إبراهيم محمود
كل قراءة محكومة بتاريخ معين. تلك بداهة. لكن قراءة التاريخ منزوعة العذرية، وهنا يكمن وجه الخطورة في التعامل مع نص مقروء تاريخياً، جهة المدوَّن فيه وباسمه. وهنا تكمن مغامرة القراءة هذه مضاعفة جهة التحدي. حيث إن كل قراءة تلفت نظرنا إلى أمس ما ، قد يكون غابراً ” بعيداً ” وربما يكون شديد القرب منا إلى درجة صعوبة النظر فيه، نظراً لأن المقروء فيه ثلاثيُّ الأبعاد كما لو أنه يرفض تسمية نفسه تاريخاً ينتمي إلى الماضي، لأنه ساري المفعول بأحداثه، لأن أمواته، ضحاياه، مآسيه تبقي الحاضر في وضعية حِداد، أو لأن القارىء يعيش هذا الحدث متشعباً.
إنها قراءة لا تنفي اعترافاً بقوة المدوَّن التاريخي، بالعكس، في قرارة نفسه، يؤكده، كما هو جانب تشديده على ما يقرأ وانشغاله به، طالما أن المكتوب تاريخاً لا ينحصر طي غلافه، بمقدار ما يسمّي قراء معينين، من باب التقدير، لتكون القراءة إبقاء المقروء في وضعية اليقظة والاستجواب والمساءلة والحوار، وتكون عملية الكتابة في ضوء المقروء وما هو معايَن، منح التاريخ بُعداً آخر يُسمّي قارئه وقد أصبح كاتبه، وهو في قرارة نفسه يعلم جيداً، أنه، وإن أنكر وجود قارىء معين، نموذجي معين، لديه، سوى أنه ضمناً يقرأ لأن هناك ما يجري تقديره محاوراً ومناقشاً، ومن يكون مرسَلاً إليه. إنها الطرق الوعرة لأي مجتمع إزاء التاريخ الذي يعنيه بصورة ما، وأن ليس من تاريخ صامت، بسيط، إنما صاخب، مركَّب، ونشط داخلاً .
تلك هي حيوية التاريخ، ومدى الحاجة إلى التزام الجدية في إقامة أي علاقة معه، يُتوخّى منها، إشهار ما لم يُفصَح عنه، وهو ما يتم النظر إليه غداً. وربما من هنا تتم قراءة التاريخ أمساً، استجابة لوعي مطلبي آت، وكتابته غداً، أي ما يخضع المكتوب باسم التاريخ، أو المسمَّى باسمه: مدونات، آثار، أدوات لها دلالتها، لعملية البحث والتحري الداخلي، وهو ما يحسّن من مفهوم التاريخ، وإمكان تواصله، في تراكم المنسَّب إليه معلومات لها توجهات شتى .
ولمن يعيش مأساة التاريخ الخاصة، ويكابد كوارثه، حضور مضاعف في بنية العلاقة هذه. كما هو حال الكرد في الصميم.
أي ما يقيم علاقة هي مسافة فاصلة بين كون المتعامل مع التاريخ قارئاً وكونه قارئاً لأنه كاتب في آن، وحيث يكتسب التاريخ معناه المتعدد الصيغ والأشكال تعبيراً عن تركيبيته، وحين ينوَّه أحياناً، على أن التاريخ هو المتواري عن الحس المباشر، وليحفّز على تحرّي نشأته ، وفي لامقروء نصه المباشر، إنه ليس سكنى عنوانه إنما ما يقع وراءه.
تبعاً لهذه المقولة، يمكن الدخول في حوار متعدد المستويات والتوجهات والهيئات النفسية بالمقابل، مع الباحث الكردي في التاريخ الأكاديمي الدكتور هوكَر طاهر توفيق، ( وهو الآن أستاذ في قسم التاريخ، كلية العلوم الإنساية جامعة زاخو)، وله العديد من الدراسات ذات الصلة بهاجس التاريخ، وكيف يمكن تفهَّم التاريخ، وللكردي هم مضاعف هنا: باعتباره مؤرخاً وباحثاً في التاريخ، ومكابدة هذه المهمة النفسية والعقلية ليست سهلة، حيث التاريخ متعدّي الحدود، وباعتباره كردياً، وهذا يتطلب منه محاولة ضبط النفس قدر المستطاع، لئلا يعصف به ” هوى ” تاريخي معين، جرّاء افتتانه بمقولة معية، أو وقوعه في شرَك تصور ثقافي يحول دون رؤية التاريخ في مداه الفسيح، وما هو المتوخى منه .
