قراءة التاريخ أمساً، كتابته غداً: قراءة في كتاب باحث تأريخي كردي2/3

 إبراهيم محمود
 
في هذا السياق نفسه، وضمن دائرة أخرى، ومجاورة من العلاقات الاجتماعية، السياسية والاثنية، بين الكرد والعرب، يمكن معاينة ضرب آخر من ضروب التشابكات التاريخية والتجاذبات السياسية على التاريخ والجغرافية، حيث إن الجغرافية، على وجه العموم تكون الطُّعْمَ والتاريخ يكون اللغم، إن جاز التعبير، ولكَم أثارت الجغرافية الكردستانية الآخرين: غزاة عن قرب وعن بُعد، ولكَم ألهب التاريخ وحمّاه خيالات من شغلتهم مأثرة الجغرافيا هذه. إنما بالمقابل في مضمار ثقافي مختلف هذه المرة، وما يشكل مصدر إثراء لتجربة الباحث في معايشة التاريخ كتاريخ، والتاريخ ككتابة بالمقابل، وثمة بحثان هنا: الأول: العلاقات الكردية- العربية 1891- 1918 ” دراسة تاريخية “، وهو منشور في كتاب: العرب والكرد…إلخ والسالف ذكره، والمنشور في دار نشر قطرية،وما يعنيه هذا الموقع والاسم من اعتبار ثقافي يضفي بُعداً حوارياً مع الآخر وعنه، ومن موقع الذات الثقافية المختلفة: الكردية. 
العنوان لا يخفي حساسيته، وهو من ناحية موصول بما تقدم ذكره، جهة حالات التسالم – ولو النسبية- بين العرب والكرد، وحالات التخاصم والتصارع، وما أثرها عمقاً وأشدها وطأة وأوجعها تبعات وانعكاسات، وذلك بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر ( نستعيد المستجد الأوربي الغازي للمنطقة مجدداً )، بما يشبه اللازمة التاريخية. حيث يقول الباحث ( كانت عملية الاحتكاك الكردي بالعرب في القرن التاسع عشر ضمن الولايتين العثمانيتين ( ديار بكر، الموصل) ولكن لا تشير المصادر التاريخية إلى هذه العلاقة بشكل واضح إلا بعد أن تشكلت الفرسان الحميدية سنة 1891 على يد السلطان عبدالحميد الثاني ( 1876-1909)فقد شهدت احتكاكاً كبيراً بين العشائر الكردية والعربية في تلك المدة تحديداً في ديار بكر والموصل. وكما شهدت ولاية الموصل حدثين كبيرين يتعلقان بالكرد في هذه المدينة التي هي ذات طابع عربي وما تزال تلك الحادثتين تؤثران في العلاقات الكردية- العربية في كردستان العراق. ص 112). 
وأنا على يقين تام هنا، أن المطّلع على وقائع  من هذا القبيل، يحيط علماً بالكثير من التداعيات له. يكفي أن يمعن النظر قليلاً في السائد اليوم، ليدرك الخاصية الحركية لتاريخ كهذا.
طبعاً، من المستحيل بمكان التذكير بمختلف نقاط البحث، وتلك المصادر الحيوية والكثيرة والمتنوعة التي تشكل صُلْب البحث هذا، إنما هناك إحالة إلى وجود فضاء زمني وثقافي مفتوح بين الشعبين، ومن خلال تواجد صحافة كردية، ومن ذلك : جريدة كردستان 1898-1902، في القاهرة، وهذه شهدت ولادة جريدة أخرى، هي : أوميد 1900،إلى جانب جمعية استقلال كردستان وجريدة كردستان 1917-1918 في القاهرة كذلك…إلخ.. والذي يصل بالباحث إلى استكمال فكرة البحث هذه، وهي أن هناك تاريخاً لعلاقات طيبة بين الشعبين: العرب والكرد، إنما انحرف بها المسار التاريخي، مع بدء اندلاع الحرب العالمية الأولى( فذلك راجع من دون شك إلى ضم أجزاء من بلاد الكرد والتي تعرف تاريخياً بـ ( كردستان ) إلى كل من الدولتين العربيتين اللتين تأسستا بعد الحرب العالمية الأولى. ونعني بهما العراق الذي ضم جزءاً كبيراً من جنوب كردستان ، وسوريا التي ضمت شريطاً في غرب كردستان ..ص140). 
