غريب ملا زلال
حلب من أكثر المدن التي تقترب من الحياة، فيها قوة هائلة تجعلها تنبض على الدوام، ترفض الإستكانة و الموت مهما كانت فاجعتها كبيرة، و هذه سمة خاصة قليلة المدن التي تملكها، و حلب من تلك المدن القليلة، فثمة أرواح تسكن جسدها ترفض مغادرته، و هي مصدر نبضها و إلهامها، و ليست قلعتها المعروفة هي الوحيدة التي تحمل وزرها، ففيها من القلاع ما تكفي رفعها إلى سموات تحمي طموحاتها و حياتها و وحدة حالها، نعم فيها قلاع كثيرة لا تحصى و لا تعد، فيها صباح فخري، عمر بطش، صبري مدلل، فاتح المدرس، لؤي كيالي، …..إلخ، و لهذا ليس غريباً عليها أن تستمر بالإنجاب، بإنجاب من تفتخر بهم، و من يفتخرون بها، و نفتخر نحن بها و بهم، و بإعلانهم عن أنفسهم و بقوة، أقول هذا و أنا في محراب فنان يشكل مع أسماء أخرى وحيد مغاربة، وحيد استانبولي، سعد يكن، عبدالرحمن مهنا، عنايت عطار، ناصر نعسان آغا، إبراهيم حسون، أحمد برهو … إلخ
جوقة تجمع تراكمات الحياة المعاشة، بشؤونها و شجونها، برغباتها و إهتماماتها، بوجوهها و تفاصيلهم، و يرفعهونها لئلا يهزها الموت، و لئلا تكون قرباناً على مذابح الآلهة، يرفعونها لتبدأ بها رحلتهم الطويلة الأمد، إنهم أناس حقيقيون مرتبطون بالإنسان بقدر إرتباطهم بحلب، المدينة التي طالما بقيت ولودة لقلاع جديدة ستصبح فيما بعد جزءاً مهماً من معالمها، و من ذاكرتها التي لا و لن تشيخ، بل التي طالما بقيت تسرد حكايا لسموات تأبى إلا أن تحمي حلب، و الفنان الذي نحن بصدده في هذه القراءة نزار خطاب (حلب 1969) ينتمي إلى تلك الجوقة و تلك الذاكرة، فهو فنان مجتهد على طريقته الخاص، صاحب تفاؤل مستقيم، تفاؤل يدعوه إلى التبشير للسلام و الجمال مهما كانت ظروف المكان محبطاً و متفاقماً، مهما كان الألم عميقاً فهو يستخدم المفهوم الإنساني بالذات، يستخدمه بقوة و ثبات و إخلاص كي يبقى المثل الأعلى مجسداً في الإنسان غاية الفن و الجمال .
نزار حطاب يطرح ما يمكن أن نسميه الإقتران بحتمية الوصول في إطارها الإجتماعي الإنساني، الجمالي الإبداعي، و كلما كان التفاوت بينها غير واضح كلما كان الإقتران على أشده، و هذا لا يلحق الضرر بما هو واقعي بل يمنحه دلالات تجعل له معنى و مغزى، و دون أن تخضعه لنمطيات من الإمكان نسفها دون تدخلات قوى العالم الآخر، و دون أن يلغي ما هو ملموس الذي سيظهر عنده في أشكال و إتجاهات يمكن إعتبارها تصورات لجمهرة كبيرة من معلومات ستسرد لاحقاً بهدوء و تأمل كل مقاماتها، و الحطاب يتجنب تقديم تصوير دقيق للحياة، بل يضع المفارقات الشتى في نصب عينيه، المفارقات التي تبدو غريبة و غير إعتيادية و مرتبطة إلى حد ما بإتجاهات إستثنائية ستكون صدى لتلك الحياة لكن بلمسات مختلفة خاصة به، فلا حصر للحدود عنده، و لا سبيل لديه لمصالح الحياة اليومية، فكل المعطيات عنده تشير إلى إستيقاظ الفعل المحسوس لديه بظروفه الإنطلاقية، ساعياً لتطويره ليكون أكثر إنسجاماً، و أكثر تناغماً مع المقدمات الأولى و مع ما يحيط بها من تبعات ملائمة، فهو يحقق نقلة نوعية في تجاوز الأوهام، و ما سقوط الترهلات التي تشوش الأذهان من جعبته إلا تعليلاً نافعاً من الوجهة المعرفية و كنتاج لسيرورة الفعل ذاته و هو يتجلى في مصائر الحالات و الصراعات الحياتية تجسيداً لها في تطور عوالمها الداخلية و ما ترافقها من حركات هي بالمجمل تنبوءات لبعض المسائل التي لم يتم حلها أو كشفها بعد، و هذا مرتبط بغابته الفكرية القائمة في ذهنه، و بمدى بسطها كموضوعات جمالية في الزمان و في المكان مع الإختيار الصائب للبناء الفني، و الحطاب لا يحتار في حل القضايا الفنية التي قد تبرز أمامه، و من الطبيعي أن يلجأ إلى المخزون الذي راكمته التجارب الكثيرة، إضافة إلى طرحه لمضامين الظواهر المطروحة أمامه بصدق و تركيز فالسمات الجوهرية لدوائره غير محددة، و رغم ذلك يدهشنا دائماً بحلوله الفنية و ما تقتضيها الضرورات الداخلية للموضوع المعالج في مجمل أعماله، و هذا من شأنه أن يرفع درجة حريته في مجالات بنائه الفني غير المحدودة .
