د. محمد المشهوري
أستاذ الأدب والنقد – الرياض
الاشك أن العمل الأدبي يسعى في خطواته الأولى للوصول إلى المتلقي، ذاك المتلقي المفترض في مخيلة الكاتب لحظة بناء مشهده الإبداعي. العمل الروائي فيه من الفضاء التواصلي ما يمكن أن يعجز عنه الشعر بحكم الطبيعة الأجناسية للرواية، بل هو ما يميز الرواية إذا أردنا التقرب من توصيف فضاء حرية الحركة للمبدع. البحث في فضاء التواصل بين باث ومستقبل ورسالة داخل عمل روائي مميز كرواية ” هوليير حبيبتي” يحتاج إلى نظرة نقدية تحفل بهذا التواصل، وإذا ما فتش عن المنهج المناسب لذلك فإن التداولية تقفز إلى أحضان الكلمات التالية لتقدم رؤيتها حول الرواية من منطلقات تواصلية.
من غير إغراق فإن التداولية([1]) ((pragmatique في المصطلح الأدبي والنقدي فإن آن ماري ديير (A.M.Dire)، وفرانسواز ريكاناتي (F.Riccanati), يُعرِّفانها بقولهما: “التداولية هي دراسة استعمال اللغة في الخطاب، شاهدة في ذلك على مقدرتها الخطابية فهي إذن تهتم بالمعنى كالدلالية وبعض الأشكال اللسانية التي لا يتحدد معناها إلا من خلال استعمالها”([2]). وجاء تعريف فرانسس جاك (F.jak) بقوله: “تتطرق التداولية إلى اللغة الخطابية والتواصلية والاجتماعية معا”([3]). وإذا ما تم الاقتراب من التداولية للبحث عن أهميتها، فإن الباحث عن ذلك سيجدها “تهتم بمختلف الأسئلة الهامة، والإشكاليات الجوهرية في النص الأدبي المعاصر، لأنها تحاول الإحاطة بعديد من الأسئلة، من قبيل:
من يتكلم؟ وإلى مَن يتكلم؟
ماذا نقول بالضبط حين نتكلم؟
ما هو مصدر التشويش والإيضاح؟
كيف نتكلم بشيء، ونريد قول شيء آخر؟”([4]).
هذه التساؤلات تبحث عن إجابة، إلا أن الإجابة نفسها تحتاج إلى عدد من الأدوات التي تمكّنها من الإجابة بطريقة ترضي المنهج التداولي. لأجل ذلك فإن التداولية نفسها “تستدعينا للإجابة عن هذه الأسئلة إلى استحضار مقاصدنا، وأفعال لغتنا، وسياق تبادلاتنا الرمزية، والبعد التداولي لهدف اللغة المستعملة، فوُجد مفهوم الفعل ومفهوم السياق، ومفهوم الإنجاز، في التداولية كمقاييس ومؤشرات على اتجاهات النص الأدبي في النظرية النقدية”([5]).
من الصعب تتبع الرواية بكافة أدوات المنهج التداولي، لكن سأحاول أن أتحدث بشمولية مستوفيا الظاهرة الفارضة لنفسها في العمل بمنطلقات تداولية. حاول الروائي كتابة رواية تمثل شيئا يعيش واقعه ويحيا بيئته، وهذا أمر معتاد من المبدع الذي يستثمر كل لقطة حياتيه تمر به. إلا أن المهمة الأصعب التي ستواجه الكاتب هي في كيفية إقناع المتلقي بهذا الحدث الروائي؛ فالبنية الحكائية للحدث الرئيس للرواية تجنح للحياة للتوثيق التاريخي، أو السيرة الذاتية وإن كانت تروى على لسان مدينة إذا ما تم توسيع المفهوم العام للسيرة الخاص بالإنسان. إن السرد التاريخي على لسان مدينة “هولير” الكردية ـ وهي شخصية رئيسة في العمل ـ يجعل من المتلقي يدخل جمود الحدث التاريخي الخالي من التشويق الجانح بقوة للتقريرية المباشرة وهذا يجري تماما عكس التيار للطابع العام الإبداعي. هذا الملمح هو ما يمكن أن يثير تساؤلا كبيرا حول تكنيك الروائي المتبع للتخلص من هذا المنزلق الذي قد يعصف بالعمل ومن ثمَّ ترك المتلقي للرواية في أولى صفحاتها، مما يعرقل عملية التواصل الخطابية بين الباث/ الكاتب والمستقبل/المتلقي في رسالته/ الرواية. اعتمد الكاتب على عدد من التقنيات الكتابية لتكون طوق نجاة إسعافي هربا من المنزلق الخطر/ الجمود. من أهمها:
