العربات الحمراء

قصة: ستيغ داغرمان

ترجمة: فرمز حسين
على الأغلب أن الذي صعد القطار كان شخصاً مريضاً للغاية ،موظف القطار  الواقف على الرصيف و الذي كان يُلَمّع بابهامه إحدى الأزرار الأكثر بريقاً في سترته، ركل فجأة قطعة من الجليد المتلالئ على حافة الطريق، تحطم الجليد على السكة مصدراً  صوتاً عنيفاً, لكن ليس مخيفاً أبداً.
الرجل الذي يفترض أنه مريض قفز بشدة و انحنى في حركة غريبة  بالجزء العلوي من جسده من فوق البوابة و كأنه يريد أن يتقيأ. محفظته و حمالة المفاتيح و التذكرة البنية الرقيقة تطايرت من إحدى جيوبه و سقطت على الأرض من خلفه. لكن الرجل المريض هذا اذا كان فعلاً مريضاً لم ينتبه لذلك.
هالوا .. لقد سقط منك  شيئاً  نادت عليه صبية ترتدي سترة شتوية خضراء و تضع عقدة  فضية جميلة على طرف صدرها، مرت بجانب عربة القطار  بخطوات واسعة واثقة و كانت لاتزال بعيدة  قبل أن تصل  كلماتها و تثبت وَقْعَها على الرجل. لكن الرجل  بقي واقفاً دون حراك  على الحافة الخلفية للرصيف ينظر إلى قطعة الجليد وهي تذوب تحت أشعة الشمس القوية. بقايا الثلج الأصفر  الذائب كان يزحف مثل اليرقات على السكة.  السخام و الزيوت كانت تحوم في بقع كأحواض صغيرة و تجذب قطع الجليد النظيفة اللامعة إليها و كأنها أفواه ملوثة تبتلع بقايا الجليد المتناثر. الرجل بدا شاحباً لدرجة مَرَضية, الشفتين مشدودتين بتوتر ، الكتفين مضغوطين و كأنه يتألم، النظرة و كأنها غائرة في محجرها مسحوبة بجاذبات خفية،   اليدين البيضاوين الناعمين ملتصقين بشكل مؤلم بالحديد- موظف القطار و برقة واضحة، أمسك ببطء يد الرجل و وضع الأشياء التي كان قد أوقعها للتو في راحة يده الباردة.
دعني  و شأني , قال الرجل بصوت خافت لكن باستياء مفاجئ,  ضراوة رده  أثار فضول موظف القطار أكثر مما أحزنه. تمنى لو أنه يمسك بالرجل من كتفيه و يعيده إلى الخلف و بحركة سلسة يرفع جفنيه لكي يرى ذلك السر الدفين من خلفهما.
لكن القطار غادر المحطة و عليه واجب العمل يجب مراعاته و ثقة تامة من رؤسائه عليه تقديرها. أن ينجرّ خلف اندفاع آني سريع وراء مسافرين غرباء قد  يُسبب له عواقب وخيمة. أغلق الحاجز ، قطع التذكرة و هيأ نفسه ليتابع في العربة. انطلق القطار محدثاً  أصوات ضربات عنيدة قوية كأنها شرارات عاصفة خلفت وابلاً من المطر الهاطل من حول القطار. و التقطت  أذنيه  المعتادتين تلك التغييرات الصوتية عند السير على مفاصل السكة و عبور مناطق تحويلاتها . 
حينها أمسك أحدهم ذراعه بحركة ناعمة ودية، برفق لكن مع بعض دلالات التعجل. الرجل المفترض أنه مريض انحنى بشدة أمام الجابي ، و كأنه يتألم من وجع ما و لكنه لايزال يمتلك قدرة خفية للاعتدال بادياً ذلك من خلال ارتجاف جسده البائس من تحت المعطف الفضفاض.
تعال اخبرني ، لم ركلت للتو قطعة الجليد تلك؟ للحظة بقي الجابي مندهشاً ، حواجز قطارات الشحن الاعتيادية مرت من أمام بصره و سؤال الرجل الغريب عَبَرَ إلى دواخله مثل رأس سهم بارق حاد . أوف.. و كأن دماءً سُفكت ، لماذا  ركل؟!
بدا مرتبكاً وهو ينظر في المشهد الذي بدأ يختفي، ياالهي : كل شيء اختلط عليه، ملايين بل مليارات المرات عَبر من فوق التقاطعات ذاتها، و لكن حقيقةً هذه هي المرة الأولى التي يرى تلك الحافلات الحمراء مثل الحشرات و عليها أسلاك الاتصالات معلقة تتمايل ببطء في وسطها فيما تعبر الجسر. 
أعمدة الكهرباء تلامس كتل الغيوم في  السماء الأزرق، و في مشهد شبيه بداخل صالة سينما ضخم  اختلط الرجال الذين يرتدون الملابس الزرقاء مع أضواء  المصابيح الحمراء.القضبان الحديدية لمعت التواءتها مع عبور التحويلات  و تلك المياه المتسخة الذائبة بدأت تسير في مختلف الأقنية المحيطة بمنطقة السكة و  جليد البحيرة  الأصفر  بدأ بالذوبان تحت أشعة الشمس و هواء ربيعي نقي ملاْ المكان .
