رحل عنا ياسر حبيب الخيالي المحجب و الطافح بالوجع

غريب ملا زلال

تركنا ياسر حبيب و نحن نتخبط في انكساراتنا و نغوص في وحول غربتنا و وحول الزمن المر .. كتبت عنه قبل أشهر قليلة، تحدثنا قبل ذلك كثيراً و بعدها أيضاً، ما زال صوته الحزين يئن في أذني، كان يصر أن أرسل له صورة لي ليرسمني ببورتريه من ريشته، و كنت امتنع عن ذلك، و تحت اصراره اتفقنا على أن نلتقي اذا  قمت بزيارة البلد على أن يرسم بورتريه لوالدتي بدلاً عني، رحل ياسر و لم نلتقي، رحل ياسر و صورة أمي بقيت نائمة  في حقيبة جيبي، رحل ياسر و أعماله ستنبض بيننا، عليك الرحمة كلها صديقي، و لنا و لأهلك و أصدقائك العزاء كله .
و هنا أعيد نشر ما كنت قد كتبت عنه .
خلاصة الكتب المقدسة، العتق، بوح الحزانى، صديق الأرصفة، بقايا إنسان، نساء في بوابة الجحيم، سيمفونية الدم، سأنهض، نحترق، أنا الأرض، دروب الشياطين، إسرافيل، حافات جهنم، حب في زمن الحرب، العربة السوداء … إلخ، عناوين لأعمال فنية تشكيلية، عناوين لمشروع يشتغل عليه ياسر حبيب ( الحسكة – 1971 ) تحت إسم حليقات الشعر، عنوان يوحي بالكثير، و لافت للنظر، و المهم في هذا الشأن أن بحثه هذا لا يفشل في إقناع متلقيه بمصداقيتها، قد يصل به إلى فقدان السيطرة على أعصابه، مع الأخذ بعين الإعتبار ما تستثير دواخله من فصول صاخبة، و أزعم أن بحثه هذا سيثير أسئلة جوهرية مرتبطة بصلب بناء العملية المعرفية التي تحرض المتلقي على التفكير و التأمل العميق في كل إحالاته التي ستظهر مدى تأثير ذلك في عمليات البناء الإجمالي لبحثه و مدى تأثيرها في قيمتها الإجمالية، 
نعم من الوهلة الأولى لتلك العناوين، لذلك المشروع سندرك مدى إرتفاع سلم الوجع الذي يحمله الفنان منتج تلك الأعمال، عناوين ليست تقريرية و لا غرائبية، بل نداءات حسية يستخدمها ياسر حبيب و هو يلامس ذلك الوجع، بل و هو يعيشه و يشهد عليه و يورده بالشكل الذي يرى، هي ليست إيماءات عابرة من تلك التي تتهدد بالتلاشي سريعاً، بل يوظفها لمحاً على مدار الخلق، هي ليست مجازات من تلك المتعارفة عليها في لغة التخاطب اليومي، بل أنغام موسيقية يبتدعها حبيب من التراب، من الماء إلى السماء، فثمة تواطؤ بينه و بين ما يحتفي به، و بهذا التواطؤ يواجه الواقع الفاجع بعدم السكوت، و إن كان لا بد من المداورة و المواربة أحياناً، و هو لا يعزف عن سرد الحكاية، و تهريب معناها التي ستظل تفتتح و هي تروج مزدهية بمنجزاتها و ما تقتفي، فوعيه مأهول بتصدعات الزمن و الإمعان فيها، و يصنع بيديه عزلته المهلكة، المبيدة، مأهول بمكونات أساسية تجري عليها جمالية المشهد و كيفية تناولها، موهماً بأنها تبتني المعنى و تمتلىء بلحظتها التاريخية، و هو يفطن بأنه بذلك يستدرج يتمها إلى منطقة هي مأواه، و هي مهربه في الوقت ذاته .