1ـ جماليات المكان: جعل الكاتب من هولير وهي تسرد وتحاور شخصيات العمل تظهر بصورة فاتنة تكشف في كل مرة عن زاوية مجهولة منها، وفي كل مرة تغري المتلقي بقراءة المزيد في محاولة منه للبحث عن كشف أكثر. ولا يغيب ذلك عن الكاتب؛ حيث وصفها في آخر الرواية بأنها “عروس الأمل”. من ذلك: “أدرك في لحظات أن هولير ليست كجميع المدن التي سافر إليها ، وأقام فيها . إنها مدينة الحلم الأزلية التي لا تقبل أن يدخلها المرء كما يدخل غيرها، أن يقيم فيها كما يقيم في غيرها، ثم يتركها كأن شيئاً لم يكن . إنها ترفض ألاّ تتميز عن سائر أخواتها المدن في أرجاء الأرض، وهي التي استحوذت على قلوب ملوك وأباطرة وجبابرة وسلاطين وقادة الدنيا منذ فجر تاريخها، هي التي ضعف الجبابرة أمام قدميها، وهن الملوك أمام سحرها ، استسلم الأباطرة لبديع قوامها ، خار السلاطين في حضرة هيبتها.”([6])
2ـ ذاكرة المكان: المكان لم يحضر بجماله الحسي فحسب فكانت الذاكرة التي ترويها المدينة/ هولير آسرة في أحداثها، فاستذكار ماضيها الذي تغلبت فيه على الصعاب جعلت المتلقي يقتنع بطرح هذه الذاكرة فقد كانت المدينة/ هولير توجه خطابها لشخصيات العمل نفسه من باب تسليتهم وبث روح التفاؤل فيهم من جديد، مما أعطى القراءة للرواية شيئا من الإقناع.
يقول: “من جنبات هولير يفوح عطر التاريخ، كلهم ذهبوا، وبقيت هولير، تزداد ألقاً، تكتمل جمالاً حاضنة أمينة لأبنائها الكورد، وقد لبثوا متشبثين بها، ولبثت متشبثة بهم في سفينة يمّ التاريخ. يشعر أحياناً بأنه في منتزه كبير على سرير هولير التي تتوسط الزاب الأعلى، والزاب الأسفل، بحيث يكون شرقها أعلى من غربها، وشمالها أعلى من جنوبها. يطوف قضاءاتها: قضاء خبات.. قضاء جومان.. قضاء سهل أربيل..”([7])
3ـ التشخيص جعل المدينة تتحدث، وتحس بمن حولها، ثم تأتي هي وتتولى دور “الحكواتي” الخارج من رحم التجربة، أكسب الرواية صفتها الإبداعية بقوة جامحة؛ إذ هذه الروح العالية عامل مهم في جذب المتلقي وكسر الجمود، بل هي الفتاة الفاتنة، عندما قال: “بدت هولير أمام ناظرَيه أعذب امرأة لم ترها عيناه من قبل، لم تتبرك قدماه بطواف محجها من قبل، بدت تسحره بكل لمسة من لمسات أناقتها الفائقة وهو يقاوم دفقات مشاعره الفياضة نحو وهج تألقها.”([8])
4ـ المراوحة في الطرح التاريخي: وجود الحدث التاريخي والاعتماد على الذاكرة المكانية ما جعلت الرواية تشبه كتب التاريخ، فقد عمد الروائي إلى أسلوب المراوحة في الطرح، وفي كل مرة يعود إلى ذاكرة المكان التاريخي من خلال حدث مقنع يجعل المتلقي يعود بسلاسة نحو تلك الأحداث، وكان ذلك مبثوثا في العمل على نحو لافت.