أسمّي هنا كتابه: الكرد ” بحوث ودراسات في تاريخهم الحديث والمعاصر ” منشورات ركز زاخو للدراسات الكوردية ط1، 2019 . ويقع في ” 550 ص ” من القطع الكبير.
العنوان لا يخفي نباهته في صيغته غير المعهودة في المتداول كردياً، وهناك في إقليم كردستان بصورة خاصة، أي في صيغة ” في تاريخهم ” وهي التي تحيل الاسم: الكرد ” إلى الغائب، إلى ماض ما، وليس إلى الماثل أمام النظر، من نوع: في التاريخ الحديث والمعاصر، وهذه صيغة موصولة بالكرد، بالمقابل. وما في ذلك من ترْك مسافة فاصلة بين بنية العنوان وموقع الباحث نفسه، ما يوحي إلى أنه في وضعية الناظر عن بُعد، بغية رؤية المخطَّط له بصورة أشمل !
وكما يظهر، فإن الكتاب ليس حديث الظهور تماماً، لكنه يطرح نفسه من خلال محتوياته، فالحديث في بنيته ما يؤكد أهليته في التفاعل مع الآتي، ويصل ما بين طريقة طرحه لفكرته، وما يمكن أن يثار تالياً، ويغتني به ويغنيه في آن . إن الحداثة قرينة المتأهل لتفعيل أثره هنا!
وما يعرَف عن الباحث هو جدّية ما يطرحه من أفكار وإشكالات فكرية موصولة بكتابة التاريخ، وكيفية التعامل مع التاريخ، على وجه العموم، وما يتعلق بالتاريخ الكردي، على وجه الخصوص، حيث تبرز راهنية المطروح من خلال قابلية المطروح للنظر فيه، كما لو أنه صنيع لحظته. حسبي أن أشير إلى أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه تمحورت حول موضوع في غاية الحساسية، وحملت عنوان ( الكرد والمسألة الأرمنية 1877-1920 ) ” 2″
وفي العودة إلى كتابنا ” موضوع هذا المقال البحثي أشير إلى أنه، وكما نوّه إليه، عبارة عن ” 13 ” بحثاً منشوراً في مجلات محكّمة في الإقليم، باستثناء بحثين شارك بهما في ندوتين في كل من قطر وتونس.
وقد جرى ترتيب الأبحاث تبعاً لموضوعاتها ما بين التمحور حول شخصيات تاريخية، أو موضوعات كردية، وكيفية تداول الكرد وقضيتهم وتبعاتها في صحف ومجلات لها تاريخها، وليس حسب الترتيب الزمني، حيث أقدم بحث يرجع تاريخ نشره إلى سنة ” 2006 “، وهو: الجريدة الكردية الأولى ” كُردستان ” في عدديها العاشر والثاني عشر : دراسة في المضمون. وربما كان البحث الأخير هو الأخير في تأريخ شره ” 2018 ” وهو مكتوب بالكردية ” بألفباء عربية ” وتحت عنوان: عبدالرحيم رحمى هكاري:دراسة حول فكره من خلال مجلتيْ : زين وكوردستان 1918-1920 . وهو ربما يطرح تساؤلاً حول مسوغ نشره ضمن كتاب مسطور بالعربية ، وما إذا كان نشره في كتاب بلغته إجراء أفضل.
وأعني بذلك جهة الفائدة والانطباع النفسي المترتب على ذلك .
ومن المؤكد أن مثل هذا الإجراء جهة الربط بين أبحاث الكتاب، وتواريخ نشرها،يخضع لتقديرات الباحث، وطبيعة نظرته إلى مفهوم الربط ودلالته، إلى جانب نوعية الحسّين: الزماني والمكاني بالمقابل، وما هو غير مصرَّح به، على صعيد الذائقة النفسية عينها أحياناً، وهو ما يسمح لقارئه أن يوسّع من جهته دائرة النظرة إلى إجراء كهذا في ضوء الدراسات الحديثة، وتحديداً تلك التي تتخذ من القراءة الثقافية المتعددة الروافد والتطلعات قاعدة انطلاق لها.