كمٌ كبيرٌ من دخان القطار ذي اللون  الشتائي الداكن طغى على معالم المدينة كلها.
تخيل أن شيئاً  في دواخله قد تلاشى ببطء و كأن دعامة قوية كانت تُنصب قوامه بارتفاع  مئة و خمسة و سبعون سنتيمتراً من سطح الأرض فجأة بدأت  تذوب و  تنهار تماماً  ، و الكماشة هي التي أنقذته ، أخرجها من جيبه حاملأ بين أصابعه باردة جامدة مثل قطعة سلاح بين يديه.أحكم عضلات يديه بعنف واضح نوعاً ما ، لو كانت الكماشة مسدساً لأفرغ طلقاته في جسد الغريب. لكنه لوّحها في الهواء وفي القرب لمعت الكماشة تحت ضوء الشمس. الجابي انتعش بلمعان الكماشة التي جذبت كل عالمه الى جانبها اللامع كالمرآة. عض على شفاهه أمام الرجل الذي كان بالتاكيد مريضاً و بعد ذلك أدار له ظهره و دخل إلى المقصورة و قطع.. و قطع ..و قطع.. و قطع. 
الآن على أية حال نستطيع أن نقول بأن الرجل و اسمه (هيلغي سامسون ) لم يكن قط مريضاً ، ليس بالشكل الذي تصورناه على أية حال، نعم وجهه كان شاحباً و لكن اقامة ثمانية أعوام منذ شروق الشمس و حتى المغيب داخل مستودع للأقمشة تحت الأرض لا يخُلّف و جنات حمراء وردية.
كتفاه ضئيلان و لكنه كان معتاداً أن يشغل حيزاً صغيراً جداً من المكان . مع السنين كانت الشركة التي يعمل فيها تكبر و كذلك عدد بالات الأقمشة و لكن ليس المستودع نفسه أي المكان. و شخصاً مثله دون أكواع وأكتاف عريضة كان مناسباً للمكان .
الغرفة التي كان يستأجرها عند السيد (أوبيرغ) كانت أيضاً صغيرة ، و كان يشغل مساحة صغيرة جداً حتى عندما كان في الحدائق العامة الكبيرة و الغابات المترامية الأطراف . عيناه ربما كانتا تبعثان على بعض القلق ، نظراته كانت دائمة محصورة في اتجاهه ، يعني في اتجاه خاطئ اجمالاً.  لكن كل من يعرف مدى تأثير العمل الشاق عليه داخل مستودع ضيق بين بالات الأقمشة لا يستغرب هذا السلوك .
ظاهرياً ( هيلغي سامسون) انسان بخصال عادية تماماً بدون تلك العلل ، و حتى التهاب الرئة لم يعطبه كثيراً حتى ذلك الحين. و لكنه كان قد وجد اكتشافاً أقلقه، أربكه و أخافه، هو نفسه سماه با اكتشاف ( أبعاد الشر).
بدون دلائل واضحة كان قد توصل الى أنه سوف يعيش في حالة  دائمة من القلق و التوتر. ذلك الاكتشاف الصادم الذي اكتشف هلغي سامسون و ليس العكس في ليلة متأخرة ما بين الثالثة و الرابعة صباحاً حيث بقي مستيقظاً في سريره في غرفته الصغيرة ، غير صاح تماماً على العكس مخدر بعض الشيء من تعب عادي. طبعاً كان وحيداً ، كانت هناك فتاة و كان معجباً بها عن بعد منذ مدة طويلة رافقته مرة إلى غرفته حيث كان قد أقنعها زاعماً أنه يريد أن يريها  قطعة نفيسة من القماش و هو كان يعلم تماماً بأنها في حقيقة الأمر ليست سوى قطعة “جورجيت” رخيصة الثمن.
لكن مع ذلك فان الاكتشاف أثّر عليه بشكل أقوى من التوقعات. لقد بدأ منذ فترة يستيقظ كل ليلة مع عبور قطار بضائع طويل جداً متجهاً نحو الجنوب باجهاد كبير و هو  يسير  صاعداً إلى جسر سكة الحديد الذي كان يراه من خلال اطلالة نافذة غرفته.
لأكثر من نصف ساعة كانت تلك الأصوات الرتيبة المتكررة تنحشر من داخل القاطرة الى غرفته و الى داخله هو نفسه.
قلبه بدا و كأنه يخفق بالتوازن معها ، في البداية كان يجد صعوبة في التنفس من خوف أن تخرج قاطرة القيادة عن السكة و ذلك يشكل خطراً على قلبه أكثر من ذلك الخطر الذي قد يشكل على المسافرين في حافلات القطار .
كان قد فتح النافذة و وقف أمامها بطوله و هو ينتظر  لكي يرى على الأقل أخيراً وهج أضواء القطار العالية  و هي تنير أعمدة الجسر و لكن الانتظار كان يطول بشكل لايطاق، لكن لولا ذلك لكان شعور غريب بالوحدة يسيطر عليه. الشارع خال من المارة يعمه السكون و لاحتى وقع خطوة واحدة تسمع من باحة السكة الحديدية ، مبنى المحطة الكبير مظلم و مقفر و السكة الحديدية الطويلة اللامعة مع الجسر الممتد بعيداً ، خالية من الثلوج بفضل الرياح القوية التي تأخذ في طريقها الثلوج بعيداً .