متعة السياحة القرائية يتوافد السياح من كل بقاع الأرض ، يجوبون أركان القلعة الأزلية ، يحاكون الأوابد ، يمارسون طقوساً قديمة ، يتبرّكون بملامسة الجدران، يستنشقون عطر القرون الغابرة ، يطوفون المداخل ، الدوائر ، المنعطفات ، يصعدون المرتفعات، يهبطون المنحدرات ، يتلمسون شغاف الآثار النفيسة . لقد سحرتهم هولير ليقطعوا آلاف الأميال إليها كما سحرت قبائل الدنيا قاطبة من قبل . تستمتع هولير ، وتمتلئ شعوراً بألق مجدها ، وأنها تزدان في أوج فتنتها الخلاّبة عندما يقع المرء في ثنايا عشق مدينة ، عندما تسحره ذرات ترابها ، عندما تسكنه شوارعها ، شارعاً شارعاً ، ضواحيها ضاحية ضاحية ، أحياؤها حياً حياً ، أقضيتها قضاءً قضاءً ، أشجارها شجرة شجرة . عندما تأسره بحبها ، وتهيمن على كل خفقة من خفقات فؤاده . كم يطيب النوم في رحابها ، يروق المشي في دروبها ، ينتعش النسيم في محرابها ، تتلألأ الزهور على أشجار حدائقها . تضفي على كل شيء مسحة من سحريتها ، كل شيء يتفوّح بعبق ريحها . أدرك في لحظات أن هولير ليست كجميع المدن التي سافر إليها ، وأقام فيها . إنها مدينة الحلم الأزلية التي لاتقبل أن يدخلها المرء كما يدخل غيرها ، أن يقيم فيها كما يقيم في غيرها ، ثم يتركها كأن شيئاً لم يكن . إنها ترفض ألاّ تتميز عن سائر أخواتها المدن في أرجاء الأرض ، وهي التي استحوذت على قلوب ملوك وأباطرة وجبابرة وسلاطين وقادة الدنيا منذ فجر تاريخها ، هي التي ضعف الجبابرة أمام قدميها ، وهن الملوك أمام سحرها ، إستسلم الأباطرة لبديع قوامها ، خار السلاطين في حضرة هيبتها
كل ركن في هولير يطفح بلمسة سحر مباركة كل شيء يتعمد – طوعاً أو كرهاً – في معمودية هولير : هديل الحمام على أسطح هولير زقزقة العصافير على أعالي الأشجار في صباحات هولير الباكرة قباب المساجد في أزقة أحياء هولير إيقاع سكون الليل في بيوت هولير متعة المشي الهوينا على فضة أرصفة هولير حفيف الشجر في شوارع هولير تذوق قشدة غفوة القيلولة في ظهيرات هولير . ليس في هولير موضع غير قابل لخفقة عشق ليس في هولير لمسة غيرقابلة لهمسة قلب كل ما في هولير يطفح في نظره بألق فتنة الجمال . حينئذ يشدو فؤاده كما لم يشد من قبل : ما أبهى خصلات الشمس في ثنايا جدائل شعرك ياهولير ما أروع معالم غروب الشمس على ضفاف ضواحيك ياهولير ما أجمل ظهيرات القيلولة في أركانك ياهولير ما ألذ احتساء قهوة في فيء عصرك ياهولير ما أطيب عطر العشاء في أماسيكِ ياهولير ما أعظم شأنك ياهوليرتي ما أسماك ياهولير وأنت هولير .
هكذا بدت هولير مدينة زاهية في ناظرَيه ، تُكحل عينيه بكحل لمسات ولوج رحاب مملكتها السحرية
يتأمل جماليات مقدمات معالمها، وهو يطلب من السائق كي يخفف من سرعة السيارة ما أمكن حتى يملي عينيه من مشاهدة جماليات مداخلها ، ينتشي بشم عبير عطر ترابها الفواح الذي بدأت تنهمر عليه زخات مطر رذاذية ، وهي تشرع ذراعيها مرحبة بكل زائر وضيف على رحب وسعـــة . ختاماً.. ما سبق يمكن القول عنه بأنها وسائل تواصلية جعلت من الخطاب في العمل الروائي يحقق نجاحا في إيصال رسالته، وهذا الطرح الواعي من الكاتب جاء من تجربة كتابية طويلة، فروائي مثل عبدالباقي يوسف والتي أسعفته ثقافته كثيرا لتناول طرح تثقيفي تاريخي بإقليم كردستان من خلال المدينة “هولير” آتت ثمارها في قالب عمل مميز9.
الهوامش:
([1]) انظر: محمد المشهوري، الحوار في شعر محمد حسن فقي: دراسة تداولية، منشورات كرسي الأدب السعودي/ جامعة الملك سعود، ص1ـ4.
([2]) د.نعمان بوقرة، اللسانيات: اتجاهاتها وقضاياها الراهنة، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 1430هـ/ 2009م، ص162.
([3]) المرجع السابق، نفسه.
([4]) فرانسواز أرمينكو، المقاربة التداولية، ترجمة: سعيد علوش، مركز الإنماء القومي، (د.ت)، ص5.
([5]) المرجع السابق، نفسه.
([6]) عبد الباقي يوسف، هولير حبيبتي،
([7]) عبدالباقي يوسف، هولير حبيبتي،
([8]) عبدالباقي يوسف، هولير حبيبتي، صدرت الطبعة الثانية من الرواية عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع في القاهرة 2021