إعادة طرق أبواب
قبل التطرق إلى الكتاب وما يعِدنا به، اعتماداً على حمولته التاريخية، أشدد على ملاحظة أعتبرها جديرة بالتذكير للغاية، وهي أن لدى الباحث، ومن خلال كتاباته، ذلك السؤال الذي شغل ذهن المثقف الإسلامي قبل أكثر من قرن من الزمن: لماذا تقدم الغرب ” المسيحي “، وتخلف الشرق ” الإسلامي “،ليجري نحته بلسانه هكذا: لماذا أصبح الآخرون أصحاب دول معترَف بها، وحرّم الكرد منها؟ وليكون إقباله على لائحة من الموضوعات التاريخية الكردية، وفي العصر الحديث هاجسه المعرفي، وعلى أصعدة مختلفة، أي يكون التاريخ حاملها الرئيس!
أشير هنا إلى كتيبه المهم ” قومية عنوان ” وهو يستظهر مأساة المؤجَّل كردياً جهة دولته، حين يقول بداية(وقد اختير اسم ( قومية بلا عنوان أو أسباب عدم قيام دولة كوردية من حركة الشيخ عبيدالله النهري حتى نهاية مشكلة الموصل 1880-1929 ) عنواناً لهذه الدراسة، والقصد هنا من الاسم الأول للموضوع ( قومية بلا عنوان ) هو عدم امتلاك هذه القومية لحدود أو أطر سياسة معترف به دولياً للتعبير عن ماهيتهم . … تناول المؤرخون الكورد وغيرهم هذه المسألة كل حسب موضوعه التاريخي والفترة التي يبحث فيها، ولا يوجد كاتب بحث هذه القضية بشكل مستقل في الفترة موضوع الدراسة، حسب علمنا. … المحور الأول أهم الأسباب المتعلقة بالكورد أنفسهم والتي كانت سبباً في ضياع هذه الفرصة التاريخية من الكورد في قيام دولة لهم، ومنها ضعف التخطيط والتنظيم اللذين لازما حركاتهم، وعدم فهمهم للأبعاد المختلفة للفكرة القومية الحديثة.) ” 1 “
قبل أن أضيء فكرة الصفحة هذه، أشير إلى نقطة أعتبرها رئيسة، تخص صلة الباحث بموضوع كتابته من ناحية، وأسلوبه في طرح فكرة موضوعه من ناحية أخرى .
جهة موضوع الكتابة، لا يخفى أن الباحث في كتاباته ذات الهم الكردي، يراعي الموضع الجغرافي الذي يخصه، ويعيش فيه، أي إقليم كردستان العراق، وما شهده ويشهده إلى الآن من صراعات حدودية، ومؤثرات ضاغطة عليه من الداخل، ولوجود مكونات كثيرة: تركمانية، وآشورية وأرمنية، عدا عن الطوائف المختلفة، كالشبك والكاكائيين، وللإيزيدية من جهتها مكانة لافتة، وتأثيرات مباشرة في علاقات الداخل، ومستجدات الخارج، أما من جهة الأسلوب، فالذي يقرأ كتابته، يتبين له أن يشير إلى أهمية ما يطرحه تأريخياً من خلال موضوعه، لوجود ثغرات وعدم منح المدروس هنا القيمة البحثية التي يستحق. ولعل ذلك قائم في أصل الموضوع، إذ يطرح الموضوع المنتقى نفسه من خلال ما هو مثير من جوانب تغذي الفضول المعرفي، ولأن هناك ما يتطلب توضيحاً، من ناحية أخرى .
في البحث الأول: الكرد والآشوريون في هكاري: التعايش وصراع الهوية 1840-1920، وهو في غاية الأهمية، فهو بمقدار ما يرسم تلويناته وخطوطه البيانية التي تشهد انكسارات واستواءات وتقاطعات، مأخوذاً بظلال الماضي حتى القريب منه جداً، يكون المستقبل مرصوداً في ضوء الإحداثيات التي تتشكل في طريقة مناقشة الفكرة، كما لو أن الماضي بعائده الزماني، لا زال حاضراً، ولم يستوف حقه، طالما المشكلة التي شهدها تجد متنفساً لها هنا وهناك. ولهذا يستهل البحث بالتالي( تشغل مسألة الأقليات في كردستان خلال العصر الحديث حيّزاً مهماً من تاريخ المنطقة بشكل عام، فإن فهم ودراسة تفاصيل العلاقة بين الكرد وتلك الأقليات تضفي عاملاً مهماً في إلقاء الضوء على الكثير من علامات الاستفهام التي تعاني منها دراسة تاريخ الشعوب التي عاشت في كردستان خلال تلك المدة..ص 17).
