كاروان كابان يُنْهض مشاهده البصرية لتروي عنه إنفعالاته

 غريب ملا زلال 

تعتبر مدينة السليمانية العاصمة الثقافة لكردستان العراق، فهي تضج يومياً بفعاليات ثقافية، من معارض و ندوات و أمسيات أدبية و … إلخ، و لهذا ليس غريباً أن تكون ولودة لقافلة طويلة من المبدعين في شتى مفارقهم، و لعل للفنانين التشكيليين حصة الأسد في ذلك، فهذه المدينة أنجبت بحراً من التشكيليين فيه تتلاطم أسماء كثيرة، نذكر منهم : رؤوف عمر حمة، كاميران قرداغي، سامان عثمان، روزكار كمال، بختيار سعيد، كوران توفيق، جلال بوسكاني، دارا أحمد، صالح النجار، لان نوري، شوان عاصي، نامق حمة، كوران أحمد، شيروان فاتح، نرمين مصطفى، سعيد إسماعيل، سامان أبو بكر، رستم عبدالعزيز، لمياء حسن، بختيار حلبجيي، و ليس آخرهم كاروان كابان الذي نحن بصدد قراءة تجربته في هذه المادة،
 كابان الوفي لمدينته، لناسها، لتاريخها، لتراثها حتى كاد أن يكون مؤرخاً لها، وعلى نحو أكثر تلك التي تسير في طريق الزوال، كابان محب لمفاتنها، مفاتن طبيعتها، شوارعها، أبنيتها، و على نحو أخص القديمة منها، فهو يعشقها لدرجة أنه في عام 2018 قدم معرضاً كاملاً عنها، إستوحاه من معالمها التاريخية و التراثية، من ملامحها و ملامح ناسها، ساعياً إلى توثيقها أولاً، إلى إبراز خصائصها الجمالية التي تبهر الروح و البصر ثانياً، فهو يدرك بأن الإلتصاق بروح المكان الذي تنفس و يتنفس فيه مع توفر تقنيات بين يديه ستسمح له بنقل المشاهد المرئية إلى لوحات مسطحة، و كأنه يعيد إنتاج المشهد البصري المرئي الخارجي بأشكال و ألوان تكسبه إستقلالية ما عن الخارج الذي قد لا يلتقي مع تصوراته تماماً، فالتقابل هنا بين المرئي و المرسوم قد يقتصر على بعض المفردات فقط على حين جوهر الأشياء يكاد يقتصر على ما يعتقده كابان، و ترجمة الواقع أو الحقيقة بلغة أخرى في مخيلته أقصد في مخيلة كابان فيه من التناغم ما يدفع عمله نحو إيجاد إيقاع جديد بروابط جديدة، و بتداخل جديد، كل ذلك يبعث على التخيل و على إيقاظ دلالات جديدة و إن كانت واضحة في أكثرها .
كاروان كابان يُنْهِض مشاهده البصرية لتروي عنه إنفعالاته، و لتقول عنه أقواله، و تنقل لحظاته حتى تختفي خلف شجرة تحكي سيرة إنسان عشق هنا، أو في ثقب باب يسرد سرّاً مرّ من هنا، أو بين ضفتي نهر عزف كثيراً حتى يكون، أو خلف جدران تفوح منها عبق الأجداد، و بذلك يزداد إقتراباً من طيب المدينة، و من الطريق الذي يؤدي إلى الحقل حتى يوغل فيه، و من الباب الحامل لكل ملامح الزمن، و بجهد عذب يحاول أن يجسد تلك الواقعية التي تنطلق منه كفرد لا من المكان، تلك الواقعية التي يقترب منها الفنان بلغته دون أن يكون ذلك تدخلاً في ترجمة تفاصيلها، و يكاد عمل كابان يسير على عدة محاور، الأمكنة و الطبيعة و البورتريه، و يرسل فيها جميعاً سحبه التي هي من مطر و ضوء، فخصوبتهما هي في النهاية تؤكد بأنهما يختلطان عند كابان مشكلان حالة من التنفس فوق القمم العالية و العارية، حالة من الحياة بين أزقة مدينة لامستها المطرقة و الكوفية و الصوت الذي بات موسيقا المنتمين لعمق القيم و المفاهيم السائدة آنذاك، و برؤية تحمل طعم السحر، يطوف كابان أولاً في تاريخ المدينة و يدون شموسها الدافئة، و قصاصاتها التي فصلت من محيطها يوماً ما، و على نار هادئة يضعها كوبان جميعاً، و ينصت طويلاً لإختلاطاتها الإنفعالية، و لوشوشاتها العفوية حتى يبلغ مزايا جديدة لحركة جديدة، فمع إختياره لموضوع معين و حتى يفقد صلته باللوحة يقود كوبان ألوانه المرتبطة بإنفعالاته المباشرة، و المتضمنة طاقاته الأولية، نحو إكتشافات، و تأملات يبعده عن صب اللون مباشرة على اللوحة، فهو شديد التمسك بالتفاصيل و بهندسة اللوحة حتى لا يفقد صلته بها، و حتى التعبير يكون أكثر إنهماكاً في التصوير، و حتى إيقاعاتها الحركية تكون أكثر حيوية في العزف، و زمنها الحقيقي يكون أكثر ثباتاً في الرؤيا . 
كابان يتعلق بالمكان حتى يتشح به تماماً، و بالتالي يتشح معه سردياته اللونية بمقاطعها التي تهتف بتجربته و هي تلج طريق النهار ببواباتها التي تروي لزوميات المدينة في عتباتها كلها، و لزومياته في وديان روحه كلها، حتى ملامح شخوصه لا تفلت من رؤى عوالمه الملحمية السحرية، فالعويل يحتاج إلى تراكمات كفيلة بأن تختلط مع لحظات أكثر نزفاً للوجع، و أبعد قولاً للحبكة، فهو يتمتم بريشته بتواتر تجعل من دوائر أعماله الإنطباعية منها و الواقعية التعبيرية أيضاً في حالة تداخل بين مظاهرها حيناً، و حيناً في حالة تحوير تثير شعوراً بالنشوة لدى المتلقي، يتمتم بألوانه بحس غير عابئ بفزع الغزلان و لا بتقافز الريح من فوق الصخور، و لا بآهة تخرج من قلب عاشقة تلتقط ضوءها من شرائح الطبيعة، و من الأغنيات الحزينة التي تنبثق من قساوة وجوه شخوصه، و من حزنهم النائم بين إدراكات بصرهم . 
لوحة كابان تسعى إلى التحرر و إن جزئياً، فروح الحركة فيها لا تموت فهي في نبض و يقظة مستمرتين، و هنا لن يكون صعباً علينا كمتلقين أن نلتقط منها مؤثراتها التي تكون في حالة تراجع أو تقدم تبعاً لضوء الحركة فيها، إن كانت في سكون أم في ضجيج، فالمقاطع اللونية الموسيقية فيها هي التي تبدل و تغير، هي التي تعطيها حركة و صوت، و في نطاق ذلك فكوبان يسعى إلى إتباع إتجاه تحمل إلى سطوحه تداخلات لونية قد تميزه بذلك، تداخلات لا تلجأ إلى الإختزال كثيراً بقدر تركيزه على حقل تصويري داخل تلك التداخلات أو بمعنى آخر داخل شبكة ملونة فيها تتحول التناغمات إلى تأملات تبعث بدورها على إختراق اللوحة و تكوين مشهد تصويري داخل مشهده هو .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