تلك عينة من الكتابة البحثية هذه، ومآل البحث التاريخي، أي ما أخضع الكرد لمنطق السلطة الافتئاتية والتي تقوم على التفريق والتسييد تجاوباً مع مصلحة لا تخفي عنفها القومي والسياسي على حساب وجود تاريخي لشعب آخر: الكرد.
وهذا يحفّز القارىء، وفي ضوء معايشة التاريخ الطويل بين الشعبين، وما يعنيه مفهوم” الشعب ” هنا، ومدى تفعيل أثره في ضوء العلاقات البينية، من اعتبار، أو اعتراف فعلي، أي ما يخرج الاثنين، من نطاق الثنائية، وما إذا كان هناك- واقعاً- حالة من الندّية، استعانة بما هو قائم جغرافياً وبما هو مشاع ومقروء تاريخياً، وما هو مطروح قيمياً في المضمار الثقافي.
وما تطرق إليه الباحث في بحثه التالي، وهو: كرد العراق وحكومات بغداد.. والمشارَك به في مؤتمر ثقافي انعقد في تونس سنة 2018، يشكل من ناحية، إضافة إلى البحث الآنف الذكر، وتوسيعاً لرقعته التاريخية، وتعميقه لمفهومه الفكري والسياسي، وهو دأب الباحث في مكاشفة محركات مجموعة من الأفكار التي يشتغل عليها التي تخص التاريخ كردياً وإضاءته، وتفرض لغة البحث نفسها، جهة الحضور، وجهة المباشرة مع الآخر: العربي، ومن رقعة جغرافية حامية الوطيس بتاريخها الحديث، ومناخها الاجتماعي الشديد الانقسام على نفسه، ومنذ البداية، أُظهِر الكرد ضحية تاريخ الآخر، وقربان جغرافيته المستلبة منه ( تنبع أهمية هذه الدراسة في كونها تلقي الضوء على إشكالية الصراع الكردي- العربي في العراق، التي تمتد لقرن من الزمان ، فالمنطق الذي يفرض نفسه هنا هو ليس هناك علاقة طيبة بين العرب والكرد في الدولة العراقية الحديثة التي تكونت في سنة 1921…ص260)، وحيث ( وجد الكرد نتيجة لصفقات استعمارية لا مصلحة لهم بها أن أراضيهم أدمجت بالعراق، وأن مركز الحكم انتقل من اسطنبول إلى بغداد،، وهذا  ما لم يهضمه الكرد لحد الآن. ونتيجة لهذا الدمج القسري ظهرت مشاكل عديدة بين بغداد والكرد متمثلة في البحث عن الهوية القومية والجنسية الوطنية ومسألة اللغة والتعليم، فضلاً عن الإدارة والاقتصاد، وأخيراً السألة الأكثر تعقيداً هي مسألة الحدود الكردية- العربية، ضمن دولة العراق التي صنّفت في سير الدول العربية…..ص261).
ومن خلال بؤرة التوتر التاريخية هذه، يوسّع دائرة الفكرة ذات الصلة، وخلفيتها التاريخية،وكيف دُفِع بالكرد ليكونوا في وضعية صعبة وكارثية بين حجريْ رحى المصالح الاستعمارية : البريطانية وسياساتها ذات الأهداف التلغيمية للجغرافية والتاريخ معاً، والمصالح القومجية العربية، وفي أوجها، تحت حكم البعث، ليكون تاريخ العلاقات القائمة تاريخ  العنف الموجه سلطوياً عراقياً( لذلك لم يتقبل الكرد أبداً وضعهم كجزء من العراق، ومن خلال ما مر يتسم مجمل تاريخ العراق الحديث بفترات متعاقبة من الثورة الكردية والقمع العراقي..ص 280). 
بالنسبة لي، قارىء تاريخ وباحث فيه، تعنيني طريقة انتقاء الكلمات ووضعها في الجملة التي تؤدي دوراً معيناً تاريخياً. وما أفصح عنه الباحث يُساق تبياناً أقرب إلى التفصيل في سيبرورة العلاقات الجانبية بين الكرد والعرب، وطبيعتها التوترية، تبعاً لشهادة التاريخ المكتوب. حيث إن تسمية ” الكرد ” ككرد كمفهوم اثني في منحاه السوسيولوجي لم يفعّل في بنية العلاقة الجانبية ومن قبل العرب، وما يعنيه الاسم من حضور ديموغرافي وسلطوي بالمقابل.