حقاً كان صوت القطار فقط و هو يقترب أكثر فأكثر و يرتفع بشكل متقطع كلما ازدادت حدة الصعود و يستمر هكذا طوال الليل.
ينتابه البرد و هو بلباسه الليلية الرقيقة و لكن الأهم من كل شيء أنه كان يجد في عبور القطار من أمام شرفة نافذته طويلة و رفيعة و هي تلمع من تحت أضواء المصابيح المعلقة المترنحة . الدولاليب الكبيرة كانت تبدو و كأنها لا تتحرك، و بعناد و بطئء تتشبث بالسكة و الرايات التي كانت تبدو شبة واقفة ثم يسير القطار على الجسر  ، تلك الرايات كانت عالية ومستقيمة شبيهة بمنظر القبعات التي تُلبس في مراسيم الدفن. القطار بدى خالياً تماماً  و أبواب العربات أغلقت ، الدخان الأبيض انخفض مثل غيمة بينها سرب نوارس من فوق سقف العربات الرطب اللامع.
حتى في ليلة منذ وقت ليس ببعيد كان “هيلغي سامسون” لا ينتبه لأي شيء غير عادي مع قطار الشحن هذا ، حتى أنه كان متأملاً بأن يبدأ بالتعود على الضجيج الذي يصدره بحيث مع الأيام لا يستيقظ في ساعة غير مريحة . جاره الذي يسكن في الغرفة المحاذية له  “عامل فني “ذو شعر أحمر مولع بالدراجات النارية ، كان قد أعطاه تذكرة لحضور سباق الدراجات على الجليد يوم الأحد و لكي يتابع تفاصيل السباق أعطاه ايضاً منظاراً.
“سامسون” كان قد ترك المنظار على عتبة النافذة . و في الليل استيقظ أخرج المنظار من غطاءه و وضعه أمام عينيه باتجاه القطار. التفاصيل الموجودة على مقصورة القيادة على سبيل المثال اسطوانة غريبة الشكل تحت المقصورة  التي فيها مقعد سائق القطار  الخالي ، جذبت انتباهه و لكن  هذا بعد أن تفحص بدقة وعلى ضوء القمر تلك العربات التي كانت تسير ببطء شديد جداً  و التي كان ينظر اليها وهو مثقل من الاعتقاد بحقيقة غريبة. في جوانب كل عربة طولاً و عرضاً كانت عليها اشارات بلون أحمر داكن أغمق من لون العربات الأحمر العادي نفسه، اشارات على شكل خطوط لامعنى لها. خطوطاً عشوائية على المقابض ،دوائر مرسومة بعشوائية في زاوية ، و في أماكن أخرى ،مساحة كبيرة من الرسومات الحمراء، أحيانا بعض الرسوم بايحاءات بسيطة  بلون أزرق مباشرة فوق العجلات المزدوجة رسوم  بلا أي مغزى . لكن فجأة سقط من يده المنظار ، هناك كان قد تحطم في ضوء القمر. و كأس سقط على الأرض استقر على طرف حفرة .
جاهلاً بكل هذا ترنح هيلغي سامسون و سقط على سريره بعينين دامعتين، غير قادر من الناحية العملية على النظر في محيط الغرفة أو إلى نفسه و لكنه رأى بشكل واضح وضوح الشمس “أبعاد الشر و تواجده” التي كُشِفت له وضوحاً ، وكأن العيون قد خرجت من مآقيها ووضعت على طبق و صبغت بتلك المعرفة الرهيبة ثم أعيدت إلى محاجرها .
 قطار الشحن الطويل بالعربات الحمراء بدت و كأنها تنقل الحطب من قرى نائية في الغابات أو مواد البناء إلى إحدى شركات الهندسة ، أسلاك معدنية نحاسية أو أي شي آخر . هذه المهمة ان كانت لها على الأقل أية أهمية فانها قد تكون مدخلاً للعبور إلى مهام أخرى : أن تمثل الأشرار، أن ترهب ، أن تبعث القلق ، أن تثير الذعر ، تؤثر على تحوير أعمال تم التحضير لها في اتجاهات مريبة. عرقلة تحسينات جارية و ما إلى ذلك.
كان تأثير هذه التجربة خارقاً ، جعلت  هيلغي سامسون يخرّ دون مقاومة في قاع عالم مرعب معزول محاط فقط بأسوار  تلك المعرفة المجردة ، غارقاً في العرق و الدموع مُسجّاً مشلول الحركة حتى الفجر، حينها استقيظ مرتجفاً بشكل أو بآخر  خرج دون التفكير في البرد القارس و لا في الوحدة المطلقة التي تحوم في الخارج ، في الشوراع العريضة البيضاء المستقيمة في تلك المدينة الصغيرة .
