند سماع ذلك الصوت الذي نعشقه كأنه ناقوس الخلاص، فها قد حل وقت استراحتنا لنركض في الممرات التي امتلأت. مرة أخرى بضجيج وأصوات التلاميذ، يضحكون هنا، و يتهامسون هناك، و أنا وصديقاتي نسارع الزمن، غير آبهات بذلك الحشد الذي نصطدم به، لنجلس تحت شجرتنا المفضلة.
قبل أن يسبقنا أحد إلى هناك . نتناقش حول شتى المواضيع. ما نكرهه و ما نحبه، من دون أن ننسى تذمرنا من المدرسين. نلقي باللوم عليهم في كل غلطة نقوم بها، وتلك الشجرة تسترق السمع في كل فرصة. تتيح لها في بادئ الأمر. لم نكن نحب أن يسترق أحد السمع على أحاديثنا لكن مع مرور الأيام اعتدنا على تلك الشجرة الفضولية بيننا وهي تهز أغصانها، لتحيتنا في كل مرة، ترانا فيها . ليتني استطيع أن أسرق تلك السويعات من الماضي .
 فالآن لم يعد شيء كما كان تلك الوجوه التي آلفتها. لم أعد أراها بين الوجوه من حولي. لقد بعثرنا الزمن. 
أشتهي أن أعود إلى ما كان يجمعنا لكني أخشى من الشعور بالوحدة هذه المرة . 
أخاف من كوني أعلم بأني إذا دخلت صفنا السابق ألا أجدكن فيه، حتى وإن أسرعت نحو غرفة المدير فلن أجد أحدا من أساتذتي هناك.و حتى ولو كان هنالك أحد منهم فلن يتذكرني، وما أسوأ ذلك الشعور ألا يتذكرك مدرسك الذي كان يقضي الوقت بالصراخ في وجهك . 
لقد تغيرت الوجوه. وحلت محلها وجوه جديدة، لأركض نحو باحتنا. لأرى أن تلك الشجرة الفضولية قد شاخت و اصفرت أوراقها، لكنها بقت على العهد، ولازالت تسترق السمع إلى أحاديث المراهقات. كأنها ترجع أيام صباها بالاستماع إلى تلك المحادثات. هل يا ترى لازالت تتذكرنا. و تتذكر أحاديثنا . 
أم أن تلك المقاعد التي كانت تجمعنا و كأننا روح واحدة، لازالت تعمل على لم الشمل الأصدقاء .  
 لقد سلمت جدارن المدرسة من رسوماتنا على وجهها. هل يا ترى هي أيضاً اعتادت على غيابنا ؟ 
لا أظن. لأني ما زلت أشعر بأن تلك الجدران مسكونة بأرواحنا العتيقة التي لم تأبه أن تترك المكان. 
حتى تلك الصفوف بقيت مسكونة بذكرياتنا لكنها بدأت تحتضن ذكريات أجيال أخرى غيرنا، برحابة الصدر . 
تلك الجدران ستبقى مسكونة بأحلامنا و ذكرياتنا .تحمل أحلام بنات و أبناء أجيال وأجيال، لتحصنهم بدروع العلم في معركتهم خارج اسوارها . 
الماضي لم يمض، فلو مضى لما بقينا حبيسي تلك الأيام. فالماضي يقيدنا بأغلال الذكريات…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

مصدق عاشور

مصلوبةً بخيوطِ شمسِ محبتك

يا من كشفتِ لي

سرَّ التجلّي

ووشمَ الحنين على جبينِ الانتظار

أنتِ ميناءُ روحي

قولي: متى؟

قولي: لِمَ البُعادُ

في حضرةِ ثالوثِكِ السرّي؟

رياحُكِ تعبرُني

كأنّي فرسُ الطقوس

وفي قلبي

تخفقُ فراشةُ المعنى

قولي لي متى؟

قولي إنكِ

فراشةُ رؤياي

وساعةُ الكشف

أرسِميني في معموديّتكِ

بقداسةِ روحكِ

يا من نفختِ الحياةَ في طينِ جسدي

حنينٌ

كمطرٍ أولِ الخلق

كموجِ الأزمنةِ الأولى

يتدلّى من ظلالِ أناملكِ

 

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…