وما أشبه اليوم بالأمس، حيث إن تبعات هذا النوع من العلاقات وفي ضوء الحكم الأحادي الطرف، تفصح عما هو كارثي في البنية السياسية لمفهوم الدولة العراقية بالذات. كما لو أن ظهور العراق كدولة بمفهومها الحديث، كان ظهور دولة الكارثة ومتتالياتها السياسية المرشحة لصور عنف فولكلورية. هناك تاريخ آخر، لا بد من استدعائه والنظر في خريطته السياسية لرؤية بناه الاجتماعية ومكوناته الاثنية والمذهبية بالمقابل، إذ (لم يكن العراق بلاداً عربية من الوجهة العنصرية. فقد أضافت موجة أخرى من الفتوحات، من السومرية إلى المغولية، عناصر جديدة إلى دمه.) ” 3 “
وفي الحالة هذه، فإن صورة الكرد، لحظة النظر فيها، مختزلة، لأن هناك تقطيعاً سياسياً لها.
ولا شك أن متابعة التاريخ الحديث لهذه الدولة، وكيف تكونت، وماالذي أريد منها ” من الخارج: البريطاني ” وما أريد ” تفقيسه ” بالمفهوم السياسي إلى اللحظة، تستشرف بنا الواقع الصادم للجاري، و( يبقى توقع ما يمكن أن يحدث غداً أو بعد بعد غد، في أفضل الحالات صادماً، جرّاء هذا العنف الذي بات يتهدد العراق وما يليه،أي ما يحيل العراق عموماً إلى أكثر من مستودع بارود ينفجر ليستغرق الجوار الأبعد، وهو ما نعيش أهواله في سياقات مختلفة كما لو أنه يعرّف بهويته التاريخية، وكيف اعتبر المرجعية المقدَّسة الطابع بأكثر من معنى..) ” 4 “.
وهو ما يعقّد مهمة أي باحث حين يتعرض لأي موضوع ذي صلة بما يجري في أي دائرة جغرافية في المنطقة: في العراق وغيره، لوجود قاسم مشترك سياسي، وموقع الكرد في ذلك، وصراع الهويات بمردودها الطوفاني والمدوخ من ناحية، والضريبة المكلفة والمأساوية التي تتطلبها الحياة، تعبيراً عن التمايز في الهوية ومشروعيتها القومية كردياً، من ناحية أخرى . 
والباحث لم يدّخر جهداً في إبراز نقاط التوتر هذه، وكيف يجري التعامل معها.
وهي سيرورة تضيق وتتسع، تمتد وتتشعب، وتشدد على أن المأثرة الرهيبة والمدمرة لـ” لوزان ” لازالت تؤكد عنفها الضاري في المقام والقوام التاريخيين والجغرافيين، وبتدشين غربي استعماري، في لعبة المصالح الدولة، الإقليمية، والمحلية، وما يمكن تبيّنه في تعبير كهذا لباحث ذي خبرة تاريخية بالدائر منذ أكثر من قرن عراقياً ( لم يكن اهتمام بريطانيا منصبّاً على المنطقة العربية فحسب بل وعلى المنطقة الكردية أيضاً، سواء أكانت شرق أم جنوب كُردستان، إذ كانت كل الدلائل تشير إلى وجود النفط في المنطقة التي أصبحت ضمن عراق اليوم، إضافة إلى أهمية هذه المنطقة من الناحيتين العسكرية والتجارية.) ” 5 ” .
يظهر الماضي هذا، وكما هو مشار إليه محلياً بوصفه الشاغل لكل من الذاكرة الجماعية والتاريخ معاً، في ضوء الصراعات المتعددة الأبعاد، وعلى كل المستويات. 
