إبراهيم اليوسف
لم أدر أن اللقاء الذي تم بيني والفنان صلاح رسول”1950-2021″، في محطة قطارات إيسن في عصر يوم 16 أكتوبر2021، سيكون الأخير. التقينا، كان جد متعب، كما لم أره على هذا الحال، من قبل، وكانت هناك صديقة قد سبقتنا الاثنين. التقطنا صوراً، والتقطت هي لنا صوراً أخرى، عبر عدسة هاتفها:
إلى أين أنت ذاهب؟
إلى بوخم
وأنت إلى أين؟
أستعد للذهاب إلى” مندن” ومن ثم إلى” هانوفر” و “برلين” حيث كانت” برلين” المحطة الأخيرة في رحلة ومخطط- ورشتنا- للقاء الرسمي هناك ببعض مندوبي البرلمان الألماني، السابقين، ضمن جدول برنامج العمل، والذي يتزامن مع اليوم الأول من بدء الدورة الجديدة في 26-10-2021″ وسأستغرق أياماً، ولن أحضر مهرجان الشعر. كل شيء على ما يرام، من أجل تكريمك!
سأحاول الحضور، إلا إنني كنت في المشفى، ولعله مشفى: إيسن. الآن أتوجه إلى بوخم للقاء ب” محمود خطيب”. سأدخل مشفى آخر، عن طريقه. ثمة بقعة، بحجم الليرة، و بلون متفحم، ظهرت في صدري، عبر التصوير الشعاعي. بسبب السعال أنا من اكتشفت مرضي. راجعت قبلها الطبيب لم يكتشف ذلك. طبيب كردي يقيم في بلد اشتراكي- ما عدت أذكر اسمه والبلد- اتصل بي وهون علي الأمر. قال: لا تقلق، ستتم المعالجة. أنا متفائل. عمري الآن إحدى سبعون سنة. لقد عشت بما فيه الكفاية. رأيت الكثير. رأيت كل شيء. أنا مؤمن بالله. مؤمن بالقضاء والقدر.
لقد بدا لي شجاعاً. جد قوي، وهو يلمح إلى الموت، ما دفعني لمقاطعته، قائلاً له:
أنت قوي البنية. ستعيش طويلاً، وتحقق ما تخطط له. لا أريدك أن تتكلم هكذا
لفتت نظري عبارته الأخيرة، عن إيمانه بالله، والقضاء والقدر، وهو ما وجدته يخوض الحديث في فلكه، لأول مرة. حقيقة لقاءاتنا في الوطن كانت رسمية وجد قليلة، و قد كان من بينها أن اختلفنا ذات مرة في النقاش وهو يقف إلى جانب صديق له دعا مجموعة كتاب و أنا وهو من بينهم، بينما واجهت المضيف، في مطعم نادي الجهاد في ساحة الملعب البلدي في قامشلي. كان قادماً للتو من ألمانيا، ولربما للمرة الأولى. بعد أن غادر الوطن في العام 1989. قبلها التقينا لقاءات خاصة قليلة عن طريق أصدقاء مشتركين منهم: أسعد حندو، محمد أمين جاجان. وقد زرنا معاً هذا الأخير في بيته في فوبرتال، في إحدى المناسبات.
كان آخر لقاء بيني وأبي روجين في الوطن عندما مرَّ بمحنة وحاولنا التخفيف عليه من هول تلك الصدمة. كان يعجبني فيه- خارج الفن- ثقته الكبيرة بذاته. جسارته الاجتماعية، والتي كانت وليدة ونتاج ظروف عديدة من بينها بيئته. ثقافته. جمهوره الذي قد لم أكن من بينه، باعتباري لم أكن من المتحمسين لأجواء الأعراس الصاخبة، إلا مكرهاً، بل كنت أؤثر أغانيه القومية، وموقفه الرجولي. موسيقاه.
