محمد عفيف حسيني في عشائه الأخير (3)

إبراهيم اليوسف
ووري الثرى، ظهر اليوم*، الشاعر الكبير محمد عفيف حسيني، في إحدى مقابر يوتوبوري. آخر محطات هجرته إلى السويد. حيث يقيم هناك أبناؤه. بناته. رفيقة دربه، بعد أن توقف قلبه المتعب، الطافح تفاؤلاً في شقته في مدينة” فاكشتا  ” السويدية، التي كانت آخر محطات هجرته التي بدأت بمملكة السويد وانتهت بها، وكان أحد أكثر شعراء جيله: كرداً وسوريين، ولعاً بالترحال، إلى الدرجة التي كان قلبه وطنه، بعد أن بتر حبل سرته في- عامودا- واضطرَّ للهجرة، إثر محاربته في لقمته، فلم يُقبل في سلك التدريس، وهو الذي يحمل- إجازة في الأدب العربي- وكانت تهمته اقتراف أو ارتكاب: الشعر. الشعر وحده،
 بالإضافة إلى انتسابه إلى: الحزب الشيوعي السوري، في بدايات شبابه وإلى ما بعد المؤتمرالانقسامي1986، قبل سفره، ليترك الحزب،ويكتفي بمرتبته: الشاعر الأديب. الأكبر من كل انتماء حزبوي ضيق، في الوقت الذي كان يتمُّ قبول كثيرين ممن يناضلون ضمن صفوف هذه الأحزاب أو تلك، في سلك التربية، أو في وظائف أخرى، ومنهم من شغل أو يشغل مراكز مرموقة، وفي هذا ما يدلُّ على أن شعرَ الرجل وشيوعيته التي أدار الظهر لجانبها التنظيمي كانا جد” خطيرين” على النظام المستبد وفي رأس قائمة أعدائه!. أقول أدار الظهر لجانبها التنظيمي لأنه يكتب على” طيّة” الغلاف الداخلي الأول، ضمن سيرته أنه: شيوعي، إلا إنه من هؤلاء الشيوعيين الحقيقيين الذين زاوجوا بين قوميتهم وإنسانيتهم.
محمد، كان صاحب موقف، لم يرتم في حبال مساومات تتعلق بقيمه ومبادئه تجاه آلة النظام، إذ كان في إمكانه وبحكم ورقة رصيد، مستحوذة، أو متوارثة، غير مفعَّلة، من لدنه، أن يلجأ إلى- فضيلة الصمت- ويتدبر أمره، فقد كان شريكي كما الآلاف من الكرد غير المقبولين في مسابقات” انتقاء” المدرسين، ولمرات، بينما كانت منطقة الجزيرة في حاجة إلى المدرسين والمعلمين، المستقدمين، من الساحل والداخل، حتى وإن لم يكونوا مجازين، أو مؤهلين، ولقد ظلَّ صاحب موقف حتى بعد سنوات من بدء ثورة السوريين، إذ انحاز لها، وكان يتباهى في اتصالاته معي، وأنا في الإمارات، بشقيقه: الشاعر عبداللطيف الذي كان يعمل ضمن  إحدى التنسيقيات أو رابطها الجامع:
لقد عملوا كذا في عامودا
عبداللطيف مطلوب
عبداللطيف لم ينم في بيته
هناك خطر على حياته إلخ
الشجاعة والحب:
هذا ما يمكنني أن أقوله، كشهادة في محمد الذي اختلفنا في حب الشعر، وكان لكل منا ما يسجله على الآخر، سواء أبتعدنا أم اختلفنا، وكل بطريقته، وإن كان من شأن- الجفوة- أن تخلق ردة فعل هنا أو هناك، وهكذا فيما يتعلق بشؤون- الكار- التي ربما رافقت البدايات، أو في بعض محطات الطريق، من جهته، ليتجاوزها، هو الآخر، في حالة علاقتنا، بقلب شاعر، وروح شاعرة، وضمير شاعر، إذ طالبني- وهو يهمُّ بجمع أعماله الشعرية قائلاً:
هيَّا اجمعْ أعمالك ودع لي حرية تنسيق النصوص وحذف بعضها!