في الشأن الكردي المحض
ولعل الذي يعزّز مدى الاهتمام بالتاريخ، والأداء المركَّب له، جهة المنشور باسمه، هو ما تعرض له الباحث، معتمداً على رصيد قرائي وبحثي، سعياً إلى إضاءة كل من الذاكرة الجماعية، وبالمقابل، إثراء المدوّن تاريخياً، ببصمته الكردية، فلا يعود المنشور هنا منفصلاً عما تقدَّم. بالعكس، إن غلبة الموضوعات التي تفرض نفسها، ككمفهوم حسابي، تغيّر في مفهوم الكتاب، ككل، وتعطي قارئه أكثر مما هو انطباعي، أي حقيقي هنا، وهو أن الذي يدفع به إلى طرح موضوعات كهذه، مؤتاه إحداث تغيير في وعي من تكون قراءته في التاريخ الكردي محدوداً، وأن قائمة الأسماء التي تشغل موضوعاته الكردية الصرفة، مثّل رفعاً للرصيد الكردي تاريخياً، وخطاباً موجهاً لمن –ربما- يشغله سؤال: أين هو التاريخ الكردي ؟ حيث إن الأمكنة والشخصيات، والمواقع، وقائمة الضحايا التي يعرَّف بها كردياً، وبلغة المؤرخ والتوثيق المرفق طبعاً، في مقام شهود العيان، ليكون هناك توازن بين ما هو تاريخي وجغرافي.
وهو ما يقدّمه بداية، في بحث: الشيخ عبدالقادر النهري 1851-1925″ الواجهة السياسية الكردية الأولى في استانبول خلال الربع الأول من القرن العشرين، حيث يشير الباحث إلى وجود شخصيات لها دور في صنع التاريخ، ولم تنل حقها من البحث( والشيخ عبدالقادر النهري من تلك الشخصيات..رغم دوره البارز في الحركة القومية الكردية نحو خمسة وأربعين عاماً. لم يلق هذا الشخص الاهتمام الكافي الذي يستحقه، وقد أصبح منذ سنة 1908 الواجهة الأولى للكرد في استانبول والقوى الدولية. ص 56 ) ، ليلعب التنويع في المصادر الدور المنوط به، وهو التأكيد على مدى الإحاطة بالموضوع، وهو في وساعة ساحته، وعمق حدثه كذلك.
ينتمي الشيخ عبدالقادر النهري إلى أسرة كردية معروفة، ترجع أصولها إلى الإمارة البوتانية، حيث عمل جد الشيخ عبدالقادر ، الشيخ طه تحت إمرة أمير بوتان بدرخان بك ( 1821-1847)….وهو: ابن الشيخ عبيدالله النهري قائد الانتفاضة الكردية عام 1880، التي كانت أول انتفاضة كردية شهدت بروز الفكرة القومية الحديثة في أهدافها…ص58.
هناك مرحلتان في حياته: الأولى منهما، حيث ينحصر دوره في انتفاضة والده ، إلا أن دوره القيادي في المرحلة الثانية من الانتفاضة في كردستان إيران ..ص59..
ومن الصعب، الدخول في التفاصيل، فالمهم هو أن الشيخ سليل الشيخ عبيدالله قد تقدم منتصراً في كردستان إيران وحقق انتصاراً ساحقاً، حيث انضمت إليه قبائل المنطقة التي توغل فيها.. إذ بعد تدمير مدينة ( مياندواب ) انتقاماً لأفراد وفده الذين قتلوا من قبل حاكم المدينة، وأصبحت مدينة تبريز بداية النهاية المأساوية ليس لتقدمه، وإنما لموقع كمنتفض، وهناك يكون بيت القصيد لحظة النظر في الطبيعة النفسية لقواته. لماذا؟ ( لأن معظم أفراد القوة الذين أثقلتهم الغنائم والأسلاب قد انفرط عقدهم وعادوا إلى ديارهم . ص 61). 
هذه النقطة ذات الصلة بالغنائم، وكيف حصل تغيير جذري ميدانياً، تعطينا فكرة حية وصادمة عن المحرّك الرئيس للذين انضموا إلى انتفاضة الشيخ عبدالقادر وحاربوا معه، أي ما كانوا يفكّرون فيه ويعِدُون أنفسهم. وما إذا كانوا مهيئين لأن يكونوا ” جنود معركة ” وتبعاتها حيث يكون الإخلاص لها إلى النهاية،  أم أنهم رغبات مدفوعة لأهداف عملية وآنية، وصلة ذلك ببنية الذهنية التي تشغل الذين يحاربون بحماس، ويصدمون المعني، بحماسهم البراغماتيكي. أي ما يستدعي التشديد هنا على صواب القائل ب(النسق السياسي المستقل الجامع للكرد لم يشهد يوماً تطوراً في اتجاه تخطي المرحلة القبلية) ” 6 “، وهو ما يسهل توصيفه وتحديده وحتى إبرازه هنا وهناك.