يبدو أنه بدل الرؤية و السمع و الشعور قد اكتسب حاسة أخرى لا  تخطئ ، تقتفي وتكشف له كل مظاهر و جود الشر. في كل مكان يتواجد فيه هناك مايؤكد على تجربته في الليل . نزل إلى ساحة السكك الحديدية،  على إحدى السكك وجد جرذاً  مرقعاً بفراء متجمد ، و عصفور ميت معلقاً من رجليه برباط أخضر بشجرة بتولا مغطاة بالثلوج. 
في صالة وجبة الافطار الباكر  المشترك  حين عاد أخيراً إلى البيت ، أسقطت المضيفة فجأة ملعقة السكر على الأرض و على الرغم من أن جميع الساكنين حاولوا العثور عليها لكن دون جدوى و بقيت الملعقة ضائعة . وعلى الرغم من ذلك الضغط في وقت  الفطور  طلب من المضيفة تبديل غرفته المشرفة على الشارع  مع غرفة العامل الفني الأصغر مساحة من غرفته نفسها ، غير مشمسة و ذي رائحة كريهة . صحيح أنها أرخص أجاراً ، غرفة تطل على الحديقة الداخلية ، جاره “فني المحركات ” طبعاً راق له الاقتراح و في الحال قاما بتبادل نقل حاجياتهما القليلة. فني المحركات كان في غرفته “مزمار “دراجة كان قد حصل عليه خلال إحدى سباقات الدراجات النارية حيث توفي السائق حينها في حادث أثناء قيادته الدراجة هناك.
كان مثبتاً بالمسامير على جدار غرفته المطلة على الحديقة الداخلية و على الرغم من جهود الاثنين معاً لم يتمكنا من نزعه من الجدار و لذلك بقي معلقاً في مكانه. “فني المحركات” يروي هذه الحكاية ضاحكاً ، بينما هيلغي سامسون ينظر إلى  هذا التذكار  برهبة و  خوف.
ظَنُّ “هيلغي سامسون” بأنه مع تبديل الغرفة سوف يستطيع النوم دون مضايقات لم يكن في محله بل قد خدع نفسه تماماً.  مع تبديله الغرفة ازداد احساسه بالخوف من الضغوط المرعبة بشكل كبير جداً. فالضجيج البدائي الذي يأتي من أكثر من مسافة كيلومتر بعيداً بدأ يسمعها الآن  و هذا مالم يكن يحس به سابقاً في الليل. استيقظ و جلس على سريره. ضربات خفقان قلبه تزداد  وتيرتها في صدره، نعم ليس فقط في صدره بل في جميع ثقوب جسمه ، و ليس فقط ذلك بل في كل أنحاء غرفته و في جميع الغرف من حوله، في جميع غرف البلاد ، و في جميغ غرف العالم. بقلق متزايد سريع سمع صوت قطار الشحن تقترب أكثر فأكثر  و معرفة أنه لن يتمكن من رؤية القطار كادت تجننه ، لأنه الآن ليس لديه أية قدرة على مراقبة أشكال العربات الحمراء التي تغزو مخيلته المهووسة و تلاحقه بكلمات مرعبة . بكثرة أحياناً و  بتباطئ أحياناً أخرى لدرجة أن حروف تلك الكلمات كانت مُعدية . تمثل رموزاً  موحشة لدرجة أن جميعها تشير إلى تصرف وحيد مرعب . كل تلك الرموز مكتوبة بأحرف حمراء ملتهبة.
لكي لا يغريه رغبة العودة الى غرفته القديمة حين يصبح الضغط على أشده  لدرجة يصعب معها الاحتمال ،كان يقفل غرفته في وقت مبكر و يخبئ المفتاح تحت فراشه و يحاول حتى أن ينسى هو نفسه أين وضعه. بشكل أو بآخر كان قد قضى ليلته . استيقظ من سريره . متعرقاً جداً و لازال يرتجف بعض الشيْ و لكن ليس مجنوناً، و ليس أشيب الشعر. لايزال يستطيع الوقوف على قدميه. جاء متأخراً إلى صالة الطعام ، و عيون جميع الجالسين تحولت من الصحون التي التي تنبعث منها بخار الطعام الساخن  لتتجه نحوه.
هل من المعقول ، قالت المضيفة لتوها . أن الملعقة كانت تحت شجرة الميلاد على بعد بضع أمتار من الطاولة . لكن فقط ” هيلغي سامسون” الرجل الأقل أهمية من بينهم فهم ماوراء ذلك.
الآن حين كل شيء قد انتهى لو سألنا في مكان عمله ، كيف كان يتصرف “هيلغي سامسون” قبل أن يتم فصله من عمله بأيام قليلة، على الأغلب أن الجميع تلك البائعة الطويلة ذي البشرة الجافة ، الآنسة التي تعمل في المستودع، المحاسب “كلانكس” المربوع ، الذي يسعل دائماً حاملاً كماشة صفراء مرعبة يستعملها لصد النظرات الغريبة نحوه. المدير ” مومس” الذي دائماً يكثر من الايماءات سوف يهز كتفيه متأسفاً  ليقول متردداً:  انه لم يكن مختلفاً عن المعتاد.
