إبراهيم اليوسف
غرفة محمد عفيف حسيني:
أول ما لفت نظري، عند زيارتي الأولى لمنزل محمد عفيف حسيني، في عامودا، أن غرفته الصغيرة، في الجهة الشمالية الشرقية، من بيتهم الطيني. بالغِ التواضع، كانت جدرانها مزينة بلوحات ونصوص وصور الشعراء من بينهم: محمود درويش- ريتسوس- نيرودا وآخرون، وهو ما ذكرني بغرف قليلة من هذا الصنف. عرفتها، كما غرفة الفنان كانيوار الذي كان عضواً في الفرقة المسرحية التي أسستها في النصف الثاني من السبعينيات.
ورغم بساطة ذلك البيت إلا إنه كان جدّ لافت، ولربما إن مكتبة البيت التي بدأت بالنمو- إلى جانب مكتبة الوالد الشيخ- كانت مدججة بدواوين ومجموعات شعرية وقصصية و روايات ودراسات نقدية، كما مكتبات: إبراهيم محمود- عبدالسلام نعمان- جمعة جمعة- عبداللطيف عبدالله- أمير عبدالكريم التي عرفتها أو سأعرفها، فيما بعد، إلى جانب سواهم، لأؤسس مكتبتي، وأحاول تعليق صور بعض الشعراء في غياب الأب الذي كان يمنع تعليق الصور، إلى أن أشبَّ عن قيود البيت، وإن كنت قد تزوجت للتو، وأسبق هذا الرعيل في زواجي رغم أني أصغرهم.
دورة التواصل:
كلما عاد محمد عفيف حسيني من مهجره الاسكندنافي إلى الوطن فإنه كان يوزع وقته على أصدقائه ومقربيه، في آن، وكانت لأصدقائه في قامشلي حصتهم من بين ذلك الوقت- وأنا واحد منهم- من دون أن ينسى هدايا كل واحد منا، كما يخيل إلي، إذ خصني- في أول زيارة له إلى الوطن- بهدية رمزية جميلة. أتذكر أن هديتي كانت: دفتر ملاحظات في إطار معدني ذهبي اللون، مرفقاً بقلم من معدن الإطار ذاته، بقي الدفتر معي إلى وقت طويل، قبل أن أفقده. أضع فيه جدول ساعاتي التدريسية، ورؤوس أقلام لأجنداتي ومواعدي، رغم أن ذاكرتي كانت تسعفني في الاحتفاظ بالمواعد، من دون تلكؤ.
لم يزر محمد عفيف بلداً إلا وكان يتواصل مع مقرَّبيه وأنا واحد منهم- كما سواي- طالت زيارته أم قصرت. من بين ذلك زياراته للبنان. قبرص. المغرب، وحتى زيارته الأخيرة- ربما- إلى تونس، في بدايات حجر كورونا، إذ ظلَّ هو وصديقي سلام نعمان الذي كان يشاركه الرحلة يتواصلان، على امتداد أسابيع الحجر. ينقل إلي بعض تفاصيل يومياتهما التي ظلَّ يذكرني بها حتى قبل أسابيع:
هكذا كان صديقك!
ناقدي الأول/ صحفياً*:
صار محمد عفيف من عداد أصدقاء الأسرة. أصدقائي، وأتذكر، ذات مرة، أنني عدت إلى البيت في العام1986، ليعلمني أخوتي وأبي وصول مجموعتي الشعرية” للعشق للقبرات والمسافة” التي أرسل نسخها بعض أصدقائي في دمشق، وأن محمد عفيف كان قد زارهم، صحبة جميل داري وآخرين، وأخذ حصة شعراء ومهتمي عامودا، ولأقرأ على الصفحة الثقافية في- جريدة تشرين- بعد حوالي أسبوع، أول مراجعة نقدية للمجموعة. أول قراءة نقدية في عمر تجربتي، كلها، إذ حملت بعض النقد القاسي، ومما أذكره أنه أشار إلى أنني تسرعت في- طباعة مجموعتي- هذه، وإن سيشير في المقابل إلى جماليات ما فيها، لأظلَّ مديناً له، وإن أثير- آنذاك- نقاش بين الأصدقاء: لقد كان نقده أيضاً متسرعاً، بل إنه أنصفه، إلى ما هنالك من آراء، بينما كنت سعيداً بتلك القراءة التي كسر سقف تقويمها الأعلى عدد من الأصدقاء، في تلك الجريدة ذاتها، أو غيرها، مركزين على ما فيها من نقاط مضيئة، إلى جانب من حرض ضدها، لتكون هناك مقالة أو مقالتين، كنتاج لهذا التحريض، كما كنت أقوم الأمر- آنذاك- وكما أعلمني بعض من وقعوا في الفخ.
محمد عفيف مسؤولاً:
اشتغل محمد عفيف في مجال النشر، إذ أصدر حوالي ستة عشر عدداً من مجلته الفصلية “حجلنامه”، كما عمل في تحرير وإدارة أوائل المواقع الثقافية الإلكترونية: تيريج- جهة الشعر…… ، وكان يتواصل- باستمرار- مع أصدقائه من كتاب ومبدعين، للمشاركة في المنابر التي يشرف عليها، أو يساعد فيها، كما إنه ساهم في إعداد ملفات عديدة في “بريد الشام”، أو” الحركة الشعرية”، للأصوات الكردية، يختار بدقة ما يصله من كتابات، من دون أن يساوم على ذائقته، من خلال جرأته في إبداء رأيه التقويمي، وهو المتمتع بخبرة، وذائقة، وموهبة، ورصيد ثقافي يخوله لهذه المهمة.