أتيح لنا في إيسن أن نتواصل، فقد كانت المسافة بين بيتينا مجرد مواقف باصات قليلة، أو آلاف الخطوات. لقد حرصنا على اللقاء. زاراني مرات عديدة في البيت مع آخرين من بينهم زوجته، أو وحده. وكانت زياراته وحده الأكثر. يزورني إن يكن لديه مشروع جديد، أو حين يكون في حالة نفسية سيئة، فهو سريع الانفعال، إلا إنه مر في محن عديدة. بدءاً من ملاحقة أجهزة النظام له، وليس انتهاء بما كان يوصله إليه قلبه العاشق. إنه قلب طفل. قلب شاب في مقتبل الحياة. خلال إحدى المرات التي زارني فيها قال:
سأطلق مجموعة أغان قومية ووطنية إلخ صيغت في إطار ملحمي
اتصلت بي زميلتنا جالا عنز وأكرم رسول وهما من المجلس الوطني في أوربا- لربما كان ذلك في العام2016- وقالا:
لقد قررنا تكريم صلاح رسول في نوروز
ولعل سبب اتصالهما بي لأن الفنانين الذين تولوا إدارة حفلهم في السنة السابقة نسوه أو تناسوه، أو لم يخطر في بالهم أن رغبة المشاركة، لديه، كفنان، في هكذا احتفاليات، لما تزل قائمة، وعندما تدخلت كصديق لهذه لأطراف جميعاً، هو واللجنة والجهة الراعية، تم الرد علي من قبل أحدهم:
ما الذي ذكره بالمشاركة وقد أعلن أنه اعتزل الفن في حفل أقيم له؟
بعد لأي وجهود تفهم أحد الأصدقاء الفنانين المشرفين، وقال:
سنعطيه ربع ساعة من الزمن- وهو كاف كما رأيت- على أن يكون ضيف شرف في الحفل
أعجبني هذا الحل، وكان علي أن أقنعه بأن اعتباره- ضيف شرف- هو تكريم له، لا غير ذلك، وكان ذلك.
كان أمر تكريمه من قبل الممثلية مقرراً، في السنة التالية، كما أكدوا لي وأعلمته، بل وتواصلوا معه فيما بعد، إلا إنه كان قد ارتبط باحتفالية نوروزية في- الشرقية- بإدارة معصوم أومري الذي دأب على المشاركة في- الاحتفالات التي يقيمها الرجل- على نفقته الخاصة، ومجاناً، وهو ما يسجل لهذا الأخير!
قال لي في اللقاء الأخير في محطة إيسن:
سأحاول حضور مهرجان الشعر الكردي الذي سيتم فيه تكريمي. أرسلت له صورة عن شهادة التكريم، رد علي، عشية وفاته، بعبارة مقتضبة، وأنا في برلين، وقد أعلمني الصديق هجار بوتاني- مؤخراً- بأنه قد سلمها لإحدى كريماته، في وقت متأخر، لأن من كلفهم باستلامها عنه، وهو على سرير المرض لم يتمكنوا من الحضور، نظراً لارتباكهم وانشغالهم بحالته!
حدثته طويلاً عن ضرورة ترتيب أرشيفه، فقال لي:
بعضه هنا وبعضه في الوطن
سأفعل كل شيء بعد إصدار ألبوماتي
وكنت كلما طالبته بجمع أرشيفه رد علي:
إلى أن تصدر الألبومات!
كان أبو روجين، من المواظبين على حضور أنشطة الاتحاد العام للكتاب والصحفيين، وعندما انقطع عن حضور الندوات القليلة التي كنا نقيمها في فترة- كورونا- حدث أن دعوته إلى سهرة مسائية في مقر جمعية هيلين، لوداع الفنان بهاء شيخو، إلى الوطن. جاء وبرفقته صديقه- برجس- الرياضي، القادم من مملكة السويد. أحد أوائل المعنيين بالفن عبر إحدى الفرق الفنية الأولى. كان جد حزين. متذمراً، بل غاضباً، وهوما لاحظه من كانوا في تلك السهرة. اقتربت منه وأنا أسأله عن السبب، فقال لي:
ستسمع قريباً ما جرى لي. ثمة مصيبة!
ولذلك فأنا انقطعت، ولم أكن أحمل هاتفي و لم أر دعواتك واتصالاتك. قلقت عليه، وطال انقطاعه أسابيع، وأشهر، قبل أن ألتقيه، لأعرف داعي انزعاجه. قلت له أمام جميعهم:
لطالما ندعوك لإجراء لقاء/ توثيقي معك عن تجربتك. محطات تاريخك. بداياتك الفنية. حتى تجربتك مع الرياضة. انتقالك إلى أوربا. فنك. الشعراء الذين غنيت لهم. واقع أرشيفك، ثم قلت: لايزال د. سيف داود على وعده، سيكون هو محاورك- وكان بيننا وتواعدا هناك أمام الحضور- واتفقنا، إلا إنه راح يسوف اللقاء. ذات مرة قال لي:
ذاكرتي قوية، إلا إن صوتي تراجع، بسبب حنجرتي، وهو ما يجعلني أتردد أمام أية مشاركة
قلت له: صوتك لما يزل يتمتع بقوته وننتظر منك مواصلة تجربتك فأوعد، وأنجز بعض ما تم الاتفاق عليه، ضمن دائرة قناعاته، وفكره، ورؤيته!