و لعل ذلك صحيحاً. محصوراً بين بالات الأقمشة المرتفعة حتى السقف زاحفاً في ممراته الضيقة  بحثاً عن قطعة قماش مطرز ، كل ذلك بين تلك الروائح المتغيرة الصادرة من مئات الألوان المختلفة و الأقمشة ذي الأنسجة المتميزة و التي كان يعبر من خلالها بهدوء . كان يختبر راحة دون تعقيد. كان ذلك بمثابة نوم بلا أحلام. هو عن نفسه كان يود لو  أنه ينزوي في داخل تلك الأقمشة المخيفة . هناك فقط تنزلق العناكب الحمراء  فيها بشكل مخيف . و تحفر في سطح قطعة  قماش تفوح منها رائحة عطرة و من ثم تختنق ببطء. لم لا ، كل شيء بُطولي  يعدّ غريباً عنه. و على الرغم من ذلك الاكتشاف الصادم “لأبعاد الشر و تواجده “. و للمفارقة وسط كل ذلك الخوف و القلق شعر ببعض الهدوء و الارتياح ، لم يكن مهماً كثيراً بالنسبة له أن يبقى في هذ العالم لكي فقط يزداد معرفة به.
لكن حتى في مستودع الأقمشة كان هناك كثيراً ما يدفعه من الهدوء إلى القسوة . في العالم ثلاثة أصوات: البائعة ، والتي تسمى آنسة المستودع،  التي بعناد وبطنين و اصرار النحلة كانت تعرف مكان تواجده مهما حاول الاختباء. دائما كانت هناك قطعة ربما بخفة الريش من قماش الموسلين ، فلانيل ولادي أو قطعة خيش مختفية هنا و هناك من رفوف المحل و هي تبحث. و من ثم ” المحاسب كلانكس”  ينعق دائماً مثل طير عقعق محموم  لتصيد رقم مفقود هنا أو هناك. و أخيراً “المدير مومس” و ثرثرته التي تُسمع صداها هنا وهناك بين الجدران و غريباً حقاً  أنها تُسمع حتى حين لايكون هو نفسه موجوداً.
بنبرة حادة مثلاً يطلب جميع البيانات المتعلقة ب”هيلغي سامسون” التي لم يكن يحتاج اليها و التي عملياً ينساها مباشرة فيما بعد.
يبدو أنه لم يكن هناك مفراً من” تواجد الشر  و أبعاده”و التأثير عليه هنا أيضاً.
في الجانب الآخر كان يقيم قارع أجراس أشيب منحني الظهر ، كان يأتي أحيانا إلى المستودع و يتهامس مع المدير مومس حول مواضيع تجارية في سرية تامة . و اشاعات غير مؤكدة حول ماهية هذه المحادثات التجارية السرية كانت  تدور بين الموظفين. في هذا الصباح كان قارع الأجراس و على كتفه حبل  في غرفة المدير مومس و إجابة على سؤال المحاسب له عن ما هو فاعل بذلك الحبل ، أجاب مازحاً بأنه سوف يشنق نفسه به. سامسون سمع ذلك وفي تلك الحالة النفسية  التي كان هو نفسه فيها و بعد ليلة أخرى كان قد قضاها دون نوم صدّق ما سمع  و أخذ الأمر بكل جدية . محاطاً بالخوف ارتدى ملابسه و خرج خلسة من المستودع ليتبع عن بعد قارع الأجراس . و من الغرابة أنه لم يكن مندفعاً عن رغبة في إنقاذه ، كأن يقنعه مثلاً بعدم تنفيذ ما هو مقبل عليه . بدل ذلك و هذا ما كان يخيفه أنه كان يفعل ذلك لحاجة في نفسه ، أن يرى بأن عملية الانتحار سوف تتم فعلاً. بعد تجوال طويل  في طرقات ملتوية كانا قد وصلا إلى كنيسة في الجانب الغربي من أطراف المدينة . قارع الأجراس صعد السلالم الخشبية القديمة الى البرج. “سامسون”  تبعه بحذر فقط لكي يرى بأن قارع الأجراس سوف يقوم بتبديل الحبل المتهالك  إلى الحبل الجديد . 
في صمت و خوف خرج مسرعاً و لكن عند بوابة الكنيسة فجأة صعقه رنين أجراس الكنيسة، مستغرباً تَوَقفَ و استمع و بعدها  تابع سيره مذعوراً خارجاً من هناك. بوضوح مذهل بدأت أجراس الكنيسة عبر السماء الضبابي من فوقه تقرع : رجل مشنوق -رجل مشنوق – رجل مشنوق  و ليس فقط من الكنيسة التي في غربي المدينة بل من معابد المدينة و من الكاتدرائية ومن كنيسة التبشير ، نعم أجراس كنائس المدينة جميعها ترن بالايقاع نفسه و تطارده عبر المداخل الجليدية و الشوارع التي تضربها الرياح وحتى إلى داخل مستودع الأقمشة التي عاد إليها.
بالطبع تم توبيخه على تغيبه عن العمل من قبل زملاءه الثلاثة و لكن ثمار تغيبه جعلت أصوات التوبيخ تلك دون  أهمية و كأنها تفوت في الجدار من خلفه .