ودون التوغل في التفاصيل مجدداً، يبقى المهم، هو مآل انتفاضة عبدالقادر، والتي – ربما- من وجهة نظري، تصل بما بعدها، وبما قبلها ، ليس مناصفة، وإنما بحمولة العلة عينها، أي جهة التنظيم، وذهنية التنظيم وأفقه المستقبلي.أي ماالذي تتقدم به واقعة تاريخية كهذه قيمياً ؟
الباحث يسائل تاريخياً ما إذا كان عبدالقادر في مستوى الأحداث في انتفاضة أبيه وما دوره في مذابح مياندواب؟
يشير إلى أن اختيار عبيدالله لابنه في انتفاضته دليل ثقته في قدراته. والأمر الثاني وهو المهم والأخطر: هو أن الشيخ عبدالقادر يتحمل جزءاً كبيراً من مسئولية ما حصل  وقد كان القائد العسكري الأول لهذه الانتفاضة..( ص 63).
والبعد الثاني في شخصيته، هو السياسي، حيث إنه باشر العمل السياسي هذه المرة وليس العسكري، إذ استلم رئاسة جمعية ( التعاون والترقي الكردية ) في استانبولـ وأغلقت من قبل الاتحاديين..وليتنقل في جنوب كردستان وشرقها يقوده طموح كردي ملحوظ، وليلقى متاعب جرّاء هذه الأنشطة السياسية والثقافية،ويحصل تعاون بينه وبين أمين عالي بدرخان ، ويكون تأسيس جمعية ( تعالي كردستان ) ثمرة التعاون هذا ( ص 69)، وتبرز أحداث دراماتيكية على صعيد علاقات الشيخ عبدالقادر في علاقاته برموز القوة داخلاً وخارجاً، وبريطانيا في الواجهة، وما يخص محادثات السلام في باريس ( 1919)،وليلعب الانشقاق داخل الجمعية دوراً في التباعد بين أولي الأمر الكرد، بين عبدالقادر والبدرخانيين أساساً، حيث اُتهِم الأول  بالتراجع عن قراره بصدد الموقف من الآمال الوطنية الكردية، سوى أنه كان حريصاً على الخلافة، وزعم التأكيد على وحدة كردستان والحكم الذاتي الحر عن تركيا ( ص 80). وليكون مصيره مأساوياً للغاية عقب انتفاضة الشيخ سعيد 1925، إذ أعدِم ومعه نجله إلى جانب آخرين، رغم أنه أ،كر مشاركته فيها،  ( لكنه بلا شك كان على علم بالتحضير لها ..ص86).
ورؤية الباحث إليه، وما إذا كان ( يتمتع بصفة القائد. ص 90 )، لافتة هنا، محيلاً هذا التأكيد إلى ثقة والده عبيدالله، مجدداً فيه..ودون إظهار علامات فارقة أخرى، إنما حيث يتطرق إلى الوجود البريطاني ونشاط أتاتورك، ما يعني أن نسبة من المسئولية التاريخية، والتي تخص عدم تحقيق المرجو، تقع خارج نطاق حساباته وقدراته المحددة ..!
ذلك يثير سؤالاً على تماس مباشر، بالعلامة الفارقة للشخصية، جهة الوعي الذي اعتمدته في معايشة مستجدات التاريخ في محيطه، ونظرته إلى الآخرين وكيفية تقدير قواهم الفعلية . وماالذي يحيل أغلبية الشخصيات الكردية التاريخية، وهي في موقع الزعامة السياسية، والقيادة العسكرية، تتحول في محصلتها إلى رموز تراجيديا: ضحايا بمعان مختلفة، ونوعية التضحية في هذا الجانب، جهة الأعداء، وكيفية تقدير سلطتهم، وجهة الأتباع أو من يكونون كرداً، وأي قاسم وعي كردي- حقاً- يصلهم ببعضهم بعضاً. 
