محمد صالح موسى يعتصر الوجع في رحابها الأوسع

غريب ملا زلال 

إن الحديث عن تجربة الفنان التشكيلي محمد صالح موسى إبن مدينة القامشلي ( 1953 )، يدفعك بالضرورة إلى العودة إلى أواخر السبعينات و بداية الثمانينات حين كان الفن التشكيلي في الجزيرة السورية في حالة صعود مستديمة، و تنبض بأسماء تشكيلية باتت أكثرها علامات لهذا الفن لا في الجزيرة فقط بل على إمتداد الخارطة السورية نذكر منهم عمر حمدي، بشار العيسى، صبري رفائيل، حسن حمدان، عمر حسيب، برصوم برصوما، خليل قادر … إلخ و كان محمد صالح موسى ينتمي إلى هذه الجوقة العذبة، و بالعودة إلى أعماله في تلك الفترة سنرى خطوط التقاطع الكثيرة معهم بدءاً من الإشتغال على ذات الموضوع ( الحصاد، وجوه الريفيين و الريفيات، عازفة الناي، … ) بواقعية هي أقرب إلى التسجيلية منها إلى التعبيرية، إلى الفتنة بالملاحم الشعبية و الإستلهام منها و من قصصها و محاكاتها، و غرسها كموجودات متشابكة يدفع الملحمي منها إلى الذرى حيث اللهفة لا تخذله بل تنتظره كطريقة تفي حاجاته من أبعادها و ما غاب منها، فحاله كان كحال غيره من أبناء جيله يعتصر التعب في رحابها الأوسع،
 و هنا قد يكون أقرب إلى لؤي الكيالي منه لأبناء منطقته ( لوحة بائع الصحف مع البويجي، و كذلك لوحة العتالة أو حمالا الحنطة ) حتى في منحنيات خطوطه و الطريقة الدائرية في رسمهما، و لكن فيما غير ذلك فهو مخلص للمكان كالجوقة الجميلة جميعها، مخلص لمواسمه و ألوانها الحارقة، مخلص لوجوههم المجبولة بالتعب و الشقاء و الحزن الدفين، الحاملة لحكايا الناي و شجنه، حكايا الزمن بكل ريحه و بكل قمحه .
و كما إنعطف أكثر أبناء جيله، إنعطف هو أيضاً، فمن الواقعية التسجيلية إلى الواقعية التعبيرية، إلى التجريدية، إلى التجريدية التعبيرية، و تلك دلالات حاضرة على مواكبته للحركة التشكيلية و فضاءاتها، و مواصلته لمحيطها، متربصاً بكل ما يستجد منها، و لهذا فهو لا يحتار حين يتعلق الأمر برفد منجزه بإستشرافات من التخوم الإبداعية المحدثة و المختلفة، و لا بكيفية ضبطه و لا بتدفقه الدلالي، فالهدير موغل في سجال اللحظات و مداه، و ليس هناك قيود تحول بينها و بينه في إستحداث قوالب جديدة فيها يصب تجربته و يسمعنا إياها و موسيقاها فثمة إلحاح تهفو به إلى التشكيل و الصياغة بما يختزل من إشارات تضعه و نحن معه في حضرة الوجود و ما يستدعي من فعل يشرع في التشكل من كلام و ضوء، الدال على حركات المنجز في شرطه الإنبعاثي، في شرطه الذي يجعل من تداخلات أنسجته مكونات بنائية يؤتى بها كعملية مشرعة في دلالاتها و أبعادها، كعملية مقترنة بوجوه الإنسان و تغريبته، و هو السبيل إلى الإنفتاح على سموات غير ملبدة و لا تلتهم طيورها، على سموات في رحابها تتم المخاطرة و تتجدد عناصره فيحيي ذاكرته بتفاصيل صورها و بلحظات إشتباكها، و هنا تكمن فرادته فتتدفق كشوفاته بماهيتها و تعلن عن نفسها بقوة في كل المفارق، و يتمكن من إلتقاط أشد التحولات تحفيزاً، و لذلك نرى أن منجزه يستعيد حرارته بذاتية متقاربة فيه تتكدس المجازات و حريتها، فيه تتوالد المقولات و حداثتها مركزاً على جوانبها التقنية أولاً و على ما يبهر المتلقي ثانياً، فهو على دراية تامة من دائرة الخلق و ما فيها من أهواء و إستيهامات فردية متقاربة من الوقائع حيناً و متباعدة في حين آخر، متقاربة من حداثته المزدهية و ما يديرها من جدل و إقتفاء فضاء المنجز للعيش في داخله، متباعدة من مسألة المعنى و ما تنتحله من إستعارات تستدعي مقاديراً من فضائح الراهن، فموسى يتجنب الإحتراق بنار الإستبداد و طبائعه، فيكشف المحن و المآزق و تلك المسافات و مفاجآتها التي تجعل من تحولاته مساراً لخطابه الذي يحرص عليه و على أطروحاته من الوقوع في براثن الممارسات التي قد تقوده إلى عزلة مهلكة و مبيدة للروح، فهو لا يكتفي في الإرتياد للحظة المكاشفة، بل يستدل على الخفي المستتر، و ينفذ إلى الأنفاس بموسيقاها، قاصداً غاية الرؤيا لبلوغ الظواهر المعنوية و الفنية معاً، فيكتوي بملامح التحولات و تعددها، و التي تغلب عليها ملاحقة العملية الإبداعية في جانبها التعبيري و التي قد يضمن له الإستمرارية التي تبقى قابلة للقراءة عبر الزمن .
محمد صالح موسى يسهب أحياناً في التفاصيل و يروي القصة كاملة، يسهب في السرد إلى حد القتل، يقتل منجزه كما يقتل متلقيه، و هذه سمة حملها معه من البدايات حين كانت لوحة المرحلة حينها 
 تسجيلية، و في أحيان أخرى و على نحو أخص في مراحله الأخيرة إلتجأ إلى التكثيف و الإختصار و إلى تقليم العمل من الزوائد والشوائب، و نلاحظ ذلك جلياً في أعماله الأخيرة، أقصد في مزجياته بين التجريد و التعبير و التي ستدفعه إلى التجريب و بالتالي إلى طرق جديدة و مختلفة، و على هذا المنوال على موسى أن يستمر حتى يكون بالشكل الذي يليق بماضيه و تاريخه، و ليس عليه الإلتفات إلى ماض لنسخه، بل لتحويله إلى زوادة الطريق، و هذه الإلتفاتة إلى الوراء قد تفعل فيه فعلها المباشر و تجره إلى الخلف و يتشبث كل منهما بالآخر و هذا ليس لصالح ريشته أبداً، و قد يقلص مفهوم المتخيل الإبداعي لديه و الذي يقلص بدوره المتعة الجمالية للمنجز و يلوث نكهته و قد يميت الدهشة تماماً، على تلك الإلتافة أن تكون منطلقاً نحو عوالم أخرى و جديدة، فموسى يملك كل مقولات الإنقلاب و الديمومة، كل مقومات الخروج من الدائرة، و الصعود بخطابه حتى يبلغ رحاب اللحظة و تشابكها، و هنا سيمضي في الترحال مع منجزه حتى يمتثل في شكل كل ما فيه يصغي إلى سفر الرؤى و التصورات، إلى سفر الإحتواء، في ضوئها تنكشف ملامح منجزه حتى تغدو نوعاً من تصريف اللون في تكوينات درامية معاصرة، يسري في ملامحها تفاصيل جديدة . 