أسرع الى وسط مستودع الأقمشة و صنع لنفسه حيزاً يضمه من بالات قماش الحرير، و بهدوء تساقطت عليه تلك الأقمشة المشبعة بالروائح المعطرة و تراكمت من حوله نعم تساقطت عليه لدرجة أنه اختفى و كأنه كتلة من القماش رخواً عديم القدرة على المقاومة، وبقي دون حراك. حينها و قبل أن يتم تحوله النهائي  إلى جسد هامد بثوان معدودة تناهت اليه  صوت ” آنسة المستودع” على شاكلة نحلة تطن بلا هوادة عبر الأقمشة و إلى مخبأه: سيد سامسون ، قماش الفلانيل الأصفر! الفلانيل الأصفر سيد سامسون ! سيد سامسون، سيد سامسون. أين انت؟
شبه مختنق انحنى ليخرج ، من وسط الغبار، عثر على القماش المطلوب . الفلانيل الأصفر  وعليه رسوم مستمدة من حكايات طفولية خيالية فيها جنيات و أطفال سعداء و بسرعة خرج الى المحل ، مدّ القماش على الطاولة و أمسك الزبون بالقماش بين اصبعيه يتحسسه. سامسون  شعر بشر متوقع . آنسة المستودع قدمت له المقص الكبير قائلة : قصْ، سيد سامسون!
لم يحصل ذلك من قبل و لم يكن هناك حاجة ليحصل ذلك سابقاً أبداً  لأنه لم يكن من ضمن اختصاصاته أن يساعدهم في أعمال البيع في  المحل .
أمسك المقص بأصابع متحسسة و أدخل فكيه في المكان الذي يراد قصه من القماش . حين بدأ بقص الفلانيل  حدث له شيئ غريب جداً .  هؤلاء الأطفال الذين يمرحون في المروج الخيالية دبت الحياة فيهم. و خيل له بأن أذرعهم و أرجلهم أصبحت مليئة بالدماء و النخاع .العشب اكتسب لوناً طبيعياً و بدأ يتمايل مع الرياح. محادثة غبية تدور بين الزبون و آنسة المستودع ،خليط من الصيحات و الضحكات تنهال عليه من قطعة الفلانيل ، استمر في القطع ، في المكان الذي كان ينوي قطعه بالمقص رأى قدما طفلتان مرحتان . مرتبكاً  غيّر سير المقص قليلاً على أمل أن لا أحد يلاحظ ذلك و قص قطعة، لكن سرعان ماكان عليه أن يتجنب  القص مرة أخرى، رأس طفل يحتفل بفرح و صولجان خرافي أمامه  حين وصل اليه تجنب بالمقص عن ذلك ليقص بشكل متعرج منطقة فيها مروج و بذلك رحم تلك الكائنات الحية التي تلعب. الزبون نظر إلى قطعة القماش و صرخ : انظري يا آنسة هل علي قبول هذا القطع الذي أصبح متعرجاً مثل مزهرية !
خطوط تجاعيد بيضاء خفيفة ارتسمت على ملامح بشرة “آنسة المستودع” الرمادية الهادئة . و بنظرة صارمة أرادت أن توجهه لطريق العودة إلى المستودع. لكن هيلغي سامسون بقي مصراً على البقاء. لكي يراها  وهي تمسك بالمقص و بسرعة البرق تقص تلك القطعة من القماش و تحدث مجزرة لكل هؤلاء الأبرياء.
يا آنسة المستودع ! صرخ سامسون . انتبهي! لا تفعلي ذلك!  لا تفعلي ذلك!
و لأنه الآن و للمرة الأولى بعد اكتشافه أخيراً أعطى لنفسه حرية الدفاع الفعلي ضد  “الشر المتواجد” أمسك بقطعة القماش بيديه الأثنين و رماها بعنف من فوق رأس الزبون و على أرض المحل المتسخ و المتعفن من بقايا الثلج الذائب الذي تحول لونه إلى السواد .
بقي مهووساً و لكن هادئا بعض الشي رأى الزبون ذي الأصابع البيضاء يتمسك مرتجفاً  بطرف الطاولة كي لا يسقط بطوله، و  وجه “آنسة المستودع”بدا أزرقاً غامقاً و من ثم تحول إلى أحمر داكن، و الصراخ يصدر من كل مكان، يرى المدير مومس و المحاسب كلانكس قادمان لانقاذ الموقف و حينها تم طرده من العمل لثلاث مرات حسب الآداب والقواعد المحلية المعمول بها . أولاً  كان المدير مومس حيث سماه : “خنزير” و ثانياً المحاسب :” نذل” و ثالثاً  آنسة المستودع : فظيع. المعطف و القبعة و القفازات رميت بالتسلسل نفسه من خلفه بعد ذلك. قارع الأجراس المبتسم الذي كان في طريقه الى الداخل توقف و حاول ازاله الغبار عن سامسون رغم اعتراضه. 
منبوذاً تماماً الآن لأنه أختار أن يدافع عن نفسه لمواجهة الشر المتواجد و لكن بكل وضوح كان هو الأضعف،انطلق من هناك الى المحطة.