لاتزال قوياً..قلت له
ابتسم وقال:
ثمة حب جديد وأنثى سأقترن بها!
حقيقة لم أكن أعرف ما جرى له، إلا بعد وفاته، إذ علمت لم ناست روحه بين: الخيبة والحلم، كما لاحظت خلال تواصلنا أو لقاءاتنا الأخيرة، القليلة، ولطالما كلمني بحسرة عن أمرين:
أحدهما:
إحدى تجارب حبه، وهو يستدرك ارتجال بعض أغانيه عندما تكون هناك فتاة فوق سطح أحد المنازل المطلة على ساحة العرس الذي يغني فيه. أغنيتي الفلانية ارتجلتها بكلماتها وموسيقاها وألحانها في حضرتها!
ثانيهما:
قصيدة الملا نوري هساري عن البارزاني الخالد التي سلمه نسختها الوحيدة، ليلة سفره، وافتقدها، ولعله يعثر عليها في الوطن
لم لم تستنسخها؟
لم يكن يخطر في بالي أني سأضيع هذه القصيدة!
زارني في الفندق الذي كنا نقيم فيه في برلين سيامند حاجو وحسن مشكيني، ليلة عودتي إلى إيسن، بعد أن علما أنني في برلين عن طريق صديق لسيامند. اقترحا أن أبقى يوماً آخر- وكنت قد بقيت يوماً إضافياً من قبل- فاعتذرت وقلت لهما:
صلاح رسول مريض في أحد المستشفيات سأعود لألتقيه
في طريق العودة إلى إيسن في يوم27-10-2021، عبر القطار تلقيت النبأ الأليم. صغت تعزية باسم الاتحاد، لأحضر مجلس عزائه، في اليوم التالي، على أن نقيم ذكراه السنوية الأولى كما تعرف أسرته التي ننتظر موافقتها، وتحديدها الموعد، وقد تأخر ذلك، في انتظار تنفيذ المقترح، بعد عودتي من-برلين- التي سأمكث فيها أياماً، في زيارة عمل مختلفة عن زيارة العام الماضي، إلى أن تتجاوز أسرته الظرف الذي دعاها إلى التأجيل!
هامش:
فيما يلي أحد- المنشورات- التي كتبتها عن الفنان صلاح رسول أثناء حياته:
9-مايو2016
صلاح رسول يطلق أغاني الغزل*
صلاح رسول، فناننا الكبير، وابن مدينتنا الأبية: قامشلو أحد الذين ما إن ألتقهم تحضر مدينتنا هذه برائحة الحي الغربي والهلالية والكورنيش والعنترية وقناة السويس وغيرها بل كل مدن الجزيرة، كل عفرين وكوباني، والوطن.. مضت سنوات كثيرة على غيابه عن مدينته التي يحمل رسالتها، دون أن يتخلى عنها، يحدثني خلال زيارته لنا اليوم عن ملا نوري هساري وملا أحمدي بالو. قصيدة ملا نوري عن الخالد البرزاني التي أعطاه إياها بخط يده ليلة وداعه، لكنها ضاعت، أسأله عن مشروعه الذي حدثني عنه قبل أشهر يسمعني بعض قصائدها: ملحمة انتفاضة آذار- البيشمركة- البرزاني الخالد إلخ، ويبدو أنه ودع أغزاله، ورهن مشروعه الجديدة لما هو ملتزم، لماهوقومي، لماهو وطني، لما هو إنساني، وإن كان كل ذلك في تراثه الفني….
يقول: أنا أكثر من غنى لكبار الشعراء الكرد فقد غنيت تسعين قصيدة لجكرخوين بالإضافة إلى قصائد الشيخ عبدالرحيم الخزنوي “وهو ما لايعرفه أحد” وكسرى “شفبرين” ومحمد صالح عزت “درست” وموسى زاخراني و المرحوم محمد أمين “ابن قدوربك” وعمر ونعمان صالح العلي وآخرين، ويضيف: هناك شعراء لم يعرفوا للآن سأصرح قريباً بأسمائهم جميعاً.
مؤكد، أن الخبر غير سار بالنسبة إلى العشاق الذين طالما أطربتهم أغانيه، وانتظمت على دقاتها قلوبهم
صلاح رسول: هل سنعود ونسمعك، هناك، ويهدر صوتك إلينا في أصياف قامشلوكما كنت وكنا
*من صفحتي الشخصية على فيسبوك