سيحاول ياسر حبيب في رحلة بحثه عما به يسند حريته و الفضاء الذي يعوم فيه، سيحاول أن يضع متلقيه أمام الخراب الكبير الذي يتعايش داخل الفضاء ذاته، و بأن النجاة منه منتهك في الدائرة كلها، سيحاول ألا يوهم متلقيه بالخلاص القريب، فالطريق طويل و شائك، و اليتم كثير و كثير، و الدائرة محكمة بأغلال و أقفال من حديد، سيشكل إتفاقاً بين هواجسه و استيهاماته الفردية و بين تلك الاستراتيجية التي يتبعها في بناء نصه، سيمضي إلى ما تنبأ به، أو سيرتد عنها أكثر إلى السنين العشر الماضية، أو يوغل بعيداً في آفاق جديدة، محكوماً بقلق البحث، مسكوناً برحاب اللاعودة، متناولاً الشكل الإيقاعي لمنجزه الحامل لكل الجدوى، و يتعلق بعدد منها علها ترتب دواخله بالشكل الذي عليه لا بالشكل الذي يريد، و يلح على أن الإلتزام بوجع الإنسان و آهاته هو نوع آخر من الفن يمارس في زمن لم يعد لنا، يمارس لأجل أغراض تلامس الحياة التي كانت و التي يجب أن تكون، يستدعي الصور الكثيرة لكي يفهم رمزياً ما لا يفهم مباشرة، و لهذا و على وجه الدقة تكمن قيمة منجزه بوصفه أسئلة الراهن الثقافية منها، و السياسية و الإجتماعية، أسئلة حاملة لأجوبتها، متكتمة على مقاصدها، حاجبة مرادها، محاصرة لأبعادها و معانيها، فالمنجز هنا ليس فعلاً بريئاً، هو أمارة على ما يعتمل في صلب ثقافة ما من صراعات و تحولات، نعم المنجز هنا فعلاً ليس بريئاً، فإذا تحدث لا يمكن أن يفتح مجراه إلا داخل حشود من المخاطر تظل تترصده، داخل حشود من المزالق تظل تجتذبه حتى يتردى فيها، فثمة رحلة بحث تمتلك سيرورة المدى، رحلة بحث عن الدروب المؤدية إلى اللازم من الجماليات المستندة إلى أشتات من التصورات المنتزعة من منابتها قهراً، و يبقى حبيب في حالة التساؤل، الإجابات ستكون مضمرة في المسكوت عنه، و الراية منكسة تتحول من منبر إلى آخر، لا يكرسها إلا المبشرون بأن الميدان فارغ، و يعيش حبيب ذلك، يعيش تجربة عصره و يعد شاهداً عليه، فاعلاً فيه، فالمنجز يبقى هو الإشهاد الأهم على حياة باتت صدى لحالات شعورية، تلك الشعورية الممتزجة بضفاف الحس الشعبي .
حليقات الرأس من أهم المشاريع التي يشتغل عليها ياسر حبيب، و هو بذلك لا يدين الفعل الممارس ضد المرأة فحسب، بل يدين الفعل الممارس ضد الإنسان أينما كان، و إن كانت عدسته مسلطة على مكان ننتمي إليه، و نحس بكل وجع يشير إليه، أو يبرزه بالشكل الذي يعبر عن رغبته في قول ذلك، فيبني حركة تستدعي غير المتعارف عليه، يتكىء على الصور غير الموالية، و غير المتوالية، ينفذ إلى الخيالي المحجب و الطافح بالوجع ليعابث الحقيقة، و لا يكتفي بنقلها بل يستدعي المدرك غير المعلوم، يحتمي بالجسد كنص منفتح على الأسطوري المتخفي، حتى أنه يضعنا على عتبات الأسطوري ليكون، و نكون في حضرة موجوداته و ما غاب من أبعادها، ليكون و نكون ضمن حركة لا يلغي / لا نلغي الواقع بل يدفعه إلى الذرى ليهفو إليها بكل براعمه التي ستساعده بالنهوض به أسلوبياً نحو تحقيق ما يمكن أن نسميه الكشف و التأسيس، و من المحتمل أيضاً أنه قد يلغي الواقعي ليكمل الإنتقال إلى الخيالي، و منه إلى الأسطوري على نحو خفي موغل في الخفاء، و هذا يعني أنه مفتون بالعتبات المعتمة التي في رحابها يتقاطع المعلوم مع اللامعلوم، الواقعي مع الخيالي، الخيالي مع الأسطوري، و هو حين يعنون أحد