كل السفن احترقت ، و الآن عليه أن يجد مخرجاً مناسباً  من كل هذا . الأكثر راحة كان أن يختنق تحت بالات الأقمشة ، مع الآسف الآن قد انتهت تلك الامكانية. و تأسف لأنه لم يستخدم ذلك حين كانت الفرصة متاحة له.
عليه أن يحتفظ بكل ذلك في ذاكرته الآن حين توقف القطار في المحطة القريبة من منزله و نزل منها على الرصيف الربيعي المبلل، هناك كان الثلج قد ذاب للتو  و صوت تكسر بقايا المياه المتجمدة تسمع و هي تتفتت من تحت الأقدام ، أولاد صغار بأحذية مطاطية صفراء يتراكضون و يطاردون بعضهم البعض، بعض المسافرين ينزلون من القطار. بعض الطيور تغرد من فوق الأشجار المبللة في حديقة المحطة .وبالطبع كان جواً يمكن التأقلم معه بسهولة لو أن هناك امكانية التعافي من هذا الوضع الغير واقعي . قطار شحن طويل يسير في الوقت نفسه الذي “هيلغي سامسون” و آخرين ممن نزلوا معه من القطار ليعبروا السكة إلى الطرف الآخر أمام بناء المحطة. طبعاً عليهم الانتظار حتى يعبر القطار   حينها جاءت تلك العربات الحمراء و هي تنزلق على السكة و حينها توقف القطار فجأة أمام الرصيف. توقف تماماً و أطراف العربات الحمراء تلمع في ضوء الشمس. قطار شحن حمراء كبير واقف تماماً أمام هيلغي سامسون ، و حين يرفع نظره  و ينتبه الى بعض التعرجات المرسومة بلون أحمر داكن بين القسم العلوي من العربة و السقف، و كأن طعنة تصيب رأسه مع التفكير بغزارة كل ما يجول من حوله. السماء عالية وصوت تساقط قطرات الماء تسمع من جميع الأشجار ومن المزاريب ومن أسقف العربات. أصوات مبهجة تسمع . من بين العتبات ربما بعض قطع الجليد في طريقها الى التفتت و حتى روائح الزيوت و الدخان الذي يدخل الأنوف توشي من خلال رطوبته الحادة بحلول الربيع . ذلك الوسط من الجانب المبتهج و الأصوات المرحة العالية أضاف إلى فزعه من العربات الحمر عمقاً نادراً ، انتبه إلى كم هو غريب بين هؤلاء الذين لا يعلمون شيئاً، مذعوراً و مندهشاً من شعوره الوحيد بتواجد احساس الشر هذا. بدأ بالركض في اتجاه قطار الشحن يصطدم بالطبع ببعض هؤلاء المنتظرين ، صيحات غاضبة تصرخ من خلفه و فجأة يتعثر بعكاز رجل عجوز  بدين و يسقط على الرصيف الرطب . و لكن دون أن يعير العجوز أي انتباه لذلك استمر في ثرثرته مع بقية أصحابه، بناء المعمودية و الكنيسة تلمعان في ضوء الشمس و هو يضرب ضاحكاً بالعكاز ثلاث ضربات على  أطراف عربة القطار و كأنه يريد من القطار أن يتحرك . بعيون كبيرة واسعة يرى “هيلغي سامسون” الضربات تنصب بعنف في مثلث الشر !
ذلك و في لمحة بارقة اكتشف الآن المخرج الوحيد ، يجب أن نفهمه بأنه دائماً  في وحدته. محاصراً نفسه في زاوية حتى عندما تكون المساحات الواسعة فارغة. دائماً يجبر على الانحناء لهؤلاء الذين يتظاهرون بالصلابة. خيل له و أنه وللمرة الأولى بأنه و من خلال اكتشافه الغريب قد عرف و للمرة الأولى كيف يستقيم بوضعه. النابض المضغوط في داخله يجب أن يرد ويقاوم .  لكن لاينتظر ممن تعود أن يكون السندان أن يلعب فجأة دور المطرقة.