في نطاق ذلك، هناك ما يحيل المقروء إلى سؤال ومساءلة لأصله، حين يقول الباحث في المقدمة( ليس القصد من هذه الدراسة هو إضافة معلومات جديدة تخص جانب العلاقات الكردية- الآشورية في هكاري خلال العصر الحديث، ولكن الغاية منها هي إعادة هيكلة الموضوع ضمن خطة دراسة تقرب القارىء إلى أبرز المراحل التاريخية التي جمعت بين الكردي والآشوريين والوقوف في تلك المحطات التي تثير جدلاً واسعاً عليها حتى الآن، ومحاولة تفسيرها وفق الأسس العلمية للمنهج التاريخي الحديث . ص 18) .
إزاء ذلك في مقدوري القول، أن الباحث على بيّنة تامة، من أنه لا يريد أن يقرأ ما هو مكتوب باسم التاريخ، ويكتفي بذلك. بالعكس،فالقراءة هي استقراء ما هو طي الكتمان، أو الغفْل من التسمية، أو المعتَّم عليه،ولا أشك هنا للحظة واحدة في نباهة الباحث، والتأكيد على أنه لحظة كتابة موضوعه، تبيَّن له أن هناك ما لم يُقرَأ بعد، وكما ينبغي أن تكون القراءة التاريخية بطابعها المنهجي العلمي،وليس في معهوده إعادة كتابة ما هو مكتوب، إذ لا تعدو إعادة هيكلة الموضوع ضمن خطة…إلخ، أن تكون تعبيراً عن أن هناك ما التبس على قارىء تاريخه، وما أفصح عن مسار في التاريخ ليس في أهلية التاريخ، وفي الرقعة الجغرافية المذكورة ” هكاري “، لأن الذي اعتمده الباحث هو مجموعة مرتكزات مختارة في ضوء توجهه البحثي التاريخي، ليكون ذلك ما يشبه التقويم لمسار التاريخ الذي يضم إليه مكونات اثنية مخلفة . والأمر الآخر يتعلق بفهوم الأقليات، والذي يثير حساسيات جانبية، إذ مفهوم ” الاثنية ” أكثر تجاوباً مع المتوخى علمياً، تجنباً لا يترتب على علاقة القومية بكامل بنيانها المفهومي: الكردية هنا، وما دونها مقاماً: الأقلية، حتى في سياق اللاشعور نفسه .
وأزعم أن القراءة الدقيقة والمكثفة للباحث لتلك الروايات التاريخية لبنية العلاقات هذه، مؤكّدة لتوجه معرفي مطروح وفق حسابات تاريخية مغايرة وربطها بما هو جغرافي: رواية المبشرين المسيحيين والقناصل الأجانب- الرواية العثمانية-ورواية بدرخان بك..مثلاً. ليخلص إلى نتيجة، وبإيجاز شديد، وهي افتقاد الآشوريين ( إلى الواقعية السياسية. ويظهر هذا الأمر جلياً في رسالتهم إلى مؤتمر السلام بباريس، فقد كان على زعماء الآشوريين أن يعرفوا حجم تكتلهم السكاني والجغرافي لكي يبنوا عليها واقعهم السياسي..ص 43 )..وهي ملاحظة لافتة بميسمها البحثي التأريخي، دون أن يكون ذلك طياً لمحضر الضبط التاريخي الخاص بنطاق ” هكاري ” كنموذج بحثي هنا طبعاً . لأن التبعات لاتزال قائمة، أعني بذلك الأخذ بحسابات القوى المتنفذة في المنطقة: بريطانيا وفرنسا خصوصاً، بعين الاعتبار، وكيفية إدارتها للعبة الديموغرافية والمذهبية، وكيف تؤثر في مواقع اللاعبين المحليين، وهي حيلة تاريخية لا تخفى في مفارقاتها، وإلى الآن، وكيف أن وضعية كهذه تبقي الداخل مفتوحاً أمام اجتياحات رياح الخارج،وما يترتب على ذلك من تغيير في مواقف داخلاً .