نزار الحطاب يسبر أعماق الحياة، و يلتفت للواقع المعاصر له حتى يبرز أمامه عالماً كاملاً متنوعاً إلى ما لا نهاية في ظواهره متناقض و متحرك و متغير، و ما وجوهه الحالمة في مزرعته الفنية إلا كسراً للنمذجة، و تعميماً جمالياً يخدم أغراض التصوير التاريخي الملموس لديه، فهو يفتش و يختار من الوجوه ما تحمله من زبد الحياة بتياراتها العميقة، و يصور ما هو جوهري فيها، و إن كان يلاحظ عليها التغيير المتبدل، فنرى فيها ما هو ثابت، راسخ، متكرر، أو ما هو فردي أقرب إلى الأنموذج، و فرز الخيوط المتقاطعة بين الحالتين مهمة في غاية الصعوبة و التعقيد، و يبذل الحطاب من الجهد الكثير حتى يمضي بهما نحو الخلاص، حتى يمضي بهما و بما يترتب عليهما من شعور المتلقي بالبعد و النفور، أو بالقرب و التسلل نحو سمات وجوهه المرتبطة بالمثير الجمالي من جهة تركيبه و غموضه و جدته، أو من جهة إلتقاطه للمعلومات ثم معالجتها و التعبير عنها حتى تنزاح بعيداً أو قريباً لتستثير الشعور على الرغم مما نعرفه من صعوبة القيام بمثل هذه المهمة، و قد تكون تلك المسافة المزاحة هي الحاملة للقيم المعرفية، و للتفضيلات الجمالية التي ستميز تركيباته البصرية و مكوناتها الأساسية في ضوء فهمنا الجديد لها، فهو لا يواجه الأشياء مكرهاً بل إستجابة لتأملاته و ما تحمله من حب، و لديه من الخبرة تراكمات تجعله أكثر تركيزاً على خصائص الشكل بقيمها العليا التي تحمل جمالياتها بكل مظاهرها التي تستجيب للذائقة الفطرية بقدر إستجابتها للذائقة المثقفة و المهذبة، و هذه ميزة لا يقدر على فعلها إلا القلة من الفنانين، و حطاب منهم ينتبه لعلامات الجمال بدقة و يعدل من مرونة التفاصيل و أهميتها، و ما لها من منح القدرة له حتى يكون قادراً على تغيير الزاوية الذهنية لوقفته، الزاوية التي تجعل من عوالم التفاصيل بالكشف على تصميمات جديدة ترتقي به نحو أمكنة مشبعة جمالياً، مولعة بالحلم، الحلم الذي يعيه الحطاب كمفهوم ممتع يثير الإنفعال من جانبه الإيجابي، منه يستلهم ما يحققه من إنجاز بنية العمل، بوصفها بنية معطاة مشتملة في الوقت نفسه على أفقين، أفق التوقع المفترض في العمل، و أفق التجربة المفترض في المتلقي، بنية عليها ينهض سر وجوهه التي تكتوي بإحتمالات رؤيوية مفتوحة على الحياة بموضوعاتها الكثيرة، مفتوحة دائماً لمعايشة أبعاد جديدة ترتبط بشكل وثيق بذلك السر الذي يسكنه، و يسكن وجوهه بتنوعها و إمكانيتها، و قدراتها في تجاور العلاقات المتخيلة التي لا تنفي أن جريانها يتم من لحظة شروعها في فتح مجراها وفق ما يؤمن لها البقاء، إلى لحظة تشكلها للمضي بصمتها و حلمها في ذاتها الموغلة في المجيء فلا يبقى منها إلا ما تهفو إلى المكاشفة عن الإنفتاح و عن لحظات التقاطع التي تعلن عنها الموجودات المنتشلة من هول وجوهه و تأملاتها، و من هول مواجهاتها للغة حملت مقاماتها في ذاتها، وأصغت كثيراً لحلم الغياب .