وكرِّر هذه الدعوة، فيما بعد بخط يده، حتى في  نص إهداء نسخة من أعماله الشعرية إلي، والتي أرسلت مرتين، بوساطة صديقنا المشترك كيفهات أسعد، نتيجة خلل في العنوان، عزَّاه إلي، وصححه، في الإرسالية الثانية، قائلاً:
الصديق الشاعر إبراهيم اليوسف،
عسى أن نجد لك مطبوعاً بأعمالك الشعرية. وشكراً.
محمد عفيف
السويد
2022
وكان قد كتب في إهدائه نسخة من” بهارات هندو- أوربية 2020
الصديق إبراهيم يوسف
الصديق القديم والحديث و ما بعد الحداثة
المحبة
محمد عفيف الحسيني
السويد
2020
لو في نسخة إهدائه من كتابه” كولسن” كتب:
إلى برهوم
القديم
الحب
محمد
2018
بينما بقيت الكتب المهداة إليَّ، وأنا في الوطن، ضمن مكتبتي- السجينة- وأرشيفي، المحاصر.
ورغم ما واكب محطة جفاء عابرة، مررنا بها، وأشرت إليها، إلا إن محمداً كان من عداد أكثر من وقفوا معي، عندما تم التضييق علي من قبل نظام دمشق، وكانت رسائله إلي في أوج سطوة النظام الدكتاتور- شجاعة- ممتلئة بالحب، والوفاء، اللذين أعد كل ما سواهما- مع حالته- عابراً. إنها روح- المسامحة- التي تجلت معي، وإن كان لاستيعابي للآخر- أياً كان- دورٌ في ذلك، ويغدو هذا الرباط ناجعاً أمام من يلتزمان بما بينهما من قواسم مشتركة، كما أفعل ذلك، أنا الآخر، مع كل مختلف معي، لطالما ظلَّ في حدود التباين في الرأي، وحتى ما هو محتمل ضمن نطاق ردود الفعل الشخصية. إنه درس علينا معاشر ممتهني- الكتابة- أن نستفيد منه، أنَّى كنا، وهذا لا يعني الارتهان للمهانات المغرضة التي يجب أن تعالج في وقتها، دون أن تأخذ مساحة ما من حيواتنا، وهو ما أخال محمداً قد التزم به، في حدود معرفتي به، أو على ضوء ما صرَّح لي به بخصوص بعض العلاقات المضطربة التي يزجُّ أو يمرُّ أحدُنا بهاً، متطوعاً أو مكرهاً!
لقد أردت أن أرجىء هذه الحلقة من ثلاثية رثاء الحسيني، إلى ما بعد موارة جثمانه التراب الغريب، وإن كانت الكتابة عنه، فعلاً صعباً، عليَّ، إلا إنني من هؤلاء الذين لا ينسون من صافحوه يوماً بحب، أحياء كانوا أو راحلين، 
نبوءة الشيخ الشاعر:
بات تواصلنا: محمد وأنا مستمراً، لاسيما في السنتين الأخيرتين، عبر الهاتف، أو في رسائل صوتية. أعرف أنني قصرت بحقه، في أكثر من نقطة، إلا إن لذلك مسوغاته، التي كان يعرفها، ويتابعها عن كثب، ولاتزال تدوي في أذني عبارته: أسرع في جمع أعمالك الشعرية، سيأتي وقت وأنشغل، ولا أستطيع قراءة وتنسيق وإعداد نصوصك، لاسيما وإنني أجريت عملية جراحية لإحدى عيني وسأجري عملية مماثلة للأخرى. لقد عانيت من- الماء الأبيض- في كلتا عيني.
حدثني في العام2020 عن إعداده لأعماله الشعرية، و راح يرفع وتيرة الاشتغال عليها في العام 2021، ليقدِّمها للطباعة في العام2022، في دار نشر “هن” التي خبرها من قبل أثناء طباعة- بهارات هندو- أوربية”2020، وتوسط لطباعة عدد من كتب مقربيه عن طريقها، وراح يذكرني بين وقت وآخر:
لابدَّ من إعداد نصوص دواوينك
كن قوياً في مواجهتها بل دع المهمة لي!