يعني ذلك أن وطأة الخارج بقواه الغازية والمتعددة، إنما ذات المداخل الاستعمارية، بلبلت ما في الداخل، وأضرت بتلك التوازنات الاجتماعية، وهذا يعني أن القرن التاسع عشر الذي قيل عن أنه كان قرن القوميات بلغة فيخته الألماني، إلا أن هذه الصحوة شكلت عامل زعزعة الجغرافيات القومية خارج النطاق الأورُبي، في آسيا وأفريقيا، كما تشهد مستجدات المنطقة، وهو ما يُقرَأ في كتاب الباحث ( بنظرة دقيقة إلى جميع المصادر التاريخية المعنية بالتاريخ الكردي والآشوري كاد جمع كلها على أن العلاقات الكردية- الآشورية في جبال هكاري خلال العصر الحديث كانت علاقات جيدة إلى حد بعيد حتى أربعينيات القرن التاسع عشر. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن آشوري هكاري ربما كانوا مختلفين عن كل الطوائف المسيحية الأخرى في كردستان، من حيث أنهم كانوا لا يختلفون عن الكرد في شيء سوى الديانة واللغة . ص 23)، وهذا ما ينطبق على العلاقات الكردية- الأرمنية، كما يستهل بذلك كتابه ” الكرد والمسألة الأرمنية”( فقد عاش الكرد والأرمن سوية لقرون خلَت وقبل ظهور المسألة الأرمنية عام 1877 في مدن وقرى مختلطة، أو منفصلة قريبة بعضها عن بعض ضمن مناطق تسودها الدولة العثمانية…إلخ )” 1 ” ، وهو ما يجب النظر فيه، من خلال التقابل بين قوى الداخل وقوى الخارج، وكيف تتجابه هذه القوى وماذا تمثّل على الأرض، وإلى أي درجة سعت القوى الخارجية: الغازية إلى إدخال تغييرات بنيوية في الداخل، تجاوباً مع الأهداف الاستعمارية المرسومة، عبر ضرب الأطراف تلك التي تكون أكثر قابلية لتمرير مؤثراتها القاعدية، مع بعضها بعضاً، وجعْلها معلقة بحواضرها الأوربية .
وربما في الإطار السجالي نفسه، يتموضع بحث ” موقف مجلة كردستان من المسألة الأرمنية 1919-1920 “، وهي التي تشكّل المنبر الدفاعي عن صوت الكرد ومن خلال كتابها، في الفترة الزمنية المذكورة، وذلك باعتماد الطرق والحجج التي تثبت تواجد الكرد التاريخي في كردستان، ورداً على الطرق والأساليب المختلفة المعتمدة أرمنياً لتأكيد المغاير.
وهو ما نتلمس حضوراً له، وباعتماد مصادر مختلفة في كتابه : الكرد والمسالة الأرمنية” 2 ” وهنا في كتابه موضوع البحث، واستناداً إلى دور مجلة كردستان إزاء المسألة الأرمنية ( يظهر أن أكثر المواضيع تطرقاً في هذه المجلة هي المسألة الأرمنية ، فقد حاولت مجلة كردستان الدفاع عن الحقوق الكردية في شمال كردستان أو ما كانت تعرف آنذاك بالولايات الستة ( أرضروم، وسيواس، ووان، وبدليس، وديار بكر، ومعمورة العزيز)، والتأكيد على هويتها القومية الكردية…ص 409 ) .
وهو ما يبقينا في حُمَّى التاريخ، والدوران في فلكه، أو سبر قاعه تارة أخرى، أو مساءلة نوعية كتابته، تجاوباً مع لامحدود المعطيات التاريخية، إن من جهة حقيقة المستقى مصدرياً، أو من جهة طريقة التعاطي مع المادة، أو الذهنية التي أقامت علاقة مع حدث تاريخي، وبناء على أي معيار. وفي وضع كهذا، لا ينبغي في الحالة هذه الإصغاء إلى صوت المصدر” مجلة كردستان هنا ” دون إعارته فهماً مضاعفاً، وفي نطاق ملابسات المستجدات وقتذاك، وإلى أي كان يتم التعبير عن حقيقة التاريخ، وليس عن حقيقة المقدَّم تاريخياً، حيث السجال يظهر الأكثر اعتماداً عليه هنا.ولعل ما يقوله عن أداء المجلة ومن خلال كتابها ، أنه رغم كل ما حدث، أو ما يمكن التحفظ عليه، هو ( أن مجلة كردستان قد حفظت لنا الموقف الكردي من المسألة الأرمنية بعد الحرب العالمية الأولى وفي هذا كمن الأهمية التاريخية الكبيرة لهذه المجلة . ص436 ) ، يفضي بنا إلى الطابع المرحلي للقضية، والجانب الأدائي للمجلة تلك، لأن المعطيات التاريخية، وهي بأبعادها المكانية- الزمانية، والقوى التي تتقاسمها، وتتنافس على نسجها خارجاً، حيث لا زال الماضي يعايَن كما لو أنه لم يمس بعد، تأكيداً على أن الجغرافية غير مستقرة بمناخها السياسي، ليكون التاريخ: تاريخ الباحث في وضع غير محسود عليه.