إبراهيم محمود
في منتصف المسافة بين الظهر والعصر: الثلاثاء في 24-8/ 2021، وأنا على وشك الاستسلام لسلطان القيلولة الاضطراري بعد دوام جامعي مجهد، فوجئت برنّة واتْسابية، شبه مغمض العينين تمعنت فيها بوهن. جسمي ارتد إلى صحوته المضاعفة، في سؤال سريع بعد التحية من الصديق الكاتب صبحي حديدي من باريس، عما إذا كان نبأ وفاة محمد عفيف صحيحاً أم لا. لا أدري أين حل مقام سلطان النوم. قلت سريعاً مرتبكاً: سأتأكد.. سريعاً، ومضطرباً اتصلت تباعاً بالأصدقاء: ابراهيم يوسف، جان دوست، حسن مجيد، إدريس عمر، حين يبطىء الجواب.. قشعريرة خاصة تملكتني: الخبر… صحيح.. وهكذا أعلمت الصديق صبحي بذلك.. وبدأت بالاستفسار عما جرى من الصديق يوسف.. لقد بقي الراحل الكبير يومين، دون أن يعلَم بأمره أحد.. أو هكذا قيل لي.. أي كان رحيله الأبدي: الأحد في 22-8/ 2024 .
فاجأني الخبر، واستغربته، فقد أرسلت اليوم إلى أحد المواقع الالكترونية نصاً مترجماً حول جاك دريدا وكتابه: الحقيقة في الرسم، عبْر” أحذية فان غوخ ” وله صلة مباشرة بالحياة والموت، وتداعيات المشهد الفنية، ووجه العلاقة بين إرسال هذا المقال، رغم أنني اشتغلت عليه منذ أشهر ولم أرسله إلا اليوم، وهذا الرحيل الشديد الوطأة بأكثر من معنى، كما يقال !!!؟
لا لن أسامحك يا محمد عفيف الحسيني الشاعر، الكاتب، غرّيد عامودا الشعري، في هذا التوقيت الثقيل حيث البقاء يومين في ذمة موت لا يعرف سوى قانونه، ومسلَّماً من حياة لا حيلة لها بأمر قانون ما صار ويصير ..ألعلك كنت منغمراً بشهوة نص غرائبي من طراز عامودا الغرائبية وشاهدها شرمولا، وشارعك الشعبي المأهول والمنسوج بحكايات وخيالات لطالما أدمنتَه. أم هل هي لحظة غفلة ربما ما كنت تعلم أن ثمة نصوصاً لا تنتهي بمقدار ما تنهي مبدعها، لوحات لا تنفد بمقدار ما تُتَرك دون إكمال، ليكون في ذلك التعبير الحي والصادم عن فعل الفن بمبدعه،بفعل النص بفاعل إبداعه، وقد رهنت له روحك الحسينية .
ثقيل هو التفكير فيما سمعتُ وفيما حاولت تخيله، وفيما جاهدت في استرجاعه عن عقود من السنين بيننا. وأنا الذي أتنفس وئيد الروح، رغم استماتة إرادة متبقية، على تخوم عمر نزف الكثير من مضاء المأمول فيه. كما لو أن هاتيك السنين لم تكن شاهدة على جفاء ما، على قسوة قطيعة ما، على ظنون لا أظنها كانت تصمد على وقع ما كان بيننا قبل ذلك، بمقدار ما كانت مشددة على جغرافيا لا خطوط تماس فيها، ولا نقاط تفتيش نفسية ، ولا أنفاق نختبىء داخلها ونحن نرصد بعضنا بعضاً. ليس بين قامشلو وعامودا سوى الطريق الرئيس المعبَّأ بالهواء الطلق ووثبات قلوب تعيش وحدة حال، توأمتيْ أرض واحدة، جرح واحد، نفَس واحد، شهقة إبداع واحدة، رحابة حضن واحد، بشهادة ذاكرة المكان المشترك وأبعد: سليم بركات يا محمد عفيف الحسيني نسيب طرافة في الشعر، والخفة في الروح في الصميم .