يترك الرصيف الطويل المزعج و يركض للمرة الأولى في حياته بدون أن يتقيد باشارة “ممنوع العبور “. خلف قطار الشحن إلى وسط حديقة السكك المشمسة.هناك قاطرة قيادة واقفة على السكة تعلو دخانها و صوت محركها يرتفع و كأن صبره قد نفذ ، فجأة يصفر قطار سريع من خلفه يرتمي إلى الأرض بجانب السكة مغطى بالثلوج و الماء مصدوع من صوت الدولاليب القوي مرمي هناك برهة بعد أن مضى القطار و يستمع الى قرقعة مقصات السكة . بحسد يرى رجال الخطوط الحديدية يعبرون السكة بلامصاعب. لكنه لم يلحق ان يضع قدميه على السكة ،حتى جاء القطار السريع و من تحت عجلاتها تقدح الشرر عند نهاية باحة السكة ، و فقط عندما حل الضباب أزرقاً ناعماً و قلّت مساحة الرؤية تجرأ أن يغتنم الفرصة. قاطرة كادت تقطع قدميه و لكن بركض جنوني أنقذ نفسه الى داخل احدى المخازن الكبيرة  المجاورة لمنطقة السكة. هناك في الداخل هدوء و صمت ، الجرذان تقرض في الأعمدة الخشبية  و في عربات الشحن الفارغة و الضجيج المربك حين يمر قطار على السكة المجاورة للمخزن هذا كل ما يسمع. تجول هناك في المعبر الفاقد للترتيب برهة و صمت تام يعم المكان حين يمشي و لكن بمجرد ان يتوقف ليلتقط انفاسه تبدأ الجردان بالقرض والحركة ، و كأن المطر يهطل على حقل من اللفت الأصفر.  وهكذا يصطدم قدمه ببرميل ، يضيئ في داخلها بعود كبريت و يدخل اصبعه في داخله ، يرفع اصبعه و يضي عليه يلاحظ قطرات حمراء داكنة اللون تتساقط منه و تعود  الى اسفل البرميل المظلم. احدهم قادم من الخارج يدير  قاطع الكهرباء ثم يعود أدراجه بدون أن يكتشف وجود هيلغي سامسون. حينها فهم بأنه لن يبقى لوحده مدة طويلة . سريعاً يخلع معطفه يطويه على شكل حزمة و يغطسه في داخل البرميل . الريح ينفذ الى داخل المخزن و المصابيح  المعلقة بالأسلاك الطويلة تتمايل ذهاباً و اياباً و ظلال الخزائن و العربات تتهجم عليه ، تتوقف أحيانا ثم تنطلق مرة أخرى متهافتة عليه.
بالمعطف الأحمر في يديه يركض على المعبر الاسمنتي ومن هناك الى عربة الشحن الأولى .القطرات تتساقط على الاسمنت ببطء مثل قناع أحمر بأطراف رمادية من خلفه و على بطنه ، آه سوف أعطيهم اشارة ، اشارة كبيرة تلقي بآرواحهم العمياء في مشهد رعب محموم. في طرف العربة قبالة بوابة  المخزن  رسم بالمعطف بدل الريشة صليباً غامقا أحمر ،أذرعه شبيهة باخطبوط يحتضن العالم . ثم يستلقي في الظل خلف البرميل و يسمع الجميع قادمين. قريباً سوف يصيح أحدهم، السلام سوف يتحطم في حضن الصليب الاخطبوطي، أكثر فاكثر سوف يصابون بالعدوى ، مثل الوباء سوف يتفشى الذعر في كل الناس الذين في المخزن .  و هكذا حصل ما كان يخشاه و لكن لا يستطيع الافصاح : وهو  أن لا يحصل شيئاً أبداً!
القطار السريع يشق الظلام في الخارج و يسد منافذ الضوء على المخزن  حين يمر بجانبه. سهام حادة تقطع الفضاء ، هو عن نفسه هدف سهل، رؤوس تلك السهام تنفذ في الألم حتى النخاع، و بالصراخ يجب أن يخرج في النهاية من صمته.
الاشارة، الاشارة، صرخ غاضباً، و لكن فقط باستغراب بطيئ  يراه بعض العاملين بالشحن و هو يركض فيما يستمرون في تعبئة  البرتقال بشكل مستطيل .يركض الى المسار الخامس للسكة -القطار – و الجليد يتكسر طوال الوقت- القطار – من تحت قدميه المذعورين ، وحيداً- القطار، لقد كان وحيداً دائماً  مع – القطار- الخوف ، الندم ، التوتر  الذي يسبق-القطار- ذلك لا يحدث أبداً  أن تعيش – القطار – أن يكون المرء في هذه الوحدة المخيفة – القطار ، القطار، ليس بقادر أن – القطار – القطار- يُعدي الأصحاء ، القطار القطار القطار – بمرضه؟
كل شيئ ، الأفكار ،الخواطر ، العلامات السرية المبهمة، الصرخات الدامية منه هو نفسه تتحول إلى قطع حلزونية تتكسر  في ضوء جليد الليل السريع . على ركبتيه يقع الجرح العميق ، و يضربه  غشاء من الجليد و كل شيء بعد ذلك ينتهي فجأة. 
 
ستيغ داغرمان
1923-1954
فرمز حسين
ستوكهولم
2022-11-02
النص المرفق من مجموعة ستيغ داغرمان القصصية  “ألعاب الليل”
نشرت ترجمة القصة  بموافقة من مالكي حقوق مؤلفات ستيغ داغرمان , ستوكهولم, السويد.
(published with the approval from the Stig Dagerman Estate).
——————— 
حجم القلق العظيم و عدم التآلف مع الوسط المحيط و غياب  الشعور باحساس فرد من بين الجميع جعلت من الوحدة و الانعزالية الملاذ الآمن عند عدد من الكتاب  الذين على الأغلب اشتهرت أعمالهم و سلطت عليها الأضواء بعد رحيلهم  لتبلغ فيما بعد مشارق الأرض و مغاربها.  
 ستيغ داغرمان يتابع نهجاً كافكاوياً مع هوس بطل  قصته في العربات الحمراء و كأنه في  وحدته ،بؤسه ، خوفه ، قلقه و سوداويته يندمج مع ثلاثية العزلة في روايات كافكا :القلعة ، أمريكا، المحاكمة.
فرمز حسين

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…