شيرين خليل خطيب

في أيِّ مجال إبداعي، أو أي حرفة تعتمد على الحس والموهبة، يظهر أشخاص يظنون أن بإمكانهم اقتحام هذا العالم لمجرد أنه يعجبهم أو أنهم يحلمون بالانتماء إليه. لكن الحقيقة المُرَّة التي مهما حاولنا تجميلها، هي أن بعض الطرق لا تُفتح لكل عابر، وأن بعض الفنون تحتاج إلى موهبة أصلية أو حد…

خالد بهلوي

اختُتمت الدورة الإلكترونية لتعليم كتابة سيناريو السينما الكردية، التي أُنجِزت بإشراف الدكتور جاسمي وزير سَرهَدي، البروفيسور في المسرح والسيناريو (الدراما الهوليوودية)، والمدرّس السابق في جامعة صلاح الدين في هولير، والحاصل على عدة جوائز دولية في كتابة السيناريو السينمائي.

قدّم الدكتور الدورة على مدى عشرة أسابيع، تناول فيها موضوع الدراماتورج وبنية القصة الدرامية، إضافة إلى محاور…

ا. د. قاسم المندلاوي

في هذه الحلقة نقدم للقارئ الكريم نبذة مختصرة عن فنانين آخرين، احدهم من غرب كوردستان، الفنان الشهيد يوسف جلبي، الذي تعرض الى ابشع اساليب الاضطهاد والتعذيب من قبل السلطات السورية الظالمة، وخاصة بعد سيطرة نظام البعث سدة الحكم عام 1966. فقد تعرض الكثير من المطربين والملحنين والشعراء الكورد في سوريا…

يسر موقع ولاتى مه أن يقدم إلى قرائه الأعزاء هذا العمل التوثيقي القيم بعنوان (رجال لم ينصفهم التاريخ)، الذي ساهم الكاتب : إسماعيل عمر لعلي (سمكو) وكتاب آخرين في تأليفه.

وسيقوم موقع ولاتى مه بالتنسيق مع الكاتب إسماعيل عمر لعلي (سمكو). بنشر الحلقات التي ساهم الكاتب (سمكو) بكتابتها من هذا العمل، تقديرا لجهوده في توثيق مسيرة مناضلين كورد أفذاذ لم ينالوا ما يستحقونه من إنصاف وتقدير…