قطيعة لا أعتقدها فصلت بيننا، إلا إذا اعتبرنا أن طريق عامودا- قامشو، ومتفرعاته ليس واحداً ميمنة وميسرة. لم يكن هناك يا صديق الكتابة المأخوذة بعالم الجنيات، وأحلام الكراكي، ونبيذ الزهور اليانعة، ووميض أجنحة الفراشات، سوى ما يعلم به أحدنا عن الآخر. ونحن خرّيجو الجرح الواحد، القلق الواحد، المبتغى الواحد، رغم تنوعه الفولكلوري. ونحن منتسبو العمر الواحد، والوجع المشترك الواحد، أكبر من أي نزق حالة، أو كرب لحيظة، وقاماتنا مشدودة إلى بعضها بعضاً. لا أظن أياً منا اضطر على مدار هذه القطيعة المحتسبة اضطر إلى أن يخفض رأسه ولو قليلاً، أن يرفع هامته ولو قليلاً، أن يمد يده له ولو قليلاً، أن ينظر ببعض جهد ولو قليلاً، إشعاراً بمكان الآخر ومكانته، حيث الظلان يرتسمان في دفق منشود روحي أبعد من حدود الكوردية الضيقة، والفئوية الضيقة، والشللية الضيقة. لم يكن أي منا بحاجة لأن يسقف على عين له بيده ليرى الآخر كما هو، أو يشنف بأذنيه ليصغي إلى وقار المعنى في حشاشة روح نظيره، تعزيزاً لتلك الخاصية المؤممة والتي يتكفل بديمومتها خط الأفق الصاعد بنا وبسوانا، بعيداً عن أي مَيل أو كيل جانبي .
أيها الطيوب الناعم بلحيته المشعة ذؤابات ضوء رغم وقدة نهاياتها، أعني الصديق الدقيق الرشيق للمعنى المشتهى، والمختلف، أي محمد عفيف الحسيني.. ليس سراً، ليس تواضعاً مزيفاً، ليس اعترافاً بما هو مخبأ، إن قلت، كنت محمد عفيف الذي رأيتك وكلمتك وشاركك الطعام والشراب، وأطايب القول في براري العناوين الطليقة، وأصداء صمت المكان، في رحاب كتب حملتها مكتبتك الوادعة حينها في عامودا، في غرفتك الطينية التي لم أنس مساحتها الصغير والواسعة بمتنها جداً، وكذلك الحال في بيتنا الطيني. نعم، نحن سلالة الطين والعجين، لهذا صادقتنا النار كثيراً وسريعاً في إنضاج الكثير مما نشدناه من خبز الكلام الآخر، ومشتهى الكتابة الأخرى، ولو أننا كنا في مقتبل عمر فوران روح الكتابة داخلنا.
لا لن أسامحك يا محمد عفيف الحسيني، وقد رحلت أبدياً فجأة، دون أي كلمة، دون التفاتة، دون إيماءة يد شلالية الأثر، دون حركة جانبية شجرية المشهد، تشغل الروح ببعض من أطيافها العميقة. لن أسامحك في رحيلك الثقيل هذا، إلا إذا استرجعت ولو جزءاً من ثانية، تنتمي إلى ” وقت ضائع ما ” لأسمعك صوت روحي، أنا إبراهيم محمود الذي تعرفه جيداً جداً، كما أعرفك جيداً جداً: لكم أتمنى احتضانك، بصمت طويل، بمقدار سنّي القطيعة بيننا، وتذرف أختا روحينا: عامودا وقامشلو دمعة فرح تتجمع في مؤق العين، عزاء لمَا كان، ولمن يبكيك الآن، ويرثيك بصوت موحد من أهليك ومحبيك ومعارفك وأهل الإبداع..
هل لروحك المضيافة ذات المدى الجزراوي الطليق أن تسمعني في أدق نبرات صوت وحشرجة روحي: أن تسامحني بعد الذي تقدَّم ؟