إن أقرب مثال هنا، هو طابع الحساسية ذا الجذور القبلية العاملة سلباً في التوجه الكردي بين طرفين كرديين أو أكثر، كما الحال بين منتمين إلى مكان له اعتبار إماراتي سلطوي، والرهان على المأثرة التاريخية لهذا الجانب، بالنسبة إلى البدرخانيين، ومنتمين إلى ما هو زعاماتي مغاير في مساره التاريخي، وعلى الأرض، والعلاقات مع الآخرين، زعامات ذات طابع ديني ومفعل سياسياً توجِد لها جغرافيتها، ومن يمكن أن يقيموا فيها بهذا التوجه، وليس زعامة تعرّف بنفسها تاريخياً، بتسمية ما كان جغرافياً، بالنسبة للبدرخانيين ودلالة  بوتان، ولهذا حين نقرأ كيف (يتهم البدرخانيون والآخرون من النخبة الكوردية السيد عبدالقادر أفندي بعدم كونه متعاطفاً مع المشاعر القومية الكوردية وذل لما صدر عنه من تصريحات. يدعي عبدالقادر أنه يقف كلياً مع توحيد كوردستان إدارياً ولن يكن الكثير من الاحترام للخلافة ولا يرى أية فائدة من الاستقلال السياسي…) ” 7 “، ربما لا يعود يُنظَر إلى العدو بمفهومه السياسي، والذي يستهدف الكرد ككل، وإنما بمفهومه التقليدي بالتوازي مع نظرة مختزلة ومؤسفة كهذه، كما الحال في نموذج يستحيل تجاهل تأثيره السلبي واستداميته إلى الآن .
وأعتبر أن الموضوع الكردي الثاني هنا،  له أهميته التاريخية والاجتماعية والسياسية، وهو جديد في بابه، بأكثر من اعتبار، ويحمل عنوان: مصطفى باشا ميران ودوره في تشكيلات الفرسان الحميدية 1891-1902 ” دراسة تاريخية وثائقية، ويعمّق جرح الكردي تاريخياً:
ينوّه الباحث بداية، إلى وجود تعتيم على فصول من التاريخ الكردي، وذلك ينطبق على دراسته( فالمعلومات عن مصطفى باشا ميران تكاد تكون معدومة في بطون كتب التاريخ ..ص155).
وهو في تناول الباحث لهذا الموضوع يستشرف تاريخاً معقداًومركباً يتراوح بين القوة الأحادية الجانب، والضعف المعمم، وفي شخص مصطفى باشا ميران، يمكن تبين ذلك. ويكون السؤال التالي مدخلاً معتبراً( هل يمكن عد مصطفى باشا ميران ضحية للظروف التي كان تمر بها كردستان من فوضى وانعدام القانون، أم جلاداً اُستغل في تشكيلات الفرسان الحميدية لكي يضرب الحابل بالنابل ويخرج منها منتصراً غانماً ؟..ص156).
وجهة المصادر، حيث يتوقف عندها الباحث، هي قليلة..
ومما يقوله حول عشيرة ميران: ( تُعد من العشائر الكردية التي كان لها دور كبير في التشكيلات العسكرية غير النظامية التي أسسها السلطان عبدالحميد الثاني( 1876-1909) في سنة 1891، والتيتسمى بـ ( الفرسان الحميدية) تيمناً باسمه..ص159).
ليجري تحرّ تاريخي حولها، حيث يظهر لها تاريخ قديم، كما يذهب الباحث والمؤرخ زرار توفيق من خلال مفردة ( المهرانية) بأنها هي نفسها، فقد ( كانت المهرانية عشيرة معروفة خلال العصر العباسي..ص159).
وهناك مصادر تشير إلى عدم استقرارها في المنطقة، كونها ( رحالة تبدأ رحلتها صيفاً من أطراف مدينة الموصل مروراً بجزيرة بوتان ثم إلى شيرناخ وأحياناً إلى سيرت ثم بدليس وأخيراً تنصب خيامها بالقرب من مدينة وان….أما الآن فعشيرة الميران تسكن في الجزيرة الفراتية من مناطق عين ديوان في أقصى الشمال الشرقي، وديريك وتل الرميلان حتى قه ره جوخ…ص 160). وأما عن مصطفى باشا زعيم عشيرة ميران 1884-1894، فلا ( تُعرَف سنة ميلاده ولكن استناداً إلى بعض أقربائه فقد كان في السبعين من عمره عندما اغتيل سنة 1902..ص162).