صاحب الموقف:
في العام2006، عندما تعرَّضت لضغط أمني، وداهمت دورية أمنية منزلي، واقتدت للتحقيق، وظللت أكثر من أسبوعين في دمشق، خاضعاً للتحقيق منذ الصباح وحتى وقت متأخر من الليل. كتبت منظمة داد بياناً، في ذلك، وانهالت عشرات رسائل التضامن. أكثر هذه الرسائل: واحدة من الراحل دانا جلال، والأخرى من محمد عفيف. قال كل منهما: سنقيم المظاهرات أمام السفارات السورية، في أوربا..إلخ، وغير ذلك، ما سجلته لهذين الصديقين، من ضمن جملة رسائل الأصدقاء والمحبين.
في مزاج الشاعر “الرائق” الحاد: شاعر لا يشبه أحداً:
رغم سعة دائرة معارف و أصدقاء محمد، إلا إنه كان- انتقائياً- في صداقاته، إذ ثمَّة مجموعة من الأصدقاء الكتاب والفنانين كانوا الأقرب من بين أصدقائه إليه، سواء داخل مدينته، أو في منطقة الجزيرة، أو في البلاد عامة. ظلَّ وفياً للعديد من تلك الصداقات، حتى وإن قدح مزاجه- في سنواته الأخيرة- عن شرارة ردة فعل، فلجأ إلى عقوباته- في إطار مضافته الفيسبوكية- نتيجة خلاف ولو عابر، أو حقيقي، إلا إنه سريع التراجع عن ذلك – مع بعضهم- فقد حدث أن اختلفنا حول تقويم بعض الموقعين على بيان تضامني، في العام2017، إذ قال:
أنت تقول إن البيان للكتاب والصحفيين، فكم واحداً من هؤلاء يحمل هاتين الصفتين، بجدارة؟!
هل عندنا كذا “مثقفاً”؟
ثم بالغ في- نزقه- وردة فعله، وراح يواجهني بروح الحرص:
تفرغ لكتاباتك! دع السياسة! دع حقوق الإنسان لسواك! وهو ماقاله- وإن بشكل مخفف- في لقاء تم بيننا في العام2019، وهو آخر لقاء، إذ كان غيوراً على- الشعر- والسرد الرفيع، يدفع للكتابة ضمن إطاريهما، من دون سواهما، بينما أنصرف إلى مجالات عديدة. هاجسي: الدفاع ما استطعت عن المظلوم أنى تأكدت من ذلك!
القلب الأبيض:
ما إن علم في العام2019 أنني قد وصلت السويد، للمشاركة في أمسية أدبية، حتى هتف لصديقي الذي استقبلني، توجها إلى بيتي، حالاً، ثم طلب منه أن يحدثني في مكالمته هذه قائلاً: لقد دعوت الأصدقاء أحمد شيخي وإبراهيم زورو و عمر منجو و آخرين، لنسهر الليلة. شكرته، وقلت: مؤكد سأزورك، وباتت مكالماته تتواصل لنوره، ففعلنا ذلك، لنسهر معاً، وكان ذلك، لأودعه، في آخر السهرة، ونظل نتواصل هاتفياً- حتى من دون أن نكون صديقي فيسبوك- يطلب ما أصدره من كتب. يرسل إلي كتبه. يحدثني عن أصدقاء مشتركين سجل عليهم ملاحظاته، من دون أن يتخذ الموقف الحقيقي من بعضهم، حتى وإن حكم على بروفايلاتهم في أقبية سجونه، أو أدغال منافيه، ومن هؤلاء: خليل عبدالقادر الذي كان لما يربطنا من وشائج: محامي دفاعي، في مواجهته، بلا مساومة.
في الأيام الأخيرة، قبل رحيله قال لي:
طلبت مجموعة من نسخ أعمالي الشعرية وسأرسل نسخة منها إلى إبراهيم محمود، فمن يوصلها إليه؟
ليلة من العمر:
جهدت في تلك الليلة ألا أخوض أي نقاش في الأدب والسياسة مع محمد، لأنني أعرف مدى حساسيته، وتشبثه برأيه، واستعاد ملاحظاته التي طالما كان يقولها لي: عليك أن تتفرغ للإبداع، ولم أناقشه إلا في جزئيات بسيطة، لاسيما مع استمرار ساعات السهرة، التي قلنا فيها الكثير:
ها أنت تناقش الصديق أبا هوزان في السياسة!
ثم نضحك، ونودعه، وقد كان يصر أن أنام تلك الليلة، في شقته، بينما كان في انتظارنا بعض الأعمال، في بيت مضيفي الشاعر كيفهات أسعد، على أمل أن نلتقي في ألمانيا، أو السويد، من دون أن يتحقق لنا ذلك.
*باعتبار أنه كان هناك نقاد شفاهيون.
يتبع……