أعماله بعنوان العربة السوداء و التي يقال / يقول بأنها في ” حكايات الأولين بأنها العربة التي تنقل الأرواح القلقة إلى الجحيم، و في قصص التاريخ . في العصور الوسطى، كانت تنقل المحكومين بالهرطقة و السحر إلى المحرقة ” فهو يعصف بالهراء من الكلام من المشهدية التي تضطلع بمهمة من شأنها أن تعصف بكل ما هو لغو و لا طائل من ورائه، لذلك يضعنا في ذات اللحظة على عتبات الخيالي المحجب، لينفذ إلى المجهول الكامن فيها، في تلك المشهدية التي يداهمها بدلالات لا يمكن إلتقاطها إلا بالغور في أعماقها بدءاً من أطرافها، فالمعنى غير معطى هنا، تحتاج إلى خيالي غير متكتم على نفسه، يبدأ برؤى دالة على الموت حيناً و على الحياة في حين آخر، إلى إلتقاط دلالات تختزل المسافة و لا تلغيها، إلى إلتقاط أشد اللحظات ومضاء و خطراً، إذ حالماً يبلغها بمنجزه حتى يفتتن به و بذاته، و هنا سيجري في عروقه السجال الذي سيعلن عن نفسه و إن لم يكتمل، السجال الذي سيرفعه إلى الذرى و يعود به إلى ضياع و تيه و تلاش، فهذا الإرتداد في اللحظة و ما يتجلى فيها من إضافات هي التي ستشرع عملية خروجه المنشود، هي التي ستلح عليه في أكثر من موضع كي ينهض به، و بالمهمة الجمالية التي تضج به إلى تحقيق ما يمكن أن نسميه الإبانة و الإفهام معبراً عن ينابيعه التي تجف .
ياسر حبيب أتذكره كان لاعباً لكرة القدم، كان يلعب حارساً لمرمى نادي الجزيرة الرياضي بالحسكة، كان يحمي مرمى ناديه من ضربات خصومه، كان يحمي مرماه من تلقي أهداف الخصم، فكان هو المتلقي، يتلقى كل الكرات، يتلقاها كحارس أمين يرفض دخولها لمرماه، يتصدى لها مهما كانت مراوغة من قدم مراوغ، أما هنا فهو الفنان الذي يحمل الكرات بين أصابعه، و جاء دوره بالرمي، فيرميها في الفضاء الذي يشاء، يسجل أهدافاً كثيرة لا تحصى، يسجل أهدافاً دون أن يضغط على ذاته في لحظة مضادة، يهون على ذاته بوصفها بؤر لمشهديته التي لم و لن تكتمل، يمعن في كيفية الرمي، و هو الماهر في ذلك، لم يكن مشروعه، حلمه، ملحمته ” حليقات الشعر ” إلا بعضها، لم يكن إلا إمعانه في حفريات الحياة بمخيلة أنثروبولوجية، فهو المفعم بصراعات القوى و ضحايا الحرية على مخيلته الإبداعية، و أصبحت مجسداته مكونات رئيسية في نسيج الحياة، حياته على الأقل، و يحرص أن يسكب فيها عطره قطرة قطرة، فهو لا يسحق الزهرة بين ريشه، مهما كانت هذه الزهرة، جسداً كانت، أم تراباً، أم أغنية حزينة على شفاه العاشقين، بل بحيوية فائقة يختار ما تشكل مشاهده التي يكسبها نوعاً جديداً من النبل، تنبسط على بياضه كحركة أحداث و شخصيات تخضع لإيقاعات صارمة في إنضباطها و دقتها، غائراً الأعماق الحقيقية للوقائع و الأساطير الماثلة في التاريخ حيث يلقيها في بوتقة التخيّيل المتجسد في فنه ليمنحها الخلود .
ياسر حبيب درس الفنون في معهد صبري رفائيل بالحسكة، و كذلك في بيروت، في معاهد خاصة، حين انتقل إليها في بداية التسعينات، قدم الكثير من المعارض الفردية منها و المشتركة، إلى جانب التصوير يمارس النحت، و أعماله تزين ساحات الحسكة، المدينة التي أنجبته و أكسبته رؤية مكنته من تثبيت الزمان و ربطه بمساحات مكانية ستكون هي / فيها مخاضاته الطويلة و هذه من شأنها تخليق عوالم إبداعية مفعمة بالحرارة و الضوء .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…