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

غريب ملا زلال

شيخو مارس البورتريه وأتقن نقله، بل كاد يؤرخ به كسيرة ذاتية لأصحابه. لكن روح الفنان التي كانت تنبض فيه وتوقظه على امتداد الطريق، أيقظته أنه سيكون ضحية إذا اكتفى بذلك، ولن يكون أكثر من رسام جيد. هذه الروح دفعته للتمرد على نفسه، فأسرع إلى عبوات ألوانه ليفرغها على قماشه…

فواز عبدي

 

كانت شمس نوروز تنثر ضوءها على ربوع قرية “علي فرو”، تنبض الأرض بحياةٍ جديدة، ويغمر الناسَ فرحٌ وحنين لا يشبهان سواهما.

كنا مجموعة من الأصدقاء نتمشى بين الخُضرة التي تغسل الهضاب، نضحك، نغني، ونحتفل كما يليق بعيدٍ انتظرناه طويلاً… عيدٍ يعلن الربيع ويوقظ في ذاكرتنا مطرقة “كاوى” التي حطّمت الظلم، ورسمت لنا شمساً لا تغيب.

مررنا…

 

نارين عمر

 

” التّاريخ يعيد نفسه” مقولة لم تُطلق من عبث أو من فراغ، إنّما هي ملخّص ما يحمله البشر من مفاهيم وأفكار عبر الأزمان والعهود، ويطبّقونها بأساليب وطرق متباينة وإن كانت كلّها تلتقي في نقطة ارتكاز واحدة، فها نحن نعيش القرن الحالي الذي يفتخر البشر فيه بوصولهم إلى القمر ومحاولة معانقة نجوم وكواكب أخرى…

محمد إدريس*

 

في زمنٍ كانت فيه البنادق نادرة، والحناجر مشروخة بالغربة، وُلد غسان كنفاني ليمنح القضية الفلسطينية صوتًا لا يخبو، وقلمًا لا يُكسر. لم يكن مجرد كاتبٍ بارع، بل كان حاملَ راية، ومهندسَ وعي، ومفجّر أسئلةٍ ما زالت تتردد حتى اليوم:

“لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟”

المنفى الأول: من عكا إلى بيروت

وُلد غسان كنفاني في مدينة عكا عام…