إن ما يقدمه البحث عنه هو أنه سيطر على مساحات جغرافية واسعة، بقوة رجاله وأتباعه، وكان مفضلاً لدى عبدالحميد نظراً للدور الكبير الذي قام به خدمة له، فلم يهتَم بالشكاوى المرفوعة ضده ( ص 163)، وهناك مرجع تاريخي معتمَد لدى الباحث يخص الباحثة الأمريكية جانيت كلاين، وهي تضيء صفحة حياته ومسلكه الاجتماعي، وكيف أنه كان يعتمَد من قبل السلطان، ويغض النظر عنه وهو يمارس السلب والنهب ( ص 165)، فيشارمثلاً، إلى أن ( زكي باشا القائد العائد للفرسان الحميدية كان يدافع دوماً عن أفعال فرسانه في المنطقة..ص167)، وللوثائق البريطانية مكانتها في تقدير وفرة من المعلومات التاريخية عنه، وهو يغير على أي قبيلة : كردية وغيرها ليمارس فيها قتلاً وسلباً ( ص 168).
وهو ما يضفي على مشهد التحركات هذه خاصية دراماتيكية من نوع خاص وعام :
في الخصوصية، جهة طبيعة انتشار القائد الحميدي، إن جاز التعبير، وفي العمومية، ما يصله ويقابله بغيره، ممن يتزعمون أتباعهم في قبيلتهم، أو ضمن تحالفات قبائلية.
وربما على خلفية من هذا الطغيان الشخصي القبلي والمشهود بذيوع الصيت الشخصي القبلي، ينبري المؤثر الديني في ساحة المكاشفة لما جرى باسمه: 
الواقعة يؤرَّخ لها بسنة 1893، بين مصطفى باشا وسعيد النورسي المعروف جيداً، صاحب موسّعة ” كليات النور “، نقلاً عن سيرته التي كتبها ابنه، وموجزها أن النورسي  يرى في الشيخ عبدالقادر الكيلاني في منامه، وهو يخاطبه  وباسمه أن امض إلى مصطفى باشا رئيس عشيرة ميران وادعه إلى الهداية والرشاد والإقلاع عن الظلم ، وليقم الصلاة ويأمر بالمعروف، واقتله إن لم يستجب..ص169، الشيخ النورسي لم يبال بمنامه، وحين تكرار المنام، يمضي إليه ، إلى خيمته المحروسة، والمشهد طويل في الوصف، والخلاصة أنه يدعوه بمثل ما أُمِر به، ويستفزه بطريقته المباشرة وسط أتباعه، ويطلب الباشا اختباره في الأمور الدينية، فيبز علماءه من رجال الدين وقد تأكدوا من صحة علمه، وتأتي شهادة ابن الباشا عبدالكريم فيه وهو يقول للشيخ، على أن : عقيدة والده فاسدة..ص 171.
هذه الواقعة لا تخرج عن نطاق مدى التداخل بين المعتبَر واقعاً وما يعلوه بالمفهوم الديني، ومدى تأثير المناقبية الدينية في تلوين وقائع كهذه، من جهة، ولأن هناك قابلية” خزّيناً ” لذاكرة متعالية ” مما هو غيبي وديني، تمارس تأثيرها في المكوّن النفسي، من جهة أخرى، وحيث إن الذي جرى عبَّر عن ذروة العنف واستشرائه، ليكون حدث كهذا علامة إشهار له .
وللشيخ الكيلاني مكانته الدينية وحتى الأوليائية أو الكراماتية المعتبَرة طبعاً، حيث المنام هنا يكون رؤيا تعبيراً عن سمو مكانة الشخص، ومن يراه في المنام، ليحصل اللقاء. كما في واقعة عن مولانا خالد النقشبندي، جرّاء حقد الشيخ معروف القادري عليه في السليمانية بعد سنة 1820 ، ومحاولته التخلص منه عن طريق أتباعه, دون جدوى، إلا أن الشيخ عبدالقادر الكيلاني (  ظهر له في الحلم وقال له إن مكانه ليس هنا بل في سورية فقرر الرحيل..) ” 8 ” .
الظلم له أكثر من قرين، وطلب الرحيل، إضاءة لجور قائم، وبحث عن مكان مغاير قيمياً .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…