إليك إيميل” حجلنامه” وأرسل إلي الملف عبره
وتحت إلحاحه الشديد، بدأت خلال الأسابيع الأخيرة السابقة على توقف قلبه عن النبض أعدُّ ما بين يدي من مجموعات، لأقول له:  ثمة ما هو ضائع
ولولاك يا محمد لما كان ديوان- الإدكارات- منضداً، إذ نضدته لأجلك بعد سنوات العام2000 حين نشرت نصوصه- أكثر نصوص الديوان- في موقع- تيريج- واستطعت أن أحصل على نسخة ورقية منها عن طريق الناقد د. دريد يحي الخواجة المقيم في أمريكا، عندما زار السعودية حيث هناك كريمته وقد قال لي من هناك:
إبراهيم في حقيبتي بعض الكتب القليلة التي أحملها منها الإدكارات
فطلبت منه أن يعد لي نسخة” فوتوكوبي” عنها، وهو ما فعله، ليرسلها إلي صديقي د. عبدالرحمن أسعد بك، في رسالة مضمونة، ولولا ذلك لضاعت النسخة. ضاع الديوان كاملاً، كما سواه، إذ عاد صديقي د. الخواجة” أبو مرهف” إلى حمص وتكاتبنا عبر الواتس، ليتوقف قلبه، ويدفن في مسقط رأسه!
سمك و”شراب” ونوم
محمد عفيف في ساعاته الأخيرة:
في يوم الثاني والعشرين من شهر آب الماضي، تواصلت والشيخ محمد- وبيننا رسائل صوتية على هاتفينا- طلب مني أكثر من مطلب: منها لتنشر غداً على موقع ولاتي مه…. كذا
انهِ إعداد أعمالك
أرسلت إليه رسالة جوابية، واعداً إياه، أن ما طلبه سيكون غداً على موقع” ولاتي مه”” من دون أن أعلم أننا نتحدث عن” نعوته” وأنني سأكتب نعوته في اليوم التالي نفسه والموقع نفسه”، كما و وعدته أن أرسل له صباحاً- ملف وورد الأعمال الشعرية- وقد سهرت، تلك الليلة، لأنجز المطلبين- وكان هناك اتفاق على أكثر من أمر آخر مرجأ- ومن بين آخر ما قاله لي تلك الليلة:
ها أنا الآن”  …..                  ” سأنهض وأعد وجبة سمك. السمك جاهز في الثلاجة يلزمه بعض الإعداد. ثم قال:
بيتي نظيف يا إبراهيم أنا أعنى به
سآكل و”……..” وأنام جووووز!
ثمة زيارة”      …….                    “
وكانت هناك زيارة سابقة قبلها…..  
كما قال قبل ذلك، عندما أعلمني قبل ثلاثة أيام- ربما- الليلة لم يزرني أحد، ليقول في اليوم الثاني:
لقد زارني الأغا- أي كيفهات- وابنه آلان.
أومض الواتس، في تلك الليلة في تمام التاسعة واثنتين وثلاثين دقيقة، عبر إشارة ورود رسالة، أحاول إغفال أمثال هذه الخاصية- عادة- أثناء العمل، أو النوم، إلا إنني مددت يدي إلى هاتفي، لأجد أن رسالتين صوتيتين، وردتا منه. استمعت إليهما، فإذ بهما موجهتين إلى خال له: أبناؤه على طريق السفر، يكلِّم خاله عن مشاغله في الكتابة والترجمة، فرددت عليه برسالة:
شيخ! الرسالتان وصلتا إلي سهواً. أعدْ إرسالهما لصاحبيهما
استمع  محمد عفيف إلى رسالتي، إلا إنه لم يرد علي.  رننت له في اليوم التالي 23-8-2022، لأعلمه بإنجازي المطلبين الرئيسين، وكلي أمل أنه سينسق أعمالي، ويدفعها للطباعة، إلا إنه لم يرد، وهكذا في اليوم الآخر، لتتم مراسلتي من قبل الصديقين خليل كرو وكيفهات وغيرهما في صباح يوم24-8-2022 أن أبا رودي قد توفي، لكن لا تعلم أحداً. تأخرت في الإطلاع على بريدي، ويبدو أن كيفهات نشر الخبر بعد ساعة أو ساعتين من إعلامي، وما إن اتصلت به حتى قال لي وهو يخفي بكاءه:
الخبر صحيح، للأسف. والجهات السويدية المعنية في بيته ليتأكدوا من أسباب الوفاة!
2-9-2022
يتبع ولكن على نحو آخر…..

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…