بائعة الخبز

ماهين شيخاني

رنَّ جرس المنبه كالعادة في توقيته، مدَّ يده إلى الهاتف بهدوء لإسكاته، ثم نهض على مضض واستقام ليمارس حركاته الرياضية الصباحية لتقوية عضلات رقبته، التي طلبها منه دكتوره، توجه إلى المغسلة، فتح صنبور الماء وبدأ بغسل يديه ووجهه ثم مضمض ثلاث مرات، كانت عينيه شبه مفتوحة كأعين الصينيين، انتبه إلى المرآة وكأن شيئاً ما حصل للمرآة، تغير، لاحظ سواد شعره وشاربه، لكنه لم يأبه لذلك، ارتدى ملابسه، فتح الباب بهدوء ثم حمل أكياس القمامة ونزل من الطابق الثالث بخطوات واثقة وكأن الحياة عادت به الى النشاط والشبوبية، تنفس الهواء الطلق ووضع أكياسه في الموضع المحدد وتوجه صوب الفرن،
 أحس بنسيم غير معتاد وكأن فسحة الفضاء اتسعت، رفع رأسه، ترائى له بان الطوابق غير واضحة بل زائلة بشكل كامل، البيوت طينية وقديمة و الغبار تمتلئ الشوارع والسيارات الحديثة مختفية تماماً باستثناء بعض الماركات القديمة و التي ركنت بجوار بعض المنازل، كانت سيارة والده تبدوا له من بعيد وهي أيضا مركونة .. اقتربت المسافة بعد كل خطوة وقبل أن يصل إلى الفرن كانت رائحة الخبز تلفح أنفه و أصوات النساء تصل إليه، لدى وصوله إلى زاوية الشارع وعلى مقربة منهن، ألتفت الى يساره يفتقد جاره القديم المعتاد دائمآ بالتحية والسؤال عن صحته، لم يكن موجوداً في مكانه حتى الرصيف وشكل الباب تغير و مع الالتفاتة تلك نظر إلى الشمال تبين أن الجدار الكونكريتي الفاصل على الحدود غير موجود والأسلاك واضحة تعكس أشعة الشمس الصباحية والأبراج العسكرية مكشوفة حتى تكاد  مشاهدة تحركات العساكر وسياراتهم، استدار ونظر إلى خلفه أتضح له أن الجامع رجع على عهده السابق بحجمه الطيني، والمئذنة مختفية تماماً، بعض النساء كانت وجوهها معروفة لكنها كانت نضرة وجذابة وكأن الزمن توقف في لحظة ما ورجعت بهن إلى أعوام مضت، تبدون صغيرات الأعمار .
 دخل الفرن، سلم على المتواجدات، لاحظ استغرابهن واندهاشهن وهن فارغات افواههن لوجود شخص من غير جنسهن، ثم رأى بأن طاقم الفرن قد تبدل جميعه، أين الخباز ….؟. أين الأستاذ….؟. أين ذاك الشاب الجميل. حَمَدو….؟.  يا إلهي …!!!.الطاقم الجديد للعمل جميعهن من أفراد  أسرته، والزبائن كلهن نسوة . والدته وضعت عكازها بجانب الميزان، تستلم النقود من الزبائن وتضعهم بالدور وتناول الأرغفة لهم، ذكرته بقصة “بائعة الخبز ” . سأل ذاته أين الرجال…؟.اين الشباب…؟…كان سابقاً يتواجد كبار السن و قلة من فئة الشباب، الآن ولا جنس ذكر، يا إلهي هل حكم علينا بالانقراض …؟. تقدم نحو البسطة و انحنى قليلاً نحو والدته سائلاً بحنية لم أنت هنا، ماذا تفعلين وأنت مريضة وراقدة بالفراش، وقبل أن تجيب…. سمع صوت الأولاد بالقرب من رأسه يلعبون بالهاتف كالعادة يبحثون عن صورهم القديمة التي التقطوها في مدينتهم المنكوبة، فرك عينه وقال : اللهم